مواضيع اليوم

دليّل بنت غالب ( إمرأة مرت من هناك ! )

صالح الموسى

2010-01-30 21:23:17

0

                                                                            { دليّل بنت غالب } 1310 - 1395هـ


من اعلام نساء العجمان ..

لم يكن من السهل في ذلك الزمان تَخيّل امرأة شجاعة ومقدامة وصاحبة بأس شديد كما هو الحال بالنسبة لها، بيد أن تلك الصفات سواء كانت موروثة أو مكتسبة هي في أغلب الأحيان من الصفات التي اشتهر بها حفنة من الرجال على مر العصور والأزمنة، فصارت تبدو حكرا على الرجال دون النساء، وأضحت كأنها قاعدة مسلّم بها. ولكن عندما استرجع ذاكرتي للوراء أشعر بالسعادة والسرور التي لا توصف، لسبب بسيط هو أن العناية الإلهية شاءت أن أعيش مرحلة الصبا المبكرة وتحت سقف واحد مع امرأة من هذا الطراز الفريد. بل أدركت الآن بأن دليّل استثناء صارخ لتلك القاعدة والتي تعودنا أن نراها في البعض من الرجال فقط.

هي من آل لزيز الفخذ المعروف في آل معيض من العجمان، شاعرة ولكن للأسف لم يُحفظ من قصائدها إلا النزر اليسير، عندما تكون في الإحساء غالباً ما تجالس وجهاء الرجال من المهتمين بالشعر والأدب أمثال الشيخ صالح الكثير، والشيخ حمد الجبر، والشيخ أحمد بن صالح الموسى، تحدثهم ويعجبون بحديثها ورواياتها للقصص البطولية وحفظها للأشعار الحماسية، تضع عصابة على رأسها وتقول أبيات فيها نبرة حادة من الاعتزاز والتحدي، فغالباً لا يستهويها ما يقوله النساء في ذلك الوقت، فلم تكن تجالسهن إلا فيما ندر.

توفيت أختها شيخة بنت غالب، فعرضت نفسها على زوجها الشيخ عبدالله الغردقة، ليس حباً ورغبةً في الاستمتاع بالزواج، وإنما عطفاً على أبناء أختها ! الأمر الذي يجعل الإنسان يفكر ملياً، كيف تقدم امرأة جميلة وفي مقتبل العمر على الزواج من رجلٍ ليس بهدف الاستمتاع، وإنما لتأدية واجب نبيل. وهل أتاك حديث هذه المرأة ؟ وكيف عاشت صباها في هجرة الصرار في وادي العجمان ؟ في ظروفٍ سياسيةٍ في غاية الصعوبة والتعقيد , بين أناسٍ أشداء محاربين يحملون أرواحهم على أكفّهم، وهذا لا ينفي أنهم أيضا رحماء كرماء ويصلون الرحم. شهدت هذه الفتاة آنذاك مواقف وحوادث جسيمة بالنسبة لها ولقبيلتها العجمان، الذين كانوا يعيشون حالة عداء وحروب طاحنة مع خصومهم من القبائل الأخرى بمن فيهم آل سعود. 

مصرع فهد ابن جلوي وضيدان ال حثلين ..

 ولربما كان الأبرز بينها مصرع أمير العجمان الشيخ ضيدان بن حثلين الشجاع الكريم على يد فهد بن جلوي الأمير القوي. يقول ديكسون في كتابة " عرب الصحراء" نزل فهد بن جلوي في العيينة في مايو من عام 1929 م يرافقه 500 رجل وبعث برسالة إلى ضيدان يعطيه فيها عهد الله وأمان الله، فوافق على مضض وسط معارضة شديدة وتحذيرات من أقرانه وجماعته، مستشهدين بحادثة سابقة له مع نايف بن حميد. مع ذلك قرر الذهاب وأبلغ أصحابه أن يأتوا إليه إذا هو لم يعد قبل منتصف الليل.وبالفعل حدث الذي كان يخشاه أصحابه وما لا تحمد عقباه، وكُبّل ضيدان ورفاقه بالأصفاد التي كانت معدة سلفا! وهبت رياح الغضب في كل أرجاء الوادي، وصاح صائحهم وشقّت النساء جيوبهن وأشعلن النيران التي تطاير لهبها في السماء، ليراه حتى من هو قابع في العيينة! فلقد اقتضت نواميس الصحراء بأن لا يعيش فيها سوى الشجاع القوي. فبرز للمواجهة 1500 من خيرة فرسانهم على رأسهم عبدالله بن مخيال وبزعامة حزام بن فيصل بن فوران، انطلقوا كسيلٍ جارف للانتقام لأميرهم المغدور، ونُفذت العملية بطريقة دراماتيكية، اعتبروها بطولية ومفاجئة، حققت هدفهم وأشفت غليلهم، بعد أن تمكنوا من فهد وأردوه قتيلاً، على يد الفارس عبدالله بن مخيال الذي تمكن منه في لحظة أثناء الاشتباك، فأمسك بعنان فرسه ورماه بين عينيه، وسدد أخرى في قلبه بعد أن سقط أرضاً من على صهوة جوداه. عندها أنشد الشاعر محمد الغالي المري هذا البيت الشهير:


بندق في العيينة حجّ راعيها ¤ طيّرت من فهد في كبد عبدالله


تلك هي رواية ديكسون الأكثر شهرة  وشيوعا، تسعفها  الاثارة والتشويق، ولكنها تبقى رواية قد تتساوى فيها احتمالات الصواب والخطأ، لكونها سُجلت من أفواه أشخاص ينتمون إلى معسكر ضيدان، أيضا  تفتقر الى التسلسل المنطقي الذي ادى الى تطوير الموقف لينتهي بذه النهاية المفجعه. ولكن الذي يشفع لديكسون فيما ذهب إليه، بأنه عايش تلك الفترة والتقى بأشخاص شاركوا في الواقعة من أمثال بن مخيال وغيره. فعلى الرغم من ذلك لا يمكن تأكيد أو نفي حادثة الغدر بشكل قاطع.


أما الرواية الثانية التي أوردها روبيرت ليسي في كتابه " المملكة" تشير إلى أن المباحثات بينهما امتدت إلى ما بعد النهار، فطلب فهد من ضيدان البقاء إلى الغد بغية التوصل الى اتفاق، إلا أن ضيدان اعتذر قائلاً بأنه قد أبلغ أتباعه، بأن يأتوا إليه إن هو لم يعد عند منتصف الليل، فاعتبرها فهد بمثابة تهديداً له، فأمر خدمه بأن يقيدوا ضيدان ورفاقه ويقطُعوا رؤوسهم في حالة مجيء العجمان، وبالفعل جاء العجمان وقُطعت الرؤوس وقُتل فهد في حينها. هذه الرواية أقل إثارةً وتفصيلاً، ولكنها اشتملت على مبررات جوهرية  ربما تفسر الاسباب الكامنه وراء التصعيد الدموي لهذا الحدث، خصوصاً إذا وضعنا إطار المواجهة بين حاكم يرى أن خصمه متمرد يتوجب عليه الانصياع والتخلي عن حمل السلاح على الاقل ضد الدولة. مع ذلك تظل رواية كسائر الروايات، قابلة للأخذ والرد. علماً بأن ليسي لم يعايش الحدث، بل تفصله عنه عقود عديدة. كما لا أريد إقحام القارئ في متاهات الاحتمالات، بل أترك له المجال ليبقى باب الاستكمال مفتوحاً.


زادت تداعيات هذه الكارثة من الموقف صعوبةً وتعقيداً،فخصومهم ليسوا مجرد قبيلة أو عائلة، بل حكّام أولي بأسٍ شديد جاسوا خلال الديار، وعاشوا حالات من الانتكاسات والفزع على مر قرنين من الزمان، وانتقموا لأنفسهم ولو بعد حين . لم يستطيعوا الإمساك بـعبدالله بن مخيال الذي بقي مطاردا بين العراق والكويت، بل تمكنوا من قتل أبيه . أما عبدالله بن مخيال  نفسه فلقد قابلته وأنا شاب في سن المراهقة وهو قد ناهز الثمانين في الكويت، كان رجلاً أبيضا طويلا نحيلا له لحية بيضاء ناعمة، ويلبس نظارة طبية لها إطار أسود، كان اللقاء في بيت ابن أخيه عيد بن مخيال الذي كان متزوجاً من نورة بنت أحمد بن صالح الموسى. يُذكر أن ابن مخيال إبان حرب الكويت لم يغادر بيته، بل بقيت ديوانيته في العباسية مفتوحة طوال مدة الحرب، يستقبل الناس ويقري الضيوف بمن فيهم العراقيين ! وقد توفي - رحمه الله - في عام 94 م وقد تجاوز المائة عام .


