كانت الهواتف والرسائل البريدية ، وسيلتي التواصل الوحيدتين مع الأهل والأصدقاء في سوريا .. فالشبكة الهاتفية ليست منجزة ولا كافية لتلقي اتصالاتنا في معظم البيوت والأماكن .. والاتصال صعب ، وإن حصل ، فإن جودة الصوت رديئة ، ولا يمكن لهذا الاتصال أن يتحمل أو يتسع لفيض العواطف والأحاسيس النابضة ، بعد شهور من المعاناة والغربة ..
لذا ، كانت الرسائل البريدية خير عون ومتسع ، وقد أرسلت أعدادا منها للأصدقاء والأهل ، وتلقيت كثيرا أيضا ، بما فيها بطاقات التهنئة بالمناسبات المختلفة ..
وفي مسكننا المشترك ، كان الأخ مفيد الأكثر قربا مني ، بهدوئه وواقعيته ، كوننا نتقاسم الغرفة ، ونتشارك الطريق إلى المدرسة ، فكان الأكثر تفهما لطبيعة علاقاتي وظروفي ، وهو الذي يفسرها للآخرين حين يفهمونها خطأ ..
بينما كان الأخ محمد مينو متأرجحا في قربه وبعده ، لحساسيته الزائدة ، وأنفته المفرطة التي لا تختلف عن الاشمئزاز في كثير من صورها وانفعالاتها ..
وفي المدرسة ، وبالإضافة إلى استمتاعي بنوادر " محمد شريف " ولطفه وأريحيته ، كان " نبيل زيدان " ذا شخصية واضحة ، دمثا ، لبقا ، مكلاما ، كريما ، سريع النكتة والبديهة ..
جنسيته وجيناته لبنانية صرفة ، يتقافز بمهارة على جميع الحبال ، ويتوق لبلوغ التميز ولو كان سرابا ..
لم يتوان في تقديم أي مساعدة أو خدمة لي ، كونه رآني بعينين منشرحتين ودودتين .. فتقرّب مني مفصحا عن تقديره الخاص واحترامه .. وسريعا ، ارتبطنا بصداقة حميمة ، وفتح لي بيته ، وقدمني لزوجته وولديه ..
كان شغوفا باقتناص فرصة وجوده في دبي ، راغبا بإكمال مشاريعه الخاصة في بيروت ، ليعود إليها سريعا .. بينما لم تبد زوجته السيدة ليلى في عجلة من أمرها ، وهي تقوم بالتدريس في إحدى الجامعات الخاصة ..
وامتدت ساحة العلاقات الشخصية ، وتوسعت مع تكرار اللقاءات بالصديق " زياد خليفة " وأبناء عمومته الذين وفدوا على الإمارات لتجارة " السكراب والقطع التبديلية " ، فجمعتنا سهرات ولقاءات ورحلات إلى الشواطئ والحدائق ، قضينا فيها أوقاتا لطيفة ..
وما أن حصلت على " الإقامة " ، حتى بدأت بإجراءات الحصول على رخصة قيادة السيارات .. وكانت المهمة شاقة وعسيرة لاختلاف القوانين ونظام الطرق ، ولضرورة التمرس بالقيادة بواسطة مدرب خاص ، يساعد على تجاوز الفحوص النظرية والعملية الصعبة ، رغم أني حاصل على رخصة سورية منذ أكثر من عشرين عاما ..
وفي الامتحان الثالث ، اجتزت العقبة بالحصول على الرخصة ، واستلامها في 31/12/1992 ، أي بعد شهرين تقريبا من البداية .. وكان ذلك ـ في منظور الأصدقاء ـ نجاحا فائقا متميزا بالفوز وسرعته ، ويعدونها مساوية ومعادلة بالأهمية " لشهادة الدكتوراه " ، نظرا للصعوبات التي يواجهونها في الحصول عليها .
ومع اقتراب موعد العطلة الانتصافية ، نشطت الاتصالات بمكاتب السفر لحجز التذاكر ، وأدت إلى تقارب " نفعي متبادل " مع الأخ " ماهر عطار " الذي يدير مكتبا للحجز الجوي في مدينة العين ، حيث استدل على عنواني وزارني في البيت بصحبة زوجته وأطفاله ، ففرح بحصولي على الرخصة ، لأتولى قيادة سيارتهم في الطرق التي يجهلها بين الشارقة ودبي في معرض إنجازه لحجوزات مكتبه ، كما سهلت لجميع الزملاء مهمة حجوزاتهم أيضا بواسطته ..
وفي مشوار مشترك لنا إلى سوق " الحمرية " المركزي للخضار والفواكه بدبي ، التقيت ـ للمرة الأولى ـ الزميلتين " دعد وسهير " وكانتا تقيمان في " سكن المدرسات " ، فتقصينا أخبار بعضنا ، وصودف أني أعرف أخت دعد وخالتها " أم أدهم " ، كما أن صديقي محمد نديم فتال شقيق زوج سهير ..
وفوجئت في اليوم التالي باتصال هاتفي في غرفة " المدير الجديد " لمدرستنا ، من الزميلة دعد تطلب مني أن اصطحب معي في رحلة العودة من سوريا ، الابنَ الرضيع لزميلتها سهير ، حيث تركتْه في حضانة أمها ، لعدم تفويت فرصة العمل هنا ..
وأبديت لها استعدادي للقيام بما أستطيع ، على أن تراجع أمُّه الدوائر المختصة لمعرفة المطلوب ، كبداية عملية للتنفيذ ..
عقب انتهاء المحادثة ، لاحظ المدير " عبد الله الحلو " اضطرابي ، فحوقل بعد أن عرف مني فحوى الطلب ، وأثنى على موافقتي " الإنسانية " ، وعرض مساعدته إذا احتاج الأمر ..
أعطتني تفويضا عند الكاتب بالعدل ، يسمح لي باصطحابه معي ، واستكمال إجراءات دخوله إلى الدولة ، كما استصدرت له أمُّه " إذن دخول " من دائرة الإقامة والجنسية ، على أن يتصل بي ذووها في حلب للتنسيق واستلام الطفل " محمد غسان فتال " في دمشق ، حيث مطار الإقلاع بالعودة ، وستنتظرنا بفارغ الصبر في مطار الشارقة ، وعلى أحر من الجمر ..
كان الشوق والعشق قد تكدّسا وتأجّجا طيلة الشهور الماضية التي نأيت بها عنها ، فتم اللقاء بعد الفطام ..
كان المستقبلون يعتقدون أني هائم شوقا لهم فقط ، والحق ، أني هائم بهم أيضا .. لكن هيامي الأول والأخير ، أني في ثنايا أردانها وحنايا أعطافها .. تعبق شوارعها برائحة الشتاء والبرد والليل ، وتتعطر أغصانها اليابسة بالمطر حنوًّا وخفرا ، فتنساب مع الشهيق بردا وسلاما ..
وحالي : " كمن يتشهّى وجهَ مَنْ عشقا " ..
لكن .. هيهات يعود الزمن إلى الوراء ..
كانت هذه المدة هي الأطول التي أغيب فيها عن حلب ..
إنها حلب ـ حلبي أنا ـ سقف بيتي .. شغاف عشقي .. أنيسة كينونتي .. أريج دمي .. نشيج دمعتي ..
مرت أيام الإجازة في حلب ، كنسمةٍ في صيفِ وجداني القائظ ، رغم أننا في أواخر أربعينية الشتاء من عام 1993 ..
ولولا صحبة السفر منها في العودة إلى دمشق ، لاصّاعدت من صدري شهقات الروح وسكراتها وغرغراتها ..
وفي المطار ، تمت الإجراءات ، واصطحبت الطفل " محمد غسان فتال " معي ، وتناوبت الزميلات على رعايته في الطائرة حتى وصولنا مطار الشارقة في ساعة متأخرة من الليل ..
وحين احتضنته أمه ، انبلج صبح جديد في أعماقي ، رافقته رعود هزتني بقوة ، وغالبت إجهاشا كاد يرميني أرضا ..
ولم يكن بوسعي سوى الهروب بعيدا عنهما تفاديا للمزيد ..
أما الآن ، ( فإن استحضار لحظات موجعة من الماضي ، يفاقم الألم أضعافا ، ويوشيه بمزيج من ألوان قاتمة ) ..
(انتهى الفصل الأول )
السبت ـ 20/10/2012
الصورة المرفقة : لـ : محمد غسان فتال ـ في الطائرة السورية باتجاه الشارقة ـ كانون الثاني 1993
التعليقات (0)