(9) حصان المساجـين
فى أحد أقسى سجون الأشغال الشاقة على وجه الأرض قررت الإدارة شراء حصان ليساعد فى بعض المهام الخاصة كنقل المؤن والمياه، وكان ضمن السجناء كثيرون ممن يفهمون فى أمور الخيل، أوكلت لهم الإدارة وهم فى الأغلال مهمة اختيار الحصان الأفضل من بين عشرات الخيول التى أخذت تتوافد إلى ساحة المعتقل مع بائعيها، وكان السجناء حول زملائهم خبراء الخيول ينتظرون بفارغ الصبر وصول كل حصان جديد ويستقبلونه بفرح كفرح الأطفال. وبرز من بين الجميع خبيران تُركت لهما المهمة وتجمَّع حول كل منهما حزب من المتحمسين للآراء التى يبديها فى كل حصان يفحصه.
تعالت أصوات الجدل بين الفريقين وكان هناك دائما ميل للتصالح والوصول إلى قرار مشترك. ومن بين ثلاثة خيول وصلت لتصفية السجناء الحماسية النهائية تم اختيار حصان جميل صغير السن قوى البنية، ثم بدأت المساومة على السعر مع صاحب الحصان والتى شارك فيها كل السجناء بالتلويح والتصايح، وطالت المساومة واحتدمت حتى بدأ السجناء يضحكون من أنفسهم ويقول كل منهم للآخر: «كأننا سندفع من جيوبنا». كأننا نريد أن نوفر لخزينة السجن»!
لا لم يكونوا سيدفعون من جيوبهم ولا كانوا يفكرون فى تحقيق وفر لخزينة السجن، «فلماذا إذن يهتم سجين مبهوت ومقهور ولا يجرؤ على رفع صوته فى أبسط الأمور، لماذا يهتم بشراء هذا الحصان أو ذاك كأنما هو يشتريه لنفسه؟» هذا السؤال طرحه دوستويفسكى فى كتابه بالغ الإيلام وسحر التعبير «ذكريات من منزل الأموات»، وأجاب عنه بقوله: «لقد كانوا ممتلئين بسرور عارم لأنهم يستطيعون أن يشتروا حصانا كما يفعل أحرار الناس، فكأنهم يشترون لأنفسهم وكأن ثمن الحصان سيدفعونه من جيوبهم الخاصة»، هذه هى المسألة: أن يختاروا.. أن يتمتعوا بالحق فى الاختيار، فحق الاختيار لا يستمتع به إلا إنسان حر.
هذه الحكاية أهديها بشكل خاص، للواء ممدوح شاهين عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى أبدى انزعاجا من بعض الأصوات التى أعلنت اعتراضها على الإعلان الدستورى أو بعض ما ورد فيه، وهديتى بكل دلالاتها الإنسانية أقدمها بامتنان صادق له ولقادة المجلس العسكرى الأعلى، وقد كان أحد ثلاثة من فرسان هذا المجلس أطلوا علينا لأول مرة، عبر برنامج العاشرة مساء، فهدأت خواطرنا لما لمحناه من استقامتهم الصلبة وصفاء رؤيتهم الوطنية، فبِتُّ والملايين غيرى ممن اكتشفوهم فى هذه الليلة على طمأنينة وتفاؤل رحيبين عقب قلق شديد من غيام الرؤية بعد انزياح نظام مبارك، والذى ما كان ليسقط بكل هذه الدقة دون أن تنهار أنقاضه على رءوس الأمة لولا موقف رجال القوات المسلحة وخطوات قادتها بالغة الذكاء والإحكام والصبر، وهذا ليس بغريب على خير أجناد الأرض الذين أراهم ويراهم غيرى شركاء أصيلين فى صناعة هذه الثورة لا مجرد حماة لها، ففرسان المجلس العسكرى كما سائر ضباط قواتنا المسلحة عندما حسموا قرارهم فى صف الثورة، إنما كانوا يحملون أرواحهم على أكفهم ويختارون الحق أو الشهادة فى مواجهة الباطل.
