مواضيع اليوم

دمشق تودّع صخبها في مشهد الربيع العربي...نقلا عن لوموند دوبلوماتيك

 لشاهد المداوم على تاريخها البعثي الحديث

تشهد سوريا منذ أواسط شهر آذار الماضي، أكبر موجة احتجاجات شعبية في تاريخها المعاصر. وتأتي تلك الاحتجاجات كتفاعل من قبل السوريين مع ربيع الثورات الديمقراطية العربية. دمشق، مربط خيل السياسية والاقتصاد والثقافة والمجتمع السوري، تبدو كوجهٍ مصقول تنعكس عليه كافّة تفاصيل الحدث السوري، وبكل دقائقه.

بالقرب من صخرة "تذكّريني" [1] في أعلى سفح جبل قاسيون، تبدو دمشق كصفحة جغرافية مفتوحة. في ذلك المسطح الجغرافي، تتكاثف كافّة المعاني والإشارات والدلالات التي تعيشها المدينة في هذه الأوقات. حيث بنوعٍ من التعميم، نستطيع القول، أنّ دمشق تتوزّع على شكل ثلاثة حلقات دائرية، تضمّ واحدتها الأخرى. ففي المركز ثمّة دمشق القديمة، أو العثمانية؛ تليها الحلقة الثانية، التي يمكن تسميتها بدمشق عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن المنصرم، أو ما يصحّ أن يدعى بدمشق عهد الديمقراطية البرجوازية؛ أما الحلقة الثالثة التي تجمع بين أفخر أحياء المدينة وأفقرها، فهي الحلقة التي نمت بشكلٍ كثيف في العقود الأربعة الأخيرة، أو الحلقة المعمارية البعثية من المدينة.

دمشق القديمة، حيث تمشي السموات على الأرض حافية وعذراء، كما قال عنها يوماً محمود درويش، تكون بالعادة صاخبة بروّادها من السياح الأجانب والشباب من أبناء الطبقة الوسطى، لكنّها تبدو هذه الأيام على عكس ذلك تماماً. فالحركة السياحية شبه معدومة تقريباً، والظروف الأمنية لم تعد مواتية للشباب الذين كانوا يجيبون حواريها الضيقة حتّى بزوغ الفجر. أعادت تلك الحلقة المركزية بناء طابعها ولغتها المعمارية والاجتماعية في السنوات الأخيرة، بحيث باتت تجمع بين الطبيعة التقليدية للحارة الدمشقية القديمة، وبين الخدمات السياحية والثقافية من مطاعم ومراقص وأندية ومقاهي ومراسم وصالونات أدبية، التي تجذب أيضاً النخب لتمضية الليل. اليوم، تبدو أحياء الجورة وباب توما وباب شرقي وحارة اليهود والحميدية والحريقة وباب سريجة .. إلخ خالية إلاّ من سكانها المحافظين نوعاً ما. كما أنّ الشطر الآخر منها، المتمثل بالأسواق التجارية التقليدية، حيث تتمثّل هوية المدينة التجارية التاريخية، لا تقلّ بلادة عن نظيراتها السكانية تلك. فعدم الاستقرار الأمني، وما يرافقه من تعطيل لشبكة ترابط دمشق مع الساحل والداخل السوري، وخطّي بيروت وعمان، يعطّل الدور التقليدي لتلك الأسواق، وتكاد الكلمة التي لا تنفكّ تتردّد على ألسنة التجّار الشوام، أن تكون صحيحة للمرّة الأولى منذ عقود عدّة: "السوء دآئر يا أبي" [2].

