للمخابرات المركزية الأمريكية قدرةٌ عجيبة على معرفها رجالها قبل أن تخشنّ أصواتهم، وتظهر شواربهم، ويبلغوا الحلم، ربما لأنهم سيكونون قادرين في وقت لاحق على حجب أحلام شعوبهم.
عندما يبدأ السباق الأكبر للحيوانات المنوية فلا شك في أن طاغيتهم يكون قد تهيأ قبل الاخصاب بزمن كاف، فلن يمر وقت طويل بعد الشهور التسعة إلا وتكون عيون مُدَرّبة قد التقطته، ثم تأتي الموافقة من فوق .. نعم، سيكون هذا رجلَنا في المستقبل!
صناعة الطاغية تشترك فيها أجهزة الاستخبارات، والقابلية للطغيان، ومشاعر الدونية لدى المستبد، ومساحة واسعة من الكراهية تمد أذرعها في كل مسامات الجسد.
كل الطغاة يظهرون في العامين الأولين لطفاء، خجولين، تقطر من ألسنتهم رقة، وتكاد الدموع تنزلق على الوجه لأي حادث انساني مهما كانت أهميته أو صِغَره.
كان موعد تونس مع طاغية من نوع جديد.في السابع من نوفمبر عام 1987 كانت جهنم تطرق باب تونس الخضراء، لكنها تََخَفّت في صورة كأنها وعد بالجنة، إلى أن تمكن الجنرال من إحكام قبضته على رقاب كل التونسيين.
بعدما أزاح سيده ورئيسه الذي وهن العظم منه، أجرى انتخابات ملفقة كانت نتيجتها، أو نتيجته 99,20%، أي أقل من النسبة التي وضعها صدام حسين وكانت 100%.
آه لو نطقت صناديق الاقتراع في عالمنا العربي لبصقت على النتيجة قبل أن يعلنها وزير الداخلية، بل قبل أن يتوجه الناخبون إلى لجان الانتخابات بوقت طويل.
نتيجة الانتخابات في أي بلد عربي تعني أن الزعيم كان أمام خيارين: إما أن يحكم شعباً ، وإما أن يرعى ماشية، وغالبا ما يختار زعيمُنا المفدّى عصاه ليهش بها علينا، ولضباط أمنه فيها مآرب أخرى!
العالَم الأبيض الحر قرر أن يضع عَصَابة فوق عينيه الجميلتين الزرقاوتين لئلا يؤذيها المشهد الجديد، والجثت المتعفنة في أقبية تحت الأرض، وآلاف من الذين تمت تصفيتهم بقبضة حديدية يراها الزعماء المتحضرون في أوروبا وأمريكا بأنها قيود من حرير.
لا بأس أن يبتسم زعماء العالم الحر عندما تصلهم نتائج الانتخابات التونسية لعامي 1989 و 1994 فهي لا تزيد كثيرا عن 99%، أي أن ديمقراطية رجل الغرب في تونس تفضلت وسمحت، مشكورة، لأقل من 1% من الأحرار الوطنيين أن يعترضوا. هنيئا للضمير الأبيض وهو يغمض عينيه أمام الجحيم الأسود.
صنع التونسيون طاغيتهم الجديد عندما سمحوا لطاغيتهم القديم أن يصبح رئيسا مدى الحياة، وأن تهيمن أخباره وحركاته وتنقلاته ورياضته المفضلة وأحاديثه التي لا تسعفها ذاكرته على حياة التونسيين، ليلا ونهارا، صبحا ومساء، حتى بَدَا مَلك الموت خائفا من الاقتراب من الرئيس مدى الحياة .. الحبيب بورقيبة.
الطاغية يبدأ حُكمه بالعبث في ذاكرة شعبه، وينهي آثار من سبقه، ويلغي أيّ ايجابيات رسخت في أذهان رعيته، ولكن المهم هي صناعة الرجل الجديد.
تماما كما يحدث في الغربة، فالمغترب يقوم بصناعه ماضيه، ثم يتولى عملية تلميعه، وزركشته، وتلوينه، وبعد ذلك يضيف مواقف وطنية وبطولات دون كيخوتية لكي تكتمل ملامح الصورة الجديدة.
