ذئـــــــــاب
قد يكون حلما فظيعا له قوة حضور الواقع، أو واقعا غريبا كالحلم، هذا ما لم أحسمه، ولعلى لن أحسمه أبدا، لهذا أحاول تحسس حكايتي هذه من جديد لعلى أتبين فيها حدودا فاصلة. خاصة وأن ذلك الانطباع النهائى مازال يؤرقني، ولعله يؤرق كثيرين إذا ما نقلت إليهم ما بلغنى منذ عرفت بنبأ هجوم الذئاب على القرية. لقد هزتنى الدهشة أكثر من أى أحد لا يعرف حجم الأوهام الرائجة بين الناس عن هذه المخلوقات الحكيمة والزاهدة والمتوحدة إلى درجة الشاعرية، والتى يسمونها بريبة: الذئاب. ذلك لأننى أعرف كم هى نائية بتعفف، وأصيلة التماسك داخل قبائلها، أمومية لحد إنكار الذات أمام الصغار، وتأكل من غنائم معارك نظيفة حقيقية، تخطط لها بإحكام، وتفقد فيها الفرائس وعيها مع أول إطباقة للفكوك فلا تتألم.
ثم هي ـ أي الذئاب- لاتقرب الجيف حتى لو اضطرها الجوع إلى أن تعشب، وإن كانت الشائخة منها يمكن أن تهاجم بلا سبب وهذا يجعلنى أكثر استغرابا.
فلا يعقل، لا يعقل، أن يكون هناك قطيع كامل من الذئاب الشائخة ليهاجم على هذا النحو المسعور الذي حكت عنه الأخبار، والذي لم يثبت فيه أن الذئاب جرت ولو طفلا صغيرا لافتراسه، مما يوحي بأن الهجمة كلها كانت نوعا من الالتياث الذي دفع القطيع نحو القرية والدخول في معركة مع سكانها كبارا وصغارا، بالأنياب في مواجهة الأيادي والسكاكين والفؤوس، ولم يدفعها إلى الفرار في النهاية إلا ظهور البنادق وبدء إطلاق الرصاص.
بخلاف ما أشيع - وهو صحيح- من أن استخدام المبيدات قد قضى على الأرانب البرية وغيرها من حيوانات تعتبر غذاء طبيعيا للذئاب .
كان لدى افتراضي الذي يشبه هاجسا لحوحا، مما دفعني إلى استعارة جهاز من تلك الأجهزة الكاشفة لاستخدامه.
وإن أرجأت التقصي إلى ما بعد استبيان حكايات وانطباعات الناس هناك، خاصة من واجهوا الذئاب بالفعل وأصيبوا أثناء ذلك بجروح مختلفة وتم نقلهم إلى مستشفى البلدة. لم أجد وضوحا في الصورة التي بقيت بذاكرة المصابين، إذ كانوا مروعين مازالوا ولا يمكنهم استعادة أية تفاصيل أكثر من صوت سعار الذئاب وتكشيرهم عن الأنياب التي كانت تعقر بتسارع. بينما تكررت الإشارة إلى التماع العيون، ولفت نظري بعض الشيء تعبير لطفلة صغيرة مصابة بجرح عميق فى ذراعها، إذ قالت إن الذى عقرها هو رجل قبيح له أسنان كبيرة كثيرة، ولم أكن أتصور إلا أن ذلك مجرد تعبير موات من قاموس الطفولة المحدود، لهذا عبرته بسرعة وقتها.
لم يكن هناك شيء يجعلني أبدو مختلفا عن مجموعة الصحفيين الذين هبطوا على القرية لكتابة تقاريرهم الصحفية إذ كانت معي آلة التصوير والمسجل، أما ذلك الجهاز فقد أخفيته في حقيبة الكتف، وبدأت عملية المسح من شاطئ النهر قاطعا القرية التي تتزخنق بيوتها على الشاطئ، ثم أوغلت في حقول القرية وراء البيوت، وأخيرا بلغت الجبل الذي يحدق بالقرية وحقولها على مسافة لا تزيد عن كيلومترين.
لقد واربت فتحة الحقيبة بحيث أتمكن من الإطلال بلمحة على مؤشر الجهاز، وكنت مصغيا بانتباه وأنا أمضي إلى ذلك الصوت الإشاري السيجنال لعله ينبعث في أية لحظة، ولم يكن هناك أي انبعاث للصوت مع مروري بالقرية، ثم الحقول، وحتى سفح الجبل،
لكنني عندما رحت أمر بهذه المغارات الصخرية في بطن الجبل والتي يرجح أنها كهوف تأوي إليها الذئاب وغيرها من حيوانات الصحراء المترامية خلف سلسلة الجبال- بدأ صوت الإشارة ينبعث ثم يتصاعد، يعلو ويتسارع كأنه سيجن.
يا الله، أرعبني هذا الصوت الصغير الذي يشبه زقزقة أبراص لاطية في زوايا غرف حارة، صوت الإشعاع الذي يظهره الجهاز، هيء لي أنني شخص ملعون يأتيه الهاجس فما يلبث حتى يتجسد له، ولم يعد هناك أدنى شك فى أن هذه الكهوف التي تأوي إليها الذئاب بها مواد تجرد الجزيئات المستقرة من إلكتروناتها فتؤينها، تجنها، فهل هي نفايات مشعة تم دفنها سرا في هذه الكهوف، أم أنها مواد أصيلة في تكوين صخور الكهوف؟
سؤالان كبيران يمضيان في طريقين متعارضين تماما، ولم تكن لدي إمكانية للإجابة على أيّ منهما، فاكتفيت - وقد كنت وحدي عند أقدام الجبل وفي وقدة الظهيرة- بإخراج الجهاز ووضعه عند مدخل لأحد الكهوف وتصويره في لقطة مركزة تظهر حركة المؤشر، ثم مضيت للمبيت في إحدى الخيام التي أقامتها إدارة المنطقة للصحفيين وغيرهم، حتى يأتي الصباح، لأستيقظ مبكرا وأرحل في أول قطار يتجه إلى العاصمة.
أي صدفة غريبة، أو قصد مريب، جعلهم يسكنوني في خيمة أكون بها وحدي، فلا يفصل في أمر حيرتي آخر أو آخرون؟ هل كنت أحلم حلما فظيعا أم كنت أصحو على صورة فظيعة؟ لقد رأيت ما يوشك أن يكون رجلا بشعا بأنياب كبيرة وعينين بارقتين، سمعت منه صوت تحرش مسعور، ثم صار الرجل اثنين، فثلاثة، فخمسة، ولم أعد أميز غير حلقة من ذئاب تتأهب للوثوب، وعندما وثبت هي وثبت أنا وإذ بي أصطدم بعمود الخيمة فكانت الخيمة تشتعل بشراهة وتوهج، وكأنها صنعت خصيصا من نسيج سريع الاشتعال، وكان هناك من يمسك بي حتى يمنعني من الاندفاع نحو النار إذ كنت أفكر في إنقاذ أشيائي، خاصة الكاميرا والأفلام التي صورتها وجهاز الجيجر، راحت جذوة مسعورة تضيء ما حولها من ظلمة، وعاودني هاجس الوجوه البشعة، فكنت أرتعش بين أيادي من يمنعونني من الاندفاع نحو النار.. كنت خائفا من الالتفاف والنظر إلى وجوههم.
التعليقات (0)