(6) أوتيماى تشوداى إيتا شيماس
كان أيسر لى أن أصل إلى مكان ذلك الحفل الصباحى يوم 19 أبريل الفائت عبر جسر الجامعة إلى المنيل فشارع القصر العينى مباشرة، لكننى فضلت أن أتوجه لهدفى عبر كوبرى قصر النيل مرورا بميدان التحرير، فقد تحول هذا المسار إلى جرعة إنعاش روحى تقول لى ولغيرى من ملايين المصريين: «نعم نستطيع. نعم نستطيع» بعد أن نجحت ثورة 25 يناير بكل قواها الوطنية المتسامية الباسلة المتحضرة فى إزاحة طاغوت مُركَّب من عصابة حكم الاستبداد والفساد الساقط وحزبهم المنحل.
بعد أن أخذت مكانى فى قاعة الحفل، تناولت قطعة الحلوى الصغيرة على الورقة الصغيرة الأنيقة الموضوعة أمامى قبل أن تأتى بفنجان الشاى صبية يابانية فى عمر أولادى، نضرة جميلة فى كيمونو بديع بألوان ربيعية مشرقة. انحنت خفيفا تحيينى على الطريقة اليابانية اللطيفة ثم وضعت أمامى الفنجان برِقَّة وقلت لها ما يتوجب علىَّ أن أقوله بعد أن بادلتها انحناءة التحية: «أوتيماى تشوداى إيتا شيماس»!
«سأشرب الشاى الذى قدمتِه لى»، كان هذا معنى الجملة اليابانية التى حفظتها لأندمج فى طقوس شرب الشاى على الطريقة اليابانية، فحملت الفنجان على يدى اليسرى وسندته بيدى اليمنى وانحنيت شاكرا الصغيرة الجميلة قبل أن تمضى كهبة عطر خفيف لطيف. وقبل أن أحتسى أول رشفة من الفنجان كان علىَّ أن أديره على راحتى اليسرى براحتى اليمنى مرتين حتى تصير رسمة الفنجان فى الجانب الآخر فلا تلامسها الشفاة عند الاحتساء، فالرسمة هى لمسة جمالية ينبغى الحفاظ على نقائها بالتأمل لإضافة متعة الإحساس بالجمال إلى متعة تذوِّق الشاى، فبدون هذا التأمل للجمال تكون طقوس شرب الشاى على الطريقة اليابانية منقوصة!
كان هذا أكثر ما لفت نظرى فى هذه الطقوس، ووهَّج دهشتى، وأعادنى 12700 سنة إلى الوراء، ففى هذا التاريخ السحيق الذى أعقب العصر الجليدى حدث متغيران كانا سببا فى طفرة الأمة اليابانية، أولهما انهمار مطرى غامر أدى إلى وفرة من ثمار أشجار الجوز والكستناء قدَّمت لإنسان الأرخبيل اليابانى الذى كان صيادا وجامعا للثمار رصيدا غذائيا كبيرا، ثم جاء المتغير الثانى مُعزِّزا للمتغير الأول ومتمثلا فى اختراع اليابانيين لصناعة الأوانى الفخارية قبل كل شعوب الدنيا، ولعل هذا يفسر تطور وتفوق ودقة ورقة وجمال الخزف اليابانى حتى الآن.
لقد ظهر الفخار فى أكثر من حضارة بشرية لكن الفخار اليابانى وتبعا لقياسات بالأشعة الكربونية التى لا تكذب لبعض آثار هذا الفخار تمت عام 1960 أثبتت أن الفخار اليابانى عمره يفوق أقدم فخار فى الهلال الخصيب بعدة آلاف من السنين، وحتى الآن لم يتم كسر الرقم العالمى الذى سجله الفخار اليابانى فى أى حضارة أخرى. ولقد ارتبط هذا الفخار منذ مولده بلمسات تزيينية جمالية عديدة ومبتكرة بدحرجة الآنية وهى بعد طرية على خيط تنطبع صورته وتثبت بعد تسوية الفخار فى النار، ولأن كلمة «التعليم بالخيط» فى اللغة اليابانية هى «جومون» (بتعطيش الجيم) فإن الفخار فى اليابان لايزال يتسمى بهذه الكلمة.
اكتشاف أو اختراع الفخار والعناية بصناعته لدى اليابانيين فى العصر الحجرى كان نقلة نوعية قفزت بسكان هذا الأرخبيل خطوات واسعة إلى الأمام، فلأول مرة فى التجربة البشرية أصبح لدى الإنسان أوعية تحتفظ بالماء وهى قابلة للاستخدام بأشكال متعددة، فاستُخدمت فى سلق الطعام وتسخينه مما زاد من استثمار مواد غذائية كان من الصعب شويها دون أن تحترق مثل الخضراوات الورقية والأسماك الصدفية التى صار فتحها سهلا بعد غليها، كما أن ثمارا كانت سامة أو مرة لم تعد كذلك بعد نقعها واستبعاد السم أو المرارة منها كثمار البلوط وكستناء الخيل، وأصبح بالإمكان إطعام الأطفال طعاما مسلوقا طريا مما شدَّ من أعوادهم فى أعمار مبكرة، كما أن المسنين الذين كانوا بمثابة مستودعات الحكمة والخبرة والمعرفة قبل عصور التدوين بآلاف السنين، صار ممكنا الحفاظ على حيويتهم بطعام مطبوخ فى الماء يناسب أفواههم التى تساقطت أسنانها. وبفضل الأوانى الفخارية قفز عدد سكان اليابان من بضعة آلاف إلى ربع مليون فى تلك العصور السحيقة.
تذكرت كل ذلك وأنا أحتسى الشاى فى فنجان الخزف ذى الرسمة الجميلة من جانب واحد مخصص لتأمل الجمال الفنى فى حفل الشاى الذى دعتنى إليه مؤسسة اليابان فى القاهرة، وقد بدأ الحفل فى قاعة أخرى لم تكن مخصصة لشرب الشاى، بل كانت بمثابة بهو استقبال وتعريف بطقوس إعداد وشرب الشاى على الطريقة اليابانية فى فيلم تسجيلى، كما أن جدران البهو كانت مغطاة بصور فاجعة الزلزال والتسونامى وكارثة محطة فوكوشيما الكهرونووية، اللتين كانتا كفيلتين بهدِّ قوى أى أمة أخرى