أول ما فعله زين العابدين بن علي بعد انقلاب نوفمبر هو محو آثار ماضيه ليتمكن من صناعة الجنرال الذي سيحكم ما بقيّ له من عُمر، لذا اختفت بعد الانقلاب ببضعة أيام كل الشهادات والاثباتات من مدرسة سوسة الثانوية، فالاطلاع على ماضي الرئيس جريمة بكل المقاييس، ومشاهدة أي فترة زمنية سابقة لوصوله للحكم هي تعرية له، وتلصص على أشياء أراد أن يعيد هو صنعها بنفسه، وفي زمن يحدده.
لكن فقدان الذاكرة لا ينسحب على الشعب فقط إنما يصاب به المثقفون والإعلاميون والمؤرخون فالرئيس هو صاحب الحق الوحيد في صناعة ماضيه، فإذا اقترب أي كاتب من الاشارة همساً أو جهرا من مشهد ماضوي يظهر فيه الجنرال فإن أبواب جهنم سيفتحها كلاب الرئيس.
يقول جان بيير توكوا ونيكولا بو في كتاب صديقنا الجنرال زين العابدين بين علي : في عام 1997 نشر ملحق مجلة لو نوفيل آفريكآزي الأسبوعية صورة قديمة للرئيس زين العابدين بن علي وظهر فيها بشعر أبيض أشيب، فماذا حدث؟
قامت السلطات التونسية باتلاف كل أعداد المجلة ومنعت توزيعها، فالجنرال هو الذي يحدد ماضيه، وهو يرفض صورة له قبل أن يصبغ شعر رأسه، وعلى الدولة السمع والطاعة.
رئيس النقابات التونسية السابق، الحبيب عاشور، كتب مذكراته عن أحداث الشغب الدامية عندما كان زين العابدين بن علي رئيسا لجهاز الأمن، ونَجْمَ القمع والقهر والقتل والتعذيب.
لم يذكر الحبيب عاشور أهم رجل في أحداث تلك الفترة، فالرئيس التونسي هو رئيس منذ سقوطه من بطن أمه، بل هو رئيس قبل أن يكون نطفة فعلقة فمضعة.
لم يكن الأمرُ عَصِيّاً على أجهزة صناعة الزعيم الجديد في محو كل آثار الزعيم الأسبق، فأعطى توجيهاته أن تتم ازالة كل تماثيل وصور الحبيب بورقيبة، فالتونسيون كالليبيين والعراقيين سابقا والسوريين والمصريين والأردنيين والمغاربة وغيرهم. العالم كله يبدأ من وصول الزعيم إلى القصر، والدنيا قبل وصوله كانت كئيبة وحزينة والرعية جماعة من الأيتام، ثم أرسلت العناية الإلهية زعيم الدولة ليُخرج الناسَ من الظلمات إلى النور.
والجنرال التونسي كاذب حتى النخاع، ويحمل بين جنبيه قسوة وغلظة وقوة خداع تكفي أن ترهب ألدّ خصومه، وأشدّ أعدائه بأسا وقوة.
قال بن علي أمام أعضاء الحكومة بأن الحبيب عاشور طلب إبعاد الشرطة عن مقر الاتحاد العام للعمال التونسيين، وأنه هدد باغراق تونس بالنار والدم. كان زين العابدين بن علي كاذباً كعادته، وفي السادس والعشرين من يناير 1978 فَتَحَتْ قواتُ الجيش النارَ على المتظاهرين فقتلتْ مئةً منهم. وهنا صعد الجنرال بقوة الحديد والقسوة إلى حيث تتم حماية الرجل الأول أو الانقلاب عليه فيما بعد كما حدث مع الجنرال محمد أوفقير عندما كانت السيارات تجمع جثث الطلاب من شوارع الرباط، فصعد جنرال المغرب لحماية الملك أو الانقلاب عليه فيما بعد .
بعدما صرح الحبيب بورقيبة أنه لا يريد أن يموت قبل أن يجتث الملتحين وعشش الصفيح، فَهَمَ زين العابدين بن علي أن مزيدا من القسوة والتعامل الخشن وتوسيع عمليات التعذيب ضد الاسلاميين هو الذي سيجعله مُقرّبا من الرئيس بورقيبة.
في 28 ابريل 1986 أصبح بن علي وزيرا للداخلية، والقبضة الحديدية للرئيس مدى الحياة .. الحبيب بورقيبة.
ذاكرة الناس كلعبة الشطرنج تُحَرّكها القوى المهيمنة كيفما شاءت، لذا فقد حضر أعضاء في منظمة حقوق الانسان حفلَ منح محمد الناصر وساما تقديرا لجهوده في خدمة الأمن!
ومحمد الناصر هذا يمثل قمة السادية في التعامل مع المعتقلين حتى أنه كان يرغم المساجين على لعق العصا بعد ادخالها في فتحة الشرج كتاب : صديقنا الجنرال زين العابدين بن علي .
تاريخ طويل من القهر والتعذيب والمهانة لف تونس كلها فرائحة الجثث المتعفنة في السجون التونسية تزكم الأنوف، والرئيس التونسي ينتقم من الشعب كله بعدما كان الانتقام مقتصرا على الاسلاميين وحدهم، فالصدام معهم كان حتميا.
بعد أقل من ثمانية عشر عاما من ثورة الياسمين التي أتت بأكثر الطغاة العرب قسوة إلى قصر قرطاج، كانت محكمة ابتدائية في جنيف، في 18 يونيو 2005، تنظر في طلب الناشط التونسي عبد الناصر نايت ليمان فتح تحقيق مع الرئيس زين العابدين بن علي بتهمة التعذيب، وكانت تلك فاتحة أمل لاستدعاء الطغاة كما حدث مع حسين حبري وبينوشيه.
واستبشر المصريون والليبيون خيرا فمحاكمة حسني مبارك ومعمر القذافي على جرائم التعذيب ستكون محاكمات العصر وكل العصور.
بعد أقل من عامين من تولي الجنرال حكم تونس توجه نحو ألف من الأكاديميين والكُتاب والمثقفين وصفوة المجتمع إلى قصر قرطاج لتقديم الولاء للرئيس، وهنا سقطت تونس بين يديه كما تسقط الثمرة الناضجة من شجرة عجوز.
كان القصر هو الذي يحرك الاسلاميين والليبراليين واتحاد العمال ويضع حقوق الانسان فرجل المخابرات زين العابدين بن علي يخطط لمرحلة لاحقة بعد أن يعرف الجميع أن المقصلة أيضا نوع غير رقيق من الديمقراطية، وأن ما يدور داخل السجون والمعتقلات لا يؤثر على ابتسامة الجنرال والمصالحة الوطنية المزيفة.
في 2 ابريل 1989 جرت الانتخابات التشريعية كنصيحة غربية لـ بن علي حتى يحتفظ بصورة حضارية تساعد العالم الغربي أن يدعمه.
وجاءت التوجيهات الرئاسية الاستخباراتية حاسمة: إذا نجحت قوى المعارضة فسيتم تسريح الموظفين الذين أشرفوا على صناديق الاقتراع.
حصلت المعارضة على 18% من الأصوات، وتم الاستفتاء على الرئيس فجاءت النسبة مساوية لما يحصل عليه كل الطغاة. 99,20% لصالح الرئيس، ومن حسن الحظ أن الجن والملائكة والحيوانات والطيور لم تشترك في الاقتراع وإلا أصبح الأمر شاقا على المزورين لصناديق الاستفتاء.
لم يدم شهر العسل طويلا فقد اصطدم الرئيس بحركة النهضة، التي دخلت اللعبة الديمقراطية ظنا منها أن الرقص مع الذئاب قد يجعلها أقل افتراسا، وكان راشد الغنوشي بعد خروجه من السجن قد أعلن بأنه يثق بالله وبالرئيس زين العابدين بن علي.
ثم جاء الصدام مع قوى الطلاب بعد التغييرات في جامعة الزيتونة، واعتقلت قوات الأمن مئات منهم وأرسلتهم إلى الصحراء، واحتفظت بأهم الرؤوس لديها لكي يتعلموا آداب الطاعة في أقبية السجون.
كيف يكون رئيس جهاز القمع سابقا أمينا على الحركة الديمقراطية؟
معذرة، سيدي الذئب، هل لك أن ترعى الغنم ريثما أعود؟
كان الرئيس ينام وتطارده صورة الجزائر، وتهيمن على أحلامه فتتحول إلى كوابيس.
كان يريد أن تكون نتائج الانتخابات التشريعية كنتائج الاستفتاء على رئيس الجمهورية، أي حفنة قليلة من المجانين ترفض في مقابل طاعة عمياء من كل أفراد الشعب.
وجاء الثاني من أغسطس المشؤوم، واجتاحت قوات الطاغية صدام حسين جارتها الصغيرة الكويت، وغدر بالكويتيين الرجل الذي قال في يوم من الأيام عنهم بأنهم الأقرب إليه.
وكانت فرصة للرئيس زين العابدين بن علي، فهو يريد أن ينحاز إلى الأغلبية من أبناء شعبه المخدّرَة بهوس القوة العراقية، ويبحث كنظيره السوداني عمر حسن البشير عن قطعة من الكعكة الكويتية،
وصدر بيان اتحاد الكتاب التونسيين الذي بعث تهنئة للرئيس صدام حسين بعودة الكويت إلى تراب الوطن الطاهر .. العراق!
وتحولت جمهورية الرعب العراقية إلى نموذج يحلم به المثقف التونسي ورئيسه، أما المقابر الجماعية فلم يأت أحد على ذكرها، فربع مليون عراقي قام صدام حسين بتصفيتهم لا يمثلون أمرا جللا أو خَطْباً كبيرا لكي يكترث الجنرال التونسي بهم.
الجنرال التونسي يختلف عن الجنرالات الجزائريين، ففي الجزائر احتاج الأمر في الحرب القذرة إلى مئة ألف قتيل لينتهي الصراع لصالح مافيا الجنرالات، أما في تونس فإن أجهزة القمع كانت قادرة على حسم المعركة لصالح القصر في مقابل عدة مئات من المناهضين قضوا تحت التعذيب في جمهورية الرعب التونسية.
ابتسمت الأم الحنون فرنسا فجنرالها في تونس قضى على الخطر الأخضر وتلك هي الديمقراطية المقبولة غربيا وأمريكيا.
لهذا يعتبر الرئيس جاك شيراك صديقَه ونظيرَه الرئيسَ حسني مبارك حامياً للسلام الغربي في أرض العواصف والأنواء والارهاب ، ولا يهم وجود ثلاثين ألف سجين في معتقلات مبارك لم يُعرض أكثرهم على العدالة للمفارقة فالقانون الفرنسي يطير بجناحين مصريين .
في مارس 1994 أعلن الدكتور منصف المرزوقي رئيس رابطة حقوق الانسان التونسية ترشحه أمام بن علي، ودفع منذ ذلك الوقت ثمنا غاليا تماما كما دفع الدكتور أيمن نور ثمنا باهظا من عمره وصحته لأنه ترشح أمام الرئيس حسني مبارك. الأول قامت سلطات بن علي باتهامه بسرقة سيارة، والثاني بتزوير أصوات وتوكيلات.
في تونس اختطف ثلاثة من رجال الاستخبارات الناشط الدكتور منصف المرزوقي وأعادوه بعد يومين ، وفي مصر قامت أجهزة استخبارات حسني مبارك باختطاف الدكتور عبد الحليم قنديل وأوسعوه ضربا، ونزعوا ملابسه وتركوه عاريا في الصحراء.
كأن الطغاة يتقاسمون نفس الأحلام وشعوبهم تطاردها نفس الكوابيس.
عشرون عاما ستمر قريبا على وجود أعتى أنظمة الارهاب والسادية والوحشية، لكن جنرال تونس في حماية أصدقائه في الغرب والولايات المتحدة، واستثمارات دول الخليج عادت لدعم اقتصاده، وأربعة ملايين سائح طيب يبحثون عن الشمس والبحر والتسوق والاسترخاء أمام الأزرق الكبير، لكنهم لم يسمعوا عن مقابر جماعية في تونس، فعظام الموتى الذين قضوا تحت التعذيب لا تزعج الزوار. والتونسيون يحبسون دموعهم فسوط الرئيس على ظهورهم يلهبها، لكنه يزيد الصمتَ صمتاً.
أوسلو في 12 مارس 2007
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
التعليقات (0)