باطل كان كثيفا ومعتما وأحال وطننا بالفعل وعلى مدى سنين ثقال إلى مدفن للأحياء، فقد كان القهر يُميتَنا يوميا ونحن نرى ثروات أمتنا تنهبها عصابة لصوص على شكل نظام تتمركز فى قلبه أسرة أسكرها الغرور وأعماها الجشع، وبطانة وحاشية وأتباع ومحاسيب ومنتفعون كانوا من أفحش خلق الله طمعا. كنا نُدفَن أحياء كل يوم، ونحن نرى هذه العصابة يزداد تمكنها بالقوة والكذب ونفاق الحزب الفاسد وانحراف المؤسسات وأجهزة الدولة التى اختطفها هذا النظام لتمرير وتبرير وحماية مفاسده، وكنا نتطلع بعيون مطفأة إلى مستقبلنا ومستقبل أولادنا فلا نرى غير أفق كالح أقفرته عصابة جراد بشرى بالغ الصفاقة.
وليت الأمر توقف عند حدود التخريب المادى ونهب مُقدَّرات الأمة، فالأخطر فى رأيى كان التخريب القيمى فى المجتمع وتشويه عقيدة المؤسسات التى بناها الشعب المصرى بجهد أبنائه وتضحيات السنين، وليس أدل على ذلك مما حدث لمؤسسة الشرطة منذ اختطفها النظام الساقط وحتى مؤامرة الفراغ الأمنى الذى لانزال نعانى آثاره ويعانيه معنا شرفاء الشرطة الذين عادوا لمواقعهم وبدأوا يحققون وجودا وانتصارات مهنية احترافية وقانونية تقطع بأن هذه المؤسسة الوطنية بشرفائها وأسويائها تريد أن تزيح عن كاهلها ما جناه عليها النظام الفاسد الساقط، الذى لم يكتف باختطاف الأجهزة الأمنية، فاختطف أيضا أجهزة ومؤسسات التشريع والتقنين والعدالة، فكان له برلمان التزوير وتفصيل القوانين وتعطيل أحكام القضاء التى تقف فى وجه مفاسده، والتى كثيرا ما استبدلها بأحكام معيبة تلائم فاسديه ومفسديه لينطق بها نفر قليل من مثقوبى الضمير.
لقد كانت جريرة أركان وتابعى النظام السابق أفظع كثيرا من مجرد ارتكاب جرائم اقتصادية، لأن جريمتهم الأشنع هى إفساد الحياة السياسية والاجتماعية والأخلاقية للأمة، وما عمليات البلطجة التى تقلقنا الآن وتقلق المجلس العسكرى ووزارة الدكتور شرف، إلا نتاج عمليات الإفساد السياسى التى مارسها النظام السابق على مدى عقود مريرة، بالبلطجة من كل نوع، والكذب الإعلامى، وتزوير الانتخابات، وتلفيق التهم الباطلة لمعارضيه، والتنكيل الجسدى ببعضهم، وتشويه آخرين بأكذب وأحط الوسائل.. فساد شاسع كان حتما يؤدى إلى كثير من الإفساد القيمى فى المجتمع ونشر أساليب العنف والبلطجة.
وليس ببعيد عن كل ما سبق من موبقات إفساد الحياة السياسية والاجتماعية وازدراء القوانين.. تبرز الآن عربدات إجرامية أغرب ما تكون، تتزيا بلبوس دينى وتأويلات لا أنزل الله بها من سلطان، لتسوِّغ ترويع المجتمع بفواحش جنائية لا تسويغ لها بأى قانون دينى أو دنيوى غير أهواء الجنوح فى نفوس مرتكبيها، كقطع أذن مواطن وسحل امرأة وحرق عفش بيتها وتهديد غير المحجبات بماء النار وهدم أضرحة أولياء الله الصالحين، وهى جنايات سنجد ولو خيطا رفيعا يربطها بجرائم الحكم الساقط وتآمراته التى كان ينفذها بلطجيته المنظمون أو المأجورون من ذوى السوابق وجماعات العنف المعادية للمجتمع، وينبغى التعامل مع شرورها كخروقات للقانون لا تهاون فيها، حتى تترسخ هيبة الدولة، الدولة العادلة التى يتوخاها الناس الأسوياء جميعا بعدما حُرموا منها على امتداد عقود.
لقد أبدى مساجين منزل الأموات فى سيبيريا كل الحماس والسعادة وهم يشاركون فى اختيار حصان للسجن لم يكن لهم فيه معرفة ولا حافر، لا لشىء إلا مجرد الإحساس بطعم الحرية، فالحرية قوامها الأول هو حق الاختيار، وهو ما حرمت عصابة الحكم الساقط أمتنا منه فى معظم مناحى الحياة، خاصة السياسية، لهذا ننادى من نحبهم ونقدر عظيم دورهم وثقل أمانة الحكم التى يحملونها فى هذه الفترة الحرجة، ألا يضيقوا بحقنا فى الاختلاف مع بعض اجتهاداتهم دون أن يخل ذلك بتقديرنا لهم، فهناك أمور توجب الاختلاف، لا هواية للاختلاف، ولكن مخافة ترك ثغرة تتسلل منها أعطاب النظام الساقط كالإبقاء على نسبة 50% عمالا وفلاحين فى شرعة الانتخابات والتى ظلت تتيح للنظام الساقط جوقة مصفقين ومنتفعين ومنحرفين لم يعبِّروا أبدا عن العمال والفلاحين بل عبروا عن تبعيتهم الفجة للفساد وصوتوا للتشريعات الفاسدة والتى كانت حتما ضد حقوق العمال والفلاحين. وهذا خوف مشروع لأننا نحلم ببرلمان جديد يكون برلماننا المقبل مجلسا تشريعيا حقيقيا جادا مليئا بالكفاءات والضمائر من كل أطياف الأمة المخلصة للأمل الوليد فى مصر، مصر جديدة.
لقد كان حصان «ذكريات من منزل الأموات» مجرد تشبُّث بوهم الحرية، أما حصان لحظتنا الكائنة بعد ثورة يناير، وبرغم كل ما نعانيه من شوائب وغبار وأنقاض النظام الساقط، فهو حصان حرية تحول من حلم إلى واقع بثمن ليس قليلا وتتوجب على الجميع حراسته ورعايته، فنحن شركاء لا فرقاء، فمهما اختلفنا فى الرأى ودعمْنا هذا الاختلاف بكل وسائل التعبير السلمى والحضارى، يظل الاختلاف فى إطار الائتلاف، وهى صيغة واجبة الأداء، ليس فيما يخص الأمة والمجلس العسكرى الحاكم فقط، بل فيما بين كل قوى النهضة المأمولة على اختلاف مشاربها واجتهاداتها مادام هناك إخلاص لنبالة الأهداف ورصيد من سعة الأفق الإنسانى والنزاهة الشخصية، فليس الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح والمهندس خيرت الشاطر والدكتور خالد عودة وشباب الإخوان، على سبيل المثال لا الحصر، ببعيدين فى إرادة الخير للأمة عن الدكتور محمد غنيم والدكتور البرادعى والدكتور أبوالغار والدكتور عبدالجليل مصطفى وشباب ائتلاف الثورة، على سبيل المثال لا الحصر أيضا.
أعتقد أننا ينبغى أن نفكر بشكل إبداعى يليق بإبداع هذه الثورة والطموح المشروع لإنقاذها وإنقاذ الأمة والنهوض بها، لأن حصاننا الذى يجمح للانطلاق ليس حصانا يوهم بالحرية كحصان المساجين فى معتقل الأشغال الشاقة الرهيب الذى عاش فيه وكتب عنه دوستويفسكى، بل هو حصان أحرار تشاركت فى إطلاقه الأمة، وهو ينادى الآن مخلصيها بأحرِّ الصهيل إلى الائتلاف.. لا الاختلاف.
التعليقات (0)