أما بطلتنا دليّل فكانت تشاهد وتتابع كل ما يدور وتتشرب هذه المواقف، حتى صارت جزءاً من تكوينها الشخصي. فمعركة كنزان وحادثة قتل ضيدان كانتا متجذرتين في أعماقها، ولطالما رددت أبيات وقصص جرت خلالهما، أحياناً تجدها تهيجن في طرف حوي البيت وهي ممسكة بالمغزل ( علمي بحيّاني على دور ذا العيد ¤ يومٍ ابو تركي يداوي صوابه ) ربط زمني بين لقاء الاحبة ومصائب الخصوم !  وتقول ايضاً  .. (ياما ذبحنا في اللقاء يوم كنزان ¤ منهم سعد خيال صفرا جموحي) مفردات تجمع بين نشوة الانتصار والتشفي .. وتشتد وتيرة الحماس لديها عندما تقول ..  (تسمع صرير السيف في تواليهم - مثل صرير المحش في عذوق الصرام ) قصائد في مجملها تعكس قسوة المواجهة وحجم الخسائر التي تكبدها الطرف الآخر في معركة كنزان والعيينة.

فمن الأهمية بمكان الإشارة إلى الظروف التي كان يواجهها الطرفان، فالأمير فهد منوط به إيقاف السلب والنهب. أما الشيخ ضيدان فكان أمام خيار صعب، وهو تسليم السلاح في ظل عدم وجود ضمانات كافية تحميه من بقية القبائل، ولربما رأى حينها بأن تجريد جميع القبائل من أسلحتها يبدو أمراً بعيد المنال. فلو نظرنا إلى طبيعة المواجهة في إطارها الزمني، فلم تكن صراع بين فريقين متنافسين على السلطة، بل محاولة مبكرة من دولة ناشئة لإذابة كيان قبيلة لها إرث طويل من النفوذ والسيطرة. ولو تأملنا في شخصية الأمير فهد التي شاع حولها الكثير من اللغط المبالغ فيه، وتمعّنا في رواية ديكسن والتي تميل الى تأكيد حالة الغدر، لوجدنا أن ديكسن نفسه امتدح الأمير فهد ووصفه بأنه كان شجاعاً وطموحاً بما فيه الكفاية . كذلك قصيدة العوني المشهورة تعضّد هذا الرأي الأقرب إلى الواقعية عن تلك الشخصية، حتى لو أخذنا في الاعتبار أن الشاعر كان يلتمس العون من فهد وهو في السجن :


ياركب عوجو روسهن بالشكايم     - مقدار قيمة ساعة يا هل الهيم
خلوا نجايبكم تبوج الخرايم كل     - شي ولا ممشى الرخا والتناسيم
ليما يبين لكم رفيع العلايم           - بيت تعلى الدخن كنه الغيم
بيت به الضرغام حبس العدايم     -  فهد ال عدت الرجال الملازيم
واثنوا سلام عد وبل الغمايم        - لسعود نطاح المقابيل صمصيم
قولوا لهم خدامكم بالهضايم        - ينخى فهد وسعود ما به مثاليم
ينخى هل العوجا كبار والهايم     - موارث الصنديد مروي ظما الهيم
عبدالله اللي فك وسر الجرايم      - عمر هل الدنيا بليا مغاريم
وادعى الضبي للذيب ولف ورايم -  حتى أودع القناص يجفل من الريم

 

دليّل وضيدان ال حثلين ..

 

يُقال أن ضيدان عندما نوى الحج ذات مرة سأل عنها فنما إلى علمه أنها في الإحساء، فترك لها ذلولاً في الصرار، وقال إذا أرادت دليّل الحج فلتلحق بنا ! وهو على يقين تام بأنها قادرة على ذلك وكذلك فعلت. المدهش في الأمر أن أمير العجمان يسأل عن هذه الفتاة عندما قرر الرحيل ! وهذا يدل على علو مكانتها الاجتماعية والقبلية عند قومها.
ركبت المطية وحدها وعلقت البندق بغزال الشداد، والتمر في المزودة والماء في القربة ، أما زادها الحقيقي فهو الإيمان والصبر والتفاؤل. تحث السير ليلاً ونهارا، حتى تمكنت من اللحاق بهم بعد يومين ! قد يشكك البعض في صحة هذه الرواية، ولكن الذي يعرفها عن قرب كما هو الحال بالنسبة لنا، فلن يساوره الشك أبداً. ليتني كنت أستطيع اقتحام أفكارها أثناء تلك الرحلة؟ لأعرف ما الذي دفعها للإقدام على هذه المغامرة المثيرة ؟ والتي ربما يعجز عنها صناديد الرجال، ناهيك عن امرأة وحيدة على ظهر ذلول. أيضاً لا نعلم على وجه الدقة ، خط سيرها أو المكان الذي لحقت بهم فيه . ربما سلكت طريق الكنهري الذي يقع جنوب الصرار مروراً بالعيينة ثم القليّيب وبرقا الفهدا عنها يمين، واستمرت تجاه الجنوب الغربي حتى أصبحت جويات الهمل وأم المصران عنها يمين، مروراً ببحرة الكلاب، ولربما تزودت بالماء من دحل أبو حرملة، فواصلت السير حتى صارت روضة خفيسة عنها يمين والتي ذكرها راكان في قصيدته ( يسقي خفيسة والثمان أرضها سال - مرتع معطّرة السيوف الصقيلة ) وأخيراً معقلا المكان الذي يرجح أنها التقت بهم فيه. فعلى أي حال فتلك الرحلة تحمل في طياتها تحديات ومدلولات عديدة، منها ما يتعلق بمعرفة الطريق المؤدية إلى مكة، والاهتداء بالأنواء والنجوم، وكذلك أماكن آبار المياه المتباعدة على الطريق، ناهيك عن مشاق ومخاطر الطريق والعناية بنفسها وبذلولها. هل كانت ملمة بجميع تلك المهارات؟! إذا كان الجواب نعم وهو الأرجح، فنحن بصدد الحديث عن امرأة ولا كل النساء .

تسير بمفردها في ذلك الطريق الموحش بين الروابي والكثبان الرملية، يلفها السكون والوحدة، صورتها في مخيلتي ... معصوبة الرأس عليها دراعة داكنة منقطة باللون الأحمر، تركب ذلول حمراء عمانية، عليها خرج مطرز بألوان حمراء وصفراء زاهية صنعتها بيدها، تزيّن جوانب الخرج صفّات من المعاني (خيوط من الصوف) تتدلى على كل جانب، وهي ممسكة بخطام المطية بيد وتومئ بعصاها باليد الأخرى وتهيجن بأبيات من تأليفها ( يا راكب من عندنا فوق ضبيان - هيميلعن يقطع بعيد الريادي ) وتردد .. ( يا ونتي ونة حيام معاويد ¤ يسكن لهن زرعن رغابن ترابه) تردد مثل هذه الأبيات بصوت هاتف ورخيم ، ينبعث خلال الظلام الدامس، ويبث روح العزيمة والطمأنينة فيها وفي الذلول! بطبيعة الحال تتوقف للزاد أحيانا ولتأدية فروض الصلاة أحيانا أخرى، وليس من المستبعد أنه كلما سنحت لها الفرصة تصطاد أرنبا أو طائرا أثناء الطريق، وقبل أن يختفي قرص الشمس من وراء الأفق تقوم بتجميع الحطب وتستريح ثم تواصل....

وهذه قصيدة دليل في رثاء الشيخ خميس ابن بطي ابن منصور ال منيخر عندما توفي عام ١٩١٧ نقلا عن ديوان ابن صبحان ( القديم والجديد في الشعر والقيد ):


على وطا الرافعية دفن رجالي   - خميس اللي هل العيرات يتلونه

شيخ شجاع عريب الجد والخالي - يثني وراء التالية والقوم يدرونه

ينطح شبا المقبلة وان جات زرفالي - والرمل واليتاما اليوم يبكونه

ويا ربعنا اللي فقتوا ذرب الافعالي - تكفون إلى رحلتوا لا تخلونه

أخاف يدري بكم شيال الاثقالي    - يدري وروحه في القبر مدفونه

وياعد ياللي قراح مشربه حالي - اليوم ما ينبغي والسحت يردونه

وعسا اللبقى في جملنا حامي التالي - ضيدان ابن خالد شيخ تعرفونه

 

دليّل في الاحساء..

في منتصف الستينيات الميلادية من القرن الماضي كانت تقضي الصيف من كل عام في بيت الوالد، يأتي بها أحد أبناء أخيها فالح أو عماش، فهي لا تشعر بالراحة إلا عندنا على الرغم من وجود الكثير من أقاربها في الإحساء، فهي خالة أم الوالد ( عبدالرحمن عبدالوهاب الموسى) وتحبه منذ أن كان صغيرا، حتى أنها أرادت أن تهب له كامل حصتها من الإرث وهي أراضي في المبرز تعرف بخسارة، إلا أن الوالد كعادته منعه وفاؤه المعهود وحبه وعطفه على إخوانه الذي لا يعرف حدود، وأصر على أن يشرك إخوانه معه ،على الرغم أنها حاولت أن تبره ولكن بطريقة أخرى، وذلك أن تهب حصتها لأخي عبدالله الذي كان حينها طفلاً صغيراً ! لكنه ظل على موقفه .


كانت امرأة جميلة فارعة الطول، ممشوقة القوام، جسمها متناسق وأطرافها مبرومة بشكل ملفت للنظر، تمشي بخطوات متأنية تنم عن ثقة راسخة بالنفس وشهامة عالية، كانت في العقد السابع من عمرها إلا أن ملامح الجمال فيها لم تضمحل مع كرّ السنين ، من خلال فمها المزموم وعينيها المشبعتين بالدهاء وأنفها المرتكز وحاجبيها الهلاليين. تجلس على بساط صغير في الناحية الشرقية من حوي بيتنا القديم في براحة الجبري، ذلك الحوي الذي كنا نراه واسعا مترامي الأطراف، أما بمقاييس اليوم فلربما لا يتجاوز حجم غرفة نوم , أرضيته رملية لم تعرف السجاد أو البلاط قط! بقدر ما عرفت العسو ( عرجون النخيل ) على يد خادمتنا الإحسائية الطيبة، التي كانت تنظفه كل يوم والحمام يتولى التقاط ما لم تراه عيناها المصابة بالعشاء الليلي، وإذا تبقى شيء يكون من نصيب مخلوقات من نوع آخر، تعيش خلف الكواليس في جحور داخل تلك التصدعات التي في أسفل الجدران ! كان الحمام يرفرف في كل أرجاء المنزل، وهديله العذب قبيل المساء يخفف من وحشة تلك الدهاليز المظلمة، آثار زبل الحمام على الأرض والجدران له أشكال مثل الفسيفساء الأندلسية ! يعيش ويتكاثر معنا في الرواشن المطلة على الحوي وعلى بعض الغرف، ونرى صيصانها تطل علينا خلسة برؤوسها البرصاء التي يكسوها زغب خفيف ، وأمام غرفة الحطب يُكب  الشعير للحمام  على خيشة قديمة وبالية . بينما  تجلس دليّل تلف المغزل بيدها ونحن نجتمع حولها لتحكي لنا انتصارات العجمان في غزواتهم على خصومهم، وتردد أبيات فيها نبرة عالية من التحدي، مستشهدة بواقعة العيينة وما صاحبها من أحداث ونحن نستمع الى أعذب الأبيات:


يا الله يا اللي كل خلقه ترجّاه    -   يا خيّر يا عالم بالسراير
افرج لمن حارب النوم ما جاه  -  كنه كسير قاذيته الجباير
وإلا قريص أصفر السم يسعاه  - وإلا أرمد دقّت عليه العواير
خان بعهد الله عسا الرب يمحاه - عساه في دنياه يعطى الحساير
تسابقوهم مثل جربٍ مطلاّه    - يعطون مفهوق ويوفون حضاير
ثم هدّموا بيض الخيام المبنّاه  - هذا مذبوح وهذاك ناير
أنا فدا اللي شينوا زين ممساه -  حطوا على كبده سواة السعاير

 

فن الابداع عند دليّل ..


لقد فتشت ملياً في خبايا تلك الشخصية، وأطلت النظر في مخيلتها في ذهني، حتى خلت أني أراها تجاهي، محاولا الإحاطة بما تجود به من خصال ومناقب متعددة، وأدركت بما لا يجعل مجالاً للشك، بأنها لم تكن مجرد امرأة شجاعة وشاعرة فحسب، وإن اتفقنا جميعاً على علو ومكانة هذه الفضائل . فمن الواضح أننا كلما أوغلنا في شخصيتها اتسعت بنا جنباتها أكثر فأكثر. لذا يحلو لي الآن وأنا في سعة من أمري، أن أسجل اعترافي بأن نظرتي حول شخصيتها كانت متراخية بل وقاصرة إلى حدٍ كبير، خصوصاً في المراحل الأولى من كتاباتي عنها، فمن المحتمل أنني وقعت في فخ الغفلة عن جانب مضيء في تكوينها بدون قصد مني، جانب يتعلق بالإبداع والإتقان في إنتاج الأعمال. فلقد عُرفت هذه المرأة من بين الناس بمهارتها في غزل الصوف وعمل المنسوجات، بل إن "نسج دليّل" كان يعتبر أشبه بعلامة للجودة آنذاك.كانت امرأة منتجة لديها حرص تلقائي على الوقت، فلم تكن تدع مجالاً للفراغ أن يتسلل إليها، على الرغم من السنين المتراكمة على كاهلها، فلم يكن المغزل يفارق كفّيها أبداً. كما كانت تتقن صناعة الخروج والمعاني الجميلة والمزركشة. شاهدتها على صغر وهي تمد خيوط الصوف في حوي بيتنا القديم، تنسج الفلجان والسواتر والقواطع وهي عبارة عن أجزاء من بيت الشعر، بحيث تشرع في حياكتها كل على حده ، ومن ثم تقوم بتوصيل الأجزاء بعضها ببعض . إن أكثر ما استأثر اهتمامي وأنا أتجول في طيفها المرسوم في ذاكرتي، هو إصرارها على الاعتماد على النفس، فعلى الرغم من كونها امرأة طاعنة في السن فلم تكن تحتاج للرعاية أو المساعدة من أحد، تتدبر شئونها الحياتية بنفسها من دون الاتكال أو الإثقال على الغير . حري بنا جميعاً أن نتأسى بطبائعها وبمنهجها الفعّال والمنتج في الحياة.

 

دليّل  .. لواء اركان حرب !

في أحد الأيام بينما كنا جالسين معها إذ اقتحم البيت علينا (سويده) سالم السويلم الذي كان بيتهم في براحة الجبري وقريب جدا من بيتنا، بابه الخشبي الأشهب المكتوب عليه باليد 175 /5 وضعتها مكافحة الملاريا ، وفوق الكتابة حلقة الباب العالية والتي لا يستطيع الوصول إليها إلا البالغين ! مرصع بشكل أفقي بثلاث صفات متوازية من المسامير البارزة والمدببة. دفع سويده الباب الذي كان موارباً، وكان حينها شابا ضخما أسوداً، جسمه مفصل يشبه عدائي الأولمبياد أو أجسام الملاكمين في هذا الزمن، ربما هذا هو الشيء الوحيد الذي يحسده الناس عليه ! تنتابه أحياناً نوبات من الصرع المفزع ، فيهيج على من حوله فيسوقه القدر لاقتحام أحد البيوت، ومن سوء حظه أن الدور في هذه المرة كان على بيتنا، ولو علم بوجود دليّل وكان لديه ذرة من العقل لما فكّر في هذا الأمر قطعياً!. بمجرد أن رأينا طلعته البهية! والتي تعودنا عليها ، ولكن في البراحة ومن بعيد ، أطلقنا سيقاننا للريح وهربنا إلى السطوح، والنساء دخلن الغرف وأغلقن عليهن الأبواب، بينما هي بقيت في مكانها، فلم يحرك هذا الموقف فيها ساكناً ، ثم قامت وصرخت عليه ونهرته عدة مرات الخلا.. الخلا.. بينما هو تفاجأ ووقف واجماً يحدّق فيها ، ربما لم يتعود أن أحداً يستطيع التصدي له والوقوف في طريقه! وبدأ ينظر إليها بتعجب وهو يتراجع عندما شعر أنها تنوي الانقضاض عليه، ثم سلك الطريق المؤدي إلى الأحواش وطاردته في كل ناحية من المنزل، وتعقبته حتى غادر البيت تماماً. خرج الجميع من مخابئهم وتنفسوا الصعداء، بعد أن تأكدوا أن خطر الغارة الجوية قد زال! بالنسبة لنا يعتبر هذا الموقف بطولياً بجميع المقاييس، أما بالنسبة لها فالأمر بسيط ولا يعدو أن يكون شأناً من شئون المنزل! لم لا ؟ فهذه المرأة كانت تشارك في الغزوات وتنازل الأعداء في ميادين القتال. في تقديري لو أنها التحقت بأحد الجيوش النظامية في هذه الأيام لعينوها قائداً لقوات الصاعقة برتبة لواء أركان حرب .
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !