(2)أملٌ فى الألم
«التشخيص نصف العلاج»، مقولة يرددها الأطباء كثيرا، ويرتفعون بها فى بعض الأحيان إلى مرتبة أن «التشخيص كل العلاج»، فما من شىء يحبط علاجا صحيحا مثل تشخيص غائب أو تشخيص خاطئ. وما من هدية يتلقاها طبيب حائر فى تشخيص مريضه مثل إمساكه بعرَض أو علامة مركزية فى تيه الحالة التى يناظرها، وبرغم أن ذلك عادة ما يرتبط بالألم، فإنه يكون مفرحا ببزوغ الأمل. وهذا ما وصلت إليه أخيرا، ويجعلنى منتعشا كما طبيب وصل إلى تشخيص حالة استعصى عليه تشخيصها لبعض الوقت.
إننى أسمِّى ما تم إنجازه منذ 25 يناير حتى 11 فبراير ثورة، على الرغم من أن مُنظِّرى الثورات يمكن ألا يوافقوننى على ذلك، على اعتبار أن الثورة هى حالة تغيير جذرى للأوضاع، وإمساك بزمام الحكم لإحداث التغيير، وهذا يبدو تبعا لهذه النظرة غير متحقق فى ثورة يناير، لكننى أتصور المسألة من زاوية أخرى، وفى «حالة فهم» مختلفة، لأن ما حدث فى مصر كان مختلِفا بالفعل، ولا يمكن قياسه على «مساطر» ثورات سابقة، وفيه حدث أمر جديد تماما، فأفكار الثورة ونداءاتها كانت فى صدور مجموعة يمثلها الميدان، بينما كانت القيادة والقدرة على تحويل الأفكار والنداءات إلى واقع فى ضمير مجموعة أخرى تمثلها القوات المسلحة. وكانت حالة الإبداع لدى المجموعتين مدهشة، وأعجب ما فيها كان ذلك التواصل بينهما بلا اتصال، وكأنه نوع من «التخاطر» الخارق العجيب بين شقى الحالة الإبداعية المصرية التى تجلت بشكل خاص بين يومى 28 يناير و11 فبراير، وها هو موجز لشىء من تصوُّر هذه الحالة:
عندما أمر حسنى مبارك بنزول الجيش إلى الشارع يوم 28 فبراير بعد انهيار جهازه الأمنى المكون من 120 ألف فرد مدججين بكل وأحدث أسلحة الحرب ضد الأمة ما عدا الطائرات والدبابات، لم يكن يريد من الجيش أن «يطبطب» على المتظاهرين بالطبع، ومع ذلك استقبل المتظاهرون أول مدرعات القوات المسلحة التى ظهرت عند ماسبيرو فى مساء ذلك اليوم باحتفاء وفرح غامرين، برغم أن أى تحليل سياسى نمطى كان كفيلا بجعل هؤلاء المتظاهرين يرتابون، على أقل تقدير، فى ظهور هذه الآليات العسكرية. خاصة وأن جموع المتظاهرين لم يكونوا يعرفون السر الذى بات معروفا الآن، فقادة القوات المسلحة كانوا قد قرروا الانحياز الحاسم لمطالب الشعب «المشروعة»، ومنذ أول لحظة، وكما جاء فى أول إعلان للجيش، وكانت هذه لطمة بالغة الشجاعة وجهها الجيش الوطنى للطاغوت، الذى أتصور أنه تلقاها وأدرك ما وراءها وبات يهجس بسقوطه عندها، فقد تم سحب الذخائر جميعها من الآليات وأسلحة أفراد الجيش الذى نزل إلى الشارع بقرار حاسم: ألا يطلق رصاصة على متظاهر مهما كانت الأسباب. لم يكن المتظاهرون يعرفون ذلك، لكن حس اللحظة الإبداعية جعلهم يتصرفون كمن يدركون السر، ويراهنون عليه بطمأنينة وبيقين.
هذه لمحة من أيام الإبداع تُحدِّد فى تصورى شِقَّىِّ قوى الثورة فى ميدانين بديا منفصلين، لكن التواصل بينهما كان مستمرا بلا اتصال، ومتكاملا بلا تنسيق! فالميدان المدنى الباسل الذى واجه التغريق والتحريق والقنص والدهس لم يكن يصبر ويثابر فقط، بل كان يطور مطالبه ويبلورها من الشعار العام الشاسع «حرية، ديموقراطية، عدالة اجتماعية» إلى الهدف الاستراتيجى «الشعب يريد إسقاط النظام»، ثم الخطوة التكتيكية الفارقة «الشعب يريد إسقاط الرئيس»، وقد كان هذا التطور الحدسى لدى جموع غفيرة بلا قيادة سياسية ولا منظرين فى الاستراتيجية والتكتيك نوعا من الإلهام الإبداعى المدهش، يصوغ نظرية أظنها جديدة فى صناعة الثورات ويمكن تسميتها «نظرية الهرم المقلوب»، فثمة هرم للاستبداد والفساد كان ينهض بأكمله على رأس فرد واحد هو رئيس النظام، ولو ضُربت الرأس لتهاوى الهرم الفاسد كله، وهو ما كان..
بحدس الإبداع التلقائى حدَّدَت مجموعة الأفكار المرابطة فى ميادين الشعب الهدف وثابرت عليه، وعملت مجموعة القيادة والقدرة فى القوات المسلحة ومن منطلق قناعاتها الوطنية ومسئوليتها الإنسانية على تحقيقه دون أى اتصال بالمجموعة الأولى، وكان ذلك فى خطوات عندما نحاول استشفافها، سندرك حالة الإبداع المتكاملة دون تنسيق بين الشعب والجيش فى هذه الثورة، والتى وُلِدت مدنية ديموقراطية فى الميدان، وبارك إطارها ومشروعيتها الجيش، ومن ثم أرى هذا الجيش حارسا للديموقراطية والمدنية فى وطننا، ورقما أخيرا ينبغى أن يحرص على عدم إهداره كل وطنى مخلص وعاقل وبصير.
أما ما حدث بعد ذلك، فكان نشازا مفارقا للإبداع من قوى لا تنتمى أبدا لما تجلى فى هذه الثورة من إبداع، وأعتقد أن القوات المسلحة لم ولن تكون راضية عنه بحكم تكوينها النابذ للطائفية والعصبية والمتلامس بقوة مع حقوق المواطنة المتساوية، انطلاقا من مساواة إخوة السلاح فى العرف العسكرى ذى المنابع المدنية لكل إخوة السلاح.
هى ثورة مبدعة إبداعا خاصا بها، لكنها كما كل ثورة، وكما كل فورة، تليها فترة من الهوج والهرج أو الفتور، وفيها تظهر قوى الهبوط اللا مبدعة، والتى كررت محاولات السطو على هذه الثورة ولاتزال، فى وقائع نشل لجيوب شِقَّى الثورة معا، لأننى الآن موقن أن هذه الظواهر الهابطة التى سارعت تطفو على سطح ما بعد 11 يناير كما غثاء السيل، هى مجافية تماما لأفكار أدمغة مدهشة التطور وعميقة الرؤية فى المجلس العسكرى قُدِّر لى أن أطل على بعضها، ويقطع بأن العسكرية المصرية فارقت تماما عسكرية القرن التاسع عشر وبعض القرن العشرين، وصارت فى قلب العالم الحديث لا بأسلحته وتكتيكاته العسكرية فقط، بل بالأفكار الأكثر رحابة وتقدما إنسانيا، والتى ينبغى أن نستعيد معها الحالة الإبداعية للثورة، الثورة المدنية الديموقراطية.
قد يسأل سائل فى هذا المفرق: وكيف تفسر عوار التعديلات الدستورية التى بدا أنها مفصلة تفصيلا لتأخير البعض وتقديم البعض والإطاحة بالبعض؟ وماذا تقول فى نقائص قانون ممارسة الحياة السياسية التى تهدد بتشريع العودة إلى مساخر انتخابات العهد البائد؟ ثم ماذا تقول فى حالة النكوص الذى تزعق به الهمجيات الخارجة على الأمة من فجاج مظلمة لا يعلم بها إلا الله؟ طائفية وبلطجية وإقصائية ومتعصبة ومن كل لون بغيض؟
وإجابتى عن كل ذلك بشىء من المعرفة والحِس أيضا: أن هذه كلها ليست جريرة المجلس العسكرى، الذى أتصور أنه مصدوم مثلنا فى ظهورها ووقوعها، وإن اختلفت درجة الصدمة باختلاف المواقع، لكنها جريرة، وأوشك أن أقول جريمة، من ائتمنهم المجلس العسكرى من المدنيين لإنجاز التعديلات الدستورية ومحددات الممارسة السياسية القادمة ولم يكونوا على مستوى الأداء الإبداعى لقوى الثورة الوطنية الديموقراطية المدنية الجامعة لا المفرِّقة أوالمُشتِّتة. يضاف إلى ذلك ما نراه من أداء نمطى باهت لوزارة بدت خارجة من إبداع الميدان، لكنها حتى الآن تتراءى أبعد ما تكون عن الإبداع اللازم بشدة لوزارة إنقاذ، لا وزارة تسيير أعمال أو تمشية أحوال، بل هى فى كثير من أدائها المنظور وكثير من شخوصها تسفر عن انتماء لا معقول لبلادة العهد البائد، فى وقت نحن أحوج ما نكون لوزراء فرسان.
الوضع مؤلم، ومن الخطورة أن تطول آلامه، لكننى مع ما أتصور أنه تشخيص لمسببات أو بعض مسببات الألم، أجدنى مثل الأطباء الذين يرون فى الوصول إلى التشخيص نصف العلاج، يحدونى الأمل ولا يتلبَّسنى الإحباط، لأن جناحى الثورة المصرية المبدعة لايزالان هنا وهما قادران على التحليق، وينبغى أن نحرص على التواصل بينهما لما فيه خير هذه الأمة، لا بالتخاطر والحدس كما فى أيام مأثرة الثورة، بل بالمكاشفة والمباشرة والخطاب المبدع المتحضر المسئول، وكما يليق بواجبات التصحيح والتغيير وحلم النهوض المصرى. عندى أمل.
التعليقات (0)