مواضيع اليوم

دكتور محمد المخزنجى (3 - 100) أم كلثوم والجماعة

الدكتور صديق

2011-06-02 16:58:54

0

(3)أم كلثوم والجماعة
لحظة الإفراج عن المهندس خيرت الشاطر كانت لحظة خاصة جدا عندى، ولقد جلست أمام التليفزيون فى حالة وجدانية شفيفة وأنا أتابع خطوات الإفراج عن محمد حتى وصوله إلى بيته وأولاده، فهو بالنسبة لى محمد، محمد خيرت سعد الشاطر، زميل مدرسة الناصرية الثانوية خلال السنتين اللتين قضيتهما فيها. ومحمد ظل فى ذاكرتى شابا فى السابعة عشرة، نحيفا رقيقا يوشك أن يكون شفافا، مهندما مجتهدا وعضوا ملتزما فى منظمة الشباب، وله ضحكة مميزة ونبرة صوت بها صهلة لطيفة.

برغم أننى كنت مختلفا عنه تماما من حيث المشاغبة الفكرية وغير الفكرية والاهتمام بالرياضة التى كنت بطلا فيها، كان محمد يحمل لى ودَّا فيما أتذكر، ففى فسحة اليوم الدراسى التى كنت أستغلها فى التمرين، كان محمد يقترب منى باسما ويشير لى بيديه اللتين يديرهما حول بعضهما، فقد كان يروق له أن يرانى أؤدى «لفة فى الهوا» (باك ثمرثولت) التى أطير فيها فى الهواء وأدور حول نفسى ثم أهبط واقفا على الأرض. كنت أتذكر ذلك كله، وأبحث عن محمد فى الرجل الشهير الضخم الذى خرج لتوه من السجن، متعبا، يسعل، وتحوط عينيه هالتان داكنتان من تعب السنين وأرق السجن السياسى الذى ذقت بعضه.

برغم تغير هيئة محمد كثيرا، لم يكن صعبا علىَّ أن أتعرف عليه حتى لو لم أكن أعرف أنه هو، صهلة الصوت العابرة، حركة اليد، لحظ العين، والإحساس بشخص يمثل جزءا من صباك، ومع حضوره ينهمر على روحك مطر من ذكريات عذبة عذوبة ذلك العمر العزيز، عمر الصبا. كان كل ذلك يشتملنى وأنا أتابع خطوات محمد الحرة إلى بيته، وكان مؤثرا جدا رؤية بناته وهن يلُذن بدفء حضور الأب فيه، لكن شيئا كان يخدش صفاء اللحظة، ولم يكن هذا الشىء إلا ركاكة «الأناشيد» التى كان بعض الإخوان يستقبلون بها محمد ويزفونه عريسا للحرية التى هى أسمى قيمة إنسانية فطر الله الناس عليها. كانت أناشيد مسطحة الصياغة، رتيبة اللحن، فقيرة الإيقاع، بأصوات مزنوقة بشكل ما. ولم تكن هذه أول مرة تزعج سمعى فيها مثل هذه الأناشيد، فقد حدث ذلك من قبل، وفى المنصورة التى ينتمى إليها كلانا..

كانت نقابة أطباء الدقهلية فى العيد القومى للمحافظة قد دعتنى لتكريم شملنى مع كوكبة من أطباء المنصورة وبعض البارزين فى مجال الخدمة العامة والإعلام، ولم أتردد فى قبول الدعوة برغم عدم تواؤمى مع الاحتفاءات والاحتفالات عموما، لكننى رحبت بالدعوة فقد كان نقيب أطباء الدقهلية هو الدكتور عبدالمنعم عيد، وهو رجل فاضل وخيِّر وبشوش وكان إخصائيا فى جراحة الأنف والأذن والحنجرة بمستشفى المنصورة العام عندما كنت نائبا للأمراض النفسية فى المستشفى نفسه، ثم إن الدكتور عماد شمس الذى وجه لى الدعوة عبر الهاتف، لمست فيه تسامحا جميلا وتقديرا وفهما عميقين للثقافة.

حضرت الاحتفال ومضيت وكتبت من واقع اليومين اللذين قضيتهما فى المنصورة آنذاك، ولم آت على ذكر حفل النقابة، وقد لاحظ ذلك الدكتور عماد الذى عاتبنى بلطف، فأكدت له أنه لو عرف لماذا لم أكتب عن حفل النقابة، لتيقن أننى أكنُّ له وللدكتور عبدالمنعم مودَّة كبيرة منعتنى من ذكر ما نغص علىَّ اعتزازى بهذا التكريم حتى لا أجرح مشاعرهما بما لا يُسألان عنه، فقد لاحظت أن اللافتات التى تزين جدران النقابة أحادية النبرة بشكل صارخ يكاد يعلن أن هذه نقابة أطباء الإخوان لا نقابة كل أطباء الدقهلية بأطيافهم المتعددة والغنية، ثم توقفت أمام لوحة باسم «أعلام الدقهلية» رُسِمت فيها بفنية مضعضعة وجوه عشرات هؤلاء الأعلام والمشاهير، ولم أعثر فى هذه اللوحة عن أثر لأم كلثوم ورياض السنباطى، فاستغربت ودخلت مستغربا قاعة الاحتفال، لأشعر بالانقباض، ويخدش سمعى ذلك الفن الركيك لنوع من «الأناشيد» بأصوات مزنوقة، وعلى إيقاع دفوف رتيبة، وكأن تراث الفن المصرى كان خاليا من ألحان عظيمة ورصينة تليق بالتسامى فى حفل للأطباء فى محافظة شيدت تاريخها العريق بسعة الأفق وجمال التسامح وقبول التعددية وتخريج موجات تلو موجات من رموز السياسة والفكر والأدب والفن الذى حلَّقت فى ذُراه بنت المنصورة، معجزة الهبة الربانية التى استودعها الله فى حنجرتها ورهافة حسها، سيدة الغناء العربى، أم كلثوم.

أم كلثوم التى لم يرها بعض الإخوان جديرة بأن تكون علما من أعلام محافظتها، فغيبوا وجهها وذِكرها، وأضافوا للغياب وجه الموسيقار العبقرى الدقهلاوى رياض السنباطى. كنت متيقنا من أن الدكتور عيد والدكتور شمس لم يكونا مسئولين عن هذا التغييب، لكنها القاعدة الفائزة بالانتخابات والتى حولت النقابة إلى نقابة فصيل له ذوق مغلق فى الفن لا نقابة مهنة تضم أطيافا عديدة بأذواق عديدة، وهذه ليست مصادفة بدليل فرض اختيار تلك الأناشيد ركيكة اللحن والكلمات ومزنوقة أصوات الجوقة والتى كانت بمثابة «دى جيه إخوانجى» عجيب تقصف به مكبرات صوت عملاقة الضجيج والنشاز فى قاعة الاحتفال بنادى الأطباء على نيل المنصورة الجميل!

هذا الإقصاء المُتعمَّد لأم كلثوم ومن يماثلها فى مفهوم الفن الإخوانى، شىء لا يطمئن مثلى وملايين غيرى، من عموم الناس العاديين الذين يعبدون ربهم بلا إعلان ولا استثمار سياسى، ويسبحون بحمده فى كل النعم التى حباهم بها فى هذا الوجود، ومنها نعمة الفن الراقى والجميل الذى يروِّح عن النفوس ويُرهف الأحاسيس والمشاعر، والغناء الطيب الجميل بأصوات عذبة وموهوبة هو قلب هذا الفن الإنسانى، وأم كلثوم علامة عليه ونجمة متألقة فى سمائه.

أم كلثوم هذه لم نسمع قطبا إخوانيا ممن يقودون مسيرة الزحف الإقصائى الآن يوليها ولو لمحة تدل على إنسانيته لا إنسانيتها فهى ليست فى حاجة لمثل هذا الإدلال، وعلى العكس منهم كان الصادق المحترم ورحيب الأفق الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح، الذى أخرجوه من مكتب الإرشاد ربما لإصراره أن يطور نفسه، ويستفتى قلبه ويكون إنسانا لا حجرا أصمَّ فى قلعة تنظيم أو جماعة، وهو أى الدكتور أبوالفتوح، ما عبَّر مرَّة عن خلجة انفتاح وتسامح إلا وأنكروها عليه، من زيارته الحضارية لعميد الرواية العربية نجيب محفوظ، حتى حديثه عن حقوق المواطنة. بل إنه لم ينجُ من وعيد زميل مدرستى ونسمة الصبا البعيد، محمد الشاطر نفسه، الذى تبدَّى بُعيد أيام من الإفراج عنه مجرد قائد حديدى غايته قوة جماعته وطموحه «سيادة العالم»، فكان هينا عليه تهديد أبو الفتوح رفيق رحلته بالحرمان من رحمة الجماعة إن هو أصر على ترشيح نفسه للرئاسة برغم تحمس كثيرين من شباب الإخوان وغير الإخوان له!

لقد طرت فرحا يوم الإفراج عن محمد عندما سمعته فى أول تصريحاته يتكلم عن النهضة وضرورة البدء فى مشروع النهضة المصرى، وقلت بزهو داخلى: ها هو ابن مدرستى وذكرى صبانا العزيز. لكن مشروع النهضة لم يصمد كثيرا أمام تكتيكات الجماعة لقطف ثمرة السلطة التى بدت دانية، وتحول جل الحديث الإخوانى إلى تلويح بالقوة والنفوذ، ومن لا يعجبه حديث هذا القطب الإخوانى أو ذاك فليُرشق بما هو قريب من التكفير على اعتبار أن لديه مشكلة لا مع منهج إخوانى، بل مع كتاب الله نفسه، وهو ما أفلت من تصريحات «الخبير الدستورى» الممتلئ بالزهو والاغترار بما لديه وغير المتواضع أبدا، صبحى صالح، صاحب حديث قطع الأيادى، والذى لا أعرف من أين أتى بشهادات «الفقيه» و«الخبير» الدستورى هذه! ربما من لجنة التعديلات الدستورية التى تجاهلت خبراء دستوريين مصريين عظاما واختارته دونهم بينما هو محام مثل آلاف المحامين فى بلادنا.

أما فى دائرة الدنيا فيقول المرشد الحالى: «إن بستان الإخوان أخرج حزب الحرية والعدالة وقناة 25 يناير، وفى طريقه لإقامة الأندية الرياضية، متعهدا بالمنافسة على الدورى والكأس المصريين، وإقامة فرق مسرحية وأغنيات وأناشيد بعيدة عن الإسفاف».

كلام يبدو مشروعا، لكنه لا يؤسس إلا لبستان استئصالى، بستان للإخوان وحدهم، وأندية إخوانية، ومسرحيات وأغنيات وأناشيد إخوانية، وكأن مصر لم تعش آلاف الأعوام، وتُراكِم طبقات من الأدب والفن الإنسانيين الراقيين! وبدون هذه اللمسة الإنسانية التى يَسعَد بها عموم البشر، والتى تُعَدُّ مؤشر انفتاح إنسانى وتسامح حميد مع الطبيعة البشرية الحميدة، لا أعتقد أن الإخوان إن حكموا سينجزون نهضة علمية واقتصادية وسياسية كنهضة حزب العدالة التركى التى لاحت لى ممكنة فى أول تصريحات محمد خيرت فور خروجه من السجن.

ويا محمد. يا محمد خيرت سعد الشاطر، تذكر أن من فك أسرك وأخرجك من سجن ظالميك، بعد إرادة الله، لم يكن هو الإخوان وحدهم، بل شباب هذه الأمة بكل أطيافها الذين شاء الله أن يكونوا سببا فى انتصار ثورة يناير وإسقاط ظالميك وظالمى أمتنا، وهؤلاء الشباب يحبون غناء وموسيقى ومسرحا ورياضة غير ما يمكن أن يثمرها بستان الإخوان المغلق على ذاته، وبغير هؤلاء جميعا لا أصدق قدرة الجماعة على قيادة أى نهضة حقيقية فى مصر، لا جماعة الإخوان، ولا أى جماعة تستغنى بنفسها، وتستعلى وتستقوى على كل أطياف الأمة لمجرد أن لاحت لها ثمرة السلطة أو التسلط دانية!

لقد شاء رب العالمين أن يكون ثقل مصر السكانى الذى هو مأزقها التاريخى، سببا لنجاتها فى أضخم عملية لإزاحة نظام إجرامى متشعب ومتغلغل وجسيم، وفى وقت قياسى عالمى قدره ثمانية عشر يوما فقط، ولسبب بسيط فى رأيى، هو أن هذه الكتلة السكانية المحبوسة فى حيز الوادى الضيق، كانت قادرة على الدفع بملايين لا قبل لأى سلطة قمعية مدججة بالسلاح أن تهزمها، حتى وهذه الملايين عزلاء ومجردة الأيادى وعارية الصدور. وهذه الكثرة السلمية الغنية بالتعددية والتى هزمت الفظاعة القمعية المسلحة للعصابة التى كانت حاكمة، ينبغى أن تكون درسا لأى فصيل يتصور أنه وحده قادر على حكم مصر والتحكم فيها وفرض نماذجه الخاصة عليها، سواء فى أمور الدين أو الدنيا. وأنا أزعم أن الكثرة من هذه الملايين التى صنعت الثورة، وبينها شباب فى الإخوان، تحب أم كلثوم وأناشيد وابتهالات وألحان غير تلك التى يعتمدها القسم الفنى فى الجماعة ويبشرنا بها «المرشد العام»، فنجزع من زمن ستُفرَض علينا فيه تلك الأناشيد الركيكة، ويُغيَّب عن أسماعنا شدو أم كلثوم!
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !