(8) شـبح المغسلة
أتعجب كثيرا لظاهرة التداعى اللاإرادى التى تحدث فى المخ البشرى، ومنها أننى بينما كنت أصغى لكلمة حسنى مبارك التى بثها من العربية مؤخرا تذكرت هادى، وهادى هو اسم شهرة الرجل الذى تذكرته والذى اكتسبه غالبا من تكرار ترديده للدعاء وهو يهرول محنيا بجسمه الخاوى عريض العظام، يكاد ينكفئ: «يا هااادى. يا هااادى»، يرددها فترن فى فضاء العنبر فى الصباح الباكر وهو يهبط الدرج الحديدى خارجا من البوابة ليلتحق بعمله فى المغسلة، ونسمعها عندما يعود ضمن سرب العائدين من أعمالهم فى ورش ومخبز ومغسلة السجن بعد دخولنا الزنازين عند العصر. وكان أكثر ما لفت نظرى فى هذا الهادى، وأبقاه فى ذاكرتى كل هذه السنين، هو دورانه العجيب فى حلقة مفرغة من مكاتبة السلطات لتفرج عنه لأنه مظلوم ولا يستحق حكم المؤبد الذى صدر ضده. وقد استمر فى هذا الدوران خمسة عشر عاما حتى اللحظة التى رأيته فيها فى السجن وقصدنى لأكتب له رسالة تظلم لوزير العدل، اكتشفت أنها واحدة من آلاف الرسائل التى كتبها له سجناء آخرون ولم تكن الأخيرة بالنسبة لى ولا له، فقد كان يحيا حرفيا على هذه الرسائل التى لا يمضى يوم إلا ويرسل منها واحدة أو أكثر، ويكرس لها وجوده كله، فهو يعمل فى مغسلة السجن المكونة من صف أحواض أسمنتية ضخمة مقبضة تتكوم فيها تلال ثياب السجناء، يظل محنيا على أحد الأحواض ومنقوعا فى مياه الغسيل المعتكرة بالصابون الأسود والصودا الكاوية مما غيَّر هيئة يديه فبدتا كيدى جثة منقوعة فى الفورمالين لسنوات عديدة، كما تغير شكله كله فثبت على صورة مخلوق مثنى على حوض غسيل كئيب أبدى، أما خطو قدميه الحافيتين دوما فقد انطبع بصورة من يمشى على بلاط مغمور بمياه عكرة حتى وهو يسير على الأرض الجافة.
ربما كتبت مائة رسالة لهادى من ذلك النوع الذى يدور فى دائرة تظلُّمه الأليم المفرغة، ولم أكن أستطيع مقاومة بؤس حاله وهو يقصدنى لأكتب له رسالة جديدة، بالرغم من اننى لم أكن كاتب رسائله الوحيد، فقد سبقنى عشرات وتلانى عشرات وواكبنى عشرات، فثمة وسواس غريب عاش به وعاش له، حتى إن كل النقود التى كان يهلك بها فى رطوبة وبلل المغسلة لم يكن يوجهها لشىء إلا لشراء مستمر لورق كتابة وطوابع بريد وأظرف رسائل لا نهاية لها، وعرفت أنه لا يكتفى بإرسال رسالة واحدة يوميا، بل أكثر من رسالة، وكان هذا يؤلمنى جدا، حتى عرفت الحقيقة المرعبة التى قلبت انطباعى الأول عن السجن والمساجين عموما، فهادى البائس التعيس لم يكن غير قاتل بشع، استدرج طفلة واغتصبها ثم قتلها ودفنها فى أرض مهجورة، وظل مفلتا من العقاب حتى قُبض عليه واعترف ودل على مكان القتيلة وحُكم عليه بالإعدام الذى خفف إلى أشغال شاقة لأسباب إجرائية.
بعد أن صدمتنى حقيقة هادى توقفت عن أن أكون أحد كُتاب رسائله، لكنه ظل يعثر على آخرين يكتبون له وبعضهم من السجناء أو العساكر مقابل سيجارة أو سيجارتين لكل رسالة، وكان مستحيلا أن يتوقف فقد كذب على الدنيا حتى صدق كذبته، وتمادت الكذبة حتى صارت جزءا من واقع نفسه الموحشة، ولعل هذه الحالة هى التى جعلتنى أكتشف مدى الخطأ والخطر فى إصدار أحكام عاطفية من الانطباع الأول فى السجون، ففى الأسابيع الأولى يصل إليك انطباع أن ثلاثة أرباع نزلاء السجن أبرياء نالوا أحكاما ظالمة، لكن بعد استقاء الأخبار من مصادر متعددة غير أصحابها، تكتشف أنك تخوض فى مستنقع إجرامى من القتلة واللصوص والمحتالين والمزورين والمُغتصِبين وقطاع الطرق الذين يربط بينهم جميعا نوع من الانحراف النفسى يُسمَّى «سيكوباثى»، له ترجمات عربية غير مستقرة، توقفت أمام إحداها لأول وهلة باستنكار، لكننى بعد ما خبرته من نماذج هذا الجنوح فى السجون والحياة العامة والخاصة، صرت أميل لترجمة المصطلح بتعبير «الصفاقة» الذى كنت استنكره، فالصفاقة كانت العامل المشترك الأفحش فيما مررنا به من عقود نظام الاستبداد والفساد الساقط، وحتى طلوع قناة العربية السعودية علينا بحديث الرئيس المخلوع يوم الأحد الماضى.
تقول إحدى الإحصائيات العلمية التى أميل لتصديقها، أن نسبة الصفيقين أو السيكوباتيين هى 20% من مجمل البشر، وهى تضم طائفة متنوعة من الرجال والنساء، من أدنى المراتب الاجتماعية وحتى قمم العروش وكراسى الحكم ومواقع النجوم. لكننى أضيف إلى ذلك قناعة شخصية مفادها أن كل نفس بشرية من الأنفس التى ألهمها الله فجورها وتقواها، بها شىء من هذا الاستعداد للصفاقة، تنمو بقدر ما تسقيها وتطعمها الأهواء والشرور، وتذبل بقدر ما تحاصرها التطلعات الإنسانية للأسمى والأجمل والأعدل والأنبل. لكن كل نفس بما اكتسبت رهينة، ومتى ما ثبتت الصفاقة وضربت بجذورها فى أعماق أى نفس، صار من شبه المستحيل إصلاحها، وهى مسألة يعرفها جيدا أساتذتى وزملائى من الأطباء النفسيين، فالصفاقة أعيت من يداويها، وكل ما هو ممكن حيالها، أن نتجنب تمكين أشقيائها منا وكف أذاهم عنا وعن الحياة بل ربما عن أنفسهم. وهى حقيقة نفسية بقدر ما هى حقيقة أدبية، اكتشفها قبل علماء النفس عبقرى سبر الأغوار البشرية فيدور دوستويفسكى.
دوستويفسكى الذى قضى عشرة أعوام فى أقسى معتقلات القيصرية بعد أن خُفِّف عليه حكم الإعدام بدعوى تآمره على اغتيال القيصر، يصف هذا الصنف من غلاة الصفاقة نزلاء السجن من حوله فيقول: «لم ألاحظ خلال عدة سنين أى علامة من علامات الندامة، ولا أيسر أثر من آثار الأسف للجريمة المرتكبة، فإن أكثر السجناء كانوا فى قرارة نفوسهم يعتقدون أن من حقهم أن يفعلوا ما يحلو لهم.. ولا شك أن للكبر والغرور والتباهى والتواضع الكاذب شأنا فى ذلك. ومن ذا الذى يستطيع أن يزعم على كل حال أنه سبر قرارة هذه القلوب التى استسلمت للضياع، فوجدوها موصدة دون ضياء؟! إن المجرم الذى تمرد على المجتمع يكره المجتمع ويعد نفسه دائما على حق، فالمجتمع هو المخطئ فى نظره، أما هو فليس بمخطئ».
هذا الكشف الأدبى استبق به دوستويفسكى ما تقوله كتب الطب النفسى وعلم النفس التى بين أيدينا بأكثر من مائة وخمسين عاما، فها هم المسكونون باضطراب الشخصية الصفيقة، أو المعادية للمجتمع، يفسر الأديب العظيم افتقارهم للندامة بكونهم أنانيين متعجرفين يبررون تجاوزاتهم فى حق الآخرين والمجتمع من حولهم بوهم جدارتهم وحقهم فى الاستثناء، مدفوعين بالكِبر والغرور والتباهى، ومستخدِمين فى سُبلهم المعتمة كل ألوان الكذب والمراوغة والعدوانية عند اللزوم، فيقتنصون ما ليس لهم بدعوى استحقاقاتهم كمخلوقات فوق العادة، ومن ثم ينمحى التواضع الصادق فى قلوبهم التى تغدو مظلمة وعليها أقفالها، فلا ندامة.. ولا حياء.
إننى متأكد أن كل المتهمين من مجرمى النظام السابق وعلى رأسهم مبارك لم ولن يعترفوا بجرائمهم، ليس لأنهم لم يرتكبوها، ولا لأنهم يلتمسون النجاة بعدم الاعتراف، بل لأنهم يرون أن كل ما سلبوه هو حق لهم، وطبقا لقوانين تم تفصيلها لتلائم تميزهم عن بشر هذه البلاد، أما ثلاثية سمات الصفاقة من الكذب واللصوصية والعدوان، والتى تبسطها عشرات الصفحات فى كتب علم النفس وتوجزها بلاغة دوستويفسكى فى بضعة أسطر، فهى لم تكن إلا أدوات مشروعة فى عرف الصفاقة تبرر للصفيقين وصولهم إلى غاياتهم الجانحة، وهى الثلاثية نفسها التى ينبئنا بها الحديث عن المنافقين الذين واحدهم «إذا اؤتمن خان، وإذا تحدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»، فالكِبر يفرغ قلوبهم من النور، ويوصدها على فراغ وظلمة.
لقد استمعت لحديث مبارك الأخير العجيب ذاك وأنا فى استغراب مما يمكن أن يصل إليه إنسان أترع قلبه بالصفاقة، فرأيت كذب التمثيل فى النبرة التى عهدناها تكذب وهى تدشن التزوير كانتصارات تاريخية فى انتخابات لم تكن إلا مشينة فاسدة، وتبرر لصوصية اللصوص بأنها «مساعدة للغنى حتى يساعد الفقير» على حد قولٍ مأثورٍ لمبارك نفسه، وتجيز التنكيل بالناس المحتجين على ظلم وفساد نظامه بالسجن والسحل والصعق والقصف والقنص بدعوى الحفاظ على الاستقرار. وأبدا لم يُبد ولن يُبدى ندامة، بل شأن كل سيكوباتى لا يرى أبعد مما تحت قدميه الساعيتين إلى هدف لن يكون غير أنانى وفاسد ومن ثم قصير النظر، لهذا ارتكب مبارك فى حديثه الكذبة التى باتساعها فضحت نفسها، فزعم بعد أن أخفى ما أخفى وغسل ما غسل، بأنه لا يمتلك ما دلَّت عليه دول ومسئولون أجانب كانوا من أصدقاء أمسه، بل كاد يزعم أنه فقير كعامة المصريين!
وفى هذا الحديث السيكوباتى كان البرود هو السمة السائدة فى أدائه، برود متسق تماما مع جنوح قناعات صاحب الحديث، فمادام مقتنعا بأنه لم يجرم، ومادام لم يفعل إلا الصواب الجدير باستثنائية موقعه وعلوِّه على العالمين، فلماذا ينفعل، حتى الانفعال الذى يليق برجل عادى أهينت كرامته كما ادَّعى فى مراوغته وتهديده ووعيده، ولقد كان يخطب بلسان التمثيل وتدريبات خطب المنصة التى عهدنا أكاذيبها التى حطت ببلادنا عبر عقود رديئة، وحطَّت به، إن كان يدرى؟
ملحوظة : كتبت ما سبق صباح الثلاثاء، والآن، صباح الأربعاء، بعد صدور قرار النيابة بحبس مبارك وولديه، أقول: لعله الآن يدرى، ونحن بالقطع ندرى، فلنفرغ من مطاردة الصفاقة، ونُركِّز فى مسعى النهوض والانطلاقة.
ويا هادى. آن الأوان.
التعليقات (0)