حلقة دمشق الثانية، المتمثّلة بالأحياء المحيطة بـ"المركز"، والمتوزّعة على القصاع والتجارة وشارع بغداد والميسات والزاهرة والفحامة والبرامكة والقسم السهلي من حيّ المزة، لا تماثل نظيرتها المركزيّة من حيث الركود البالغ في الحركة العامّة، لكنّها بالمقابل تبدو أهدأ حركةً من سابق عهدها. فالطراز المعماري والاجتماعي متشابه لدرجة كبيرة في تلك الحلقة، وأغلب سكانّها هم من أبناء الطبقة الوسطى، من ذوي العمل البيروقراطي في دوائر الدولة والقطاع الخاص. هذه الطبقة التي ساء وضعها المادي في السنوات الأخيرة، بسبب تراجع مستوى العائدات المالية لموظّفي الخدمات العامة السوريين، لكنّها بقيت محافظة على قدرٍ كبير من قوّة حضورها، بسبب الارتفاع الهائل لأسعار العقارات في تلك الحلقة السكانية. فالشقة السكنية الواحدة، تضاعف ثمنها نحو عشر مرات خلال العقد الأخير. الغريب في الحدث السوري، أنّ المنتمين إلى أبناء هذه الطبقة، لم يخطوا خطوات نظرائهم التونسيين والمصريين، إذ لم ينخرطوا مطلقاً، إلى الآن على أقل تقدير، في تفاصيل الحدث السوري. فمجمل تلك المناطق لم تشهد تظاهرة احتجاجية واحدة. وهو أمر يعلّل في جانب كبير منه بمستوى حضور الدولة في شبكة العلاقات الوظيفية والمالية التي تشغل ساكني تلك المناطق، بشكلٍ مباشر أو عبر المؤسسات الخاصة التي تدين لها بالولاء؛ خصوصاً وإنّ طبيعة الدولة في سورية وممارستها الاقتصادية، تتداخل بشكلٍ كبير مع وظيفة السلطة. لذا فان أبناء هذا الحلقة المعمارية السكانية يبدون أكثر حذراً في الاشتباك مع عالم السياسية السورية الحادّة اليوم.

الحلقة المعمارية الدمشقية الثالثة، تتمثل بالسوار الواسع للأحياء التي تحيط بالمدينة من كل حدب، وأحياء المهاجرين والمالكي ومشروع دمر ومساكن كفر سوسة ومسبق الصنع ومزة فيلات شرقية وغربية ويعفور وضاحية قدسيا، تتخلّلها شبكة من الأحياء العشوائية مثل الشيخ خالد وركن الدين ووادي المشاريع ومزة جبل وقدسيا والكسوة الغربية والكباس والدويلعة والمخيم والسبينة والحرجلة والحجيرة. وسط هذا الركام المعماري المتمثل بالحلقة الدمشقية الكبرى الثالثة، تسكن كل تباينات العهد البعثي في دمشق.

تبدو التباينات السياسية والاجتماعية والاقتصادية شديدة بين أبناء هذه الحلقة المحيطة بدمشق، تباين متراكم نتج عن تراكم الطبيعة الأحادية وغير العادلة لتوزيع السلطة والثروة والرموز والاعتراف بالأهليّة طوال سنوات حكم البعث.

فالأحياء المنظمة غير العشوائية يغالبها طابع عمراني أنيق، يجمع بين المساحات السكنية الواسعة والفراغات المشجّرة والخدمات العامة المرفّهة؛ بينما تعيش نظيراتها العشوائية في مكبّات عمرانية تجمع بين صغر المساحة وسوء الشروط السكنية الصحية وانعدام التنظيم العمراني وقبح بالغ في المشهد البصري. هذا تباين يحصل ضمن مدينة واحدة، وكما قال الباحث محمد جمال باروت : "حصدت المدن المليونية "ثمار" النموّ، بينما حصدت المدن المئة ألفية الصغيرة "أشواكه" [3]. فكأنّما ثمار المدن المليونية تكاثفت في تلك الأحياء فقط، وبنيت تلك الاحياء العشوائية على هامشها على شكل مدن صغيرة خدمية ملفوظة من بطن الأرض . ما جرى في العشوائيات هو بالضبط نمط «النمو بلا تنمية» الذي تشهده بلدان العالم الثالث، طبعاً من جرّاء اختلال التوزيع الاجتماعي وتمركز الثروة المستمرّ في أيدي قلّة قليلة.

التناقض الجوهري بين الحالين الاقتصاديين لأبناء هجرة واحدة لدمشق، قسّم أبناءها بين الأحياء المرفهة والعشوائيات في الحلقة الثالثة. وقد تحوّل هذا التباين الذي بدأ في العشريّة الأخيرة بالتحل نحو تعارض إيديولوجيّ وثقافي وطبقي، وكان الدافع الأوّل لأن تكون البلاد في حاجة إلى ما يسمّيه الكاتب ياسين الحاج صالح بـ"ثورة ضد الإقطاعيين الجدد" [4] .

ليس الاقتصاد وتوزيع الدخل ومدى تباين الأحياء والمناطق في الحلقة الدمشقية الثالثة هو ما يفصل بينها. فكلّ الحراك البيروقراطي والإداري والسياسيّ الوطني يجري بشكلٍ مركزي في أياد أبناء الأحياء الفارهة المعنية، ويهمّش بشكلٍ فظّ أبناء الأحياء العشوائية التي تحيط بها . فكما إن أبناء الطبقة المركزية من دمشق يبدون وكأنّهم نظموا حياتهم ودورهم السياسي والاجتماعي عبر تفاعل كيميائي مع الوسط السياحي خارج سرب الدولة، وأبناء الحلقة الثانية رضوا بنوعٍ من الاقتدار الاقتصادي والإداري، مقابل الخروج تماما من اللعبة السياسية في البلاد، فإنّ سكان العشوائيات بأعدادهم الكبيرة نسبياً (تقول بعض الإحصاءات غير الرسمية أنّ نسبتهم من سكان دمشق الكبرى تقارب النصف) قد أصبحوا مهمشين بالمطلق في عجلات الاعتراف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي كلّها. وقد كان هذا هو نذير انطلاق الصراع بين هؤلاء المهّمشين المطلقين والمركزيين، على حدّ قولٍ رصين لفولتير في روايته الفلسفية الشهيرة "كانديد" .

وكما إنّ دمشق هي نقطة كثافة سورية الثقافية والاجتماعية والسياسية والمناطقية، فإنّ تلك الأحياء تنام على بيض حبل بكل تلك تنوّعات القوس السوري، ذلك البيض الذي يقارب التفقيس كلما طالت فترة الأزمة السورية واتسعت. فأحياء الحلقة الثالثة، تتفاعل مع الأحداث السورية حسب تطوّراته في المناطق التي هاجر منها أهل هذه الأحياء. إلاّ أن دمشق بحلقتها الثالثة تكاد تقارب نوعاً ما الحارة الدمشقية التقليديّة المغلقة على نفسها وأهلها، ففي حين تبدو الشوارع الكبرى في المدينة شبه خالية في بعض الأوقات، فإنّ الحركة الداخلية تبدو عامرة نوعاً ما مقارنة مع المناطق المفتوحة .

تخبرني صديقتي ونحن نجول في حواري دمشق القديمة: "دمشق منذ زمن بعيد تبدو دون صخب، لكني أظنّه الصخب الحقيقي، أيضاً منذ زمن طويل" ... ينظر كلينا خلفه، ونغرق في زقاقٍ خال إلاّ من كلينا .

 

كاتب صحفيّ
 

[1] صخرة "تذكريني": صخرة شهيرة في أعلى سفح جبل قاسيون المطلّ على مدينة دمشق، وقد نعتت بذلك، للدلالة على انتحار العشاق برمي أنفسهم من عليها .

[2] "السوء دآئر يا أبي": تلفظ بتلك الطريقة حسب اللهجة الشامية، لكن أصلها هو "السوق داقر يا أبي" وتعني أن حركة العمل في السوق معدومة .

[3] للمزيد يمكن قراءة "العقد الأخير في سوريا، جدلية الجمود والإصلاح للباحث محمد جمال باروت"، أبحاث عن سوريا، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.www.dohainstitute.org/

[4] مقالة لياسين الحاج صالح في صحيفة الحياة اللندنية تحت عنوان: "ثورة ضد الإقطاعيين الجدد"، daralhayat.com/ksaarticle/266569

 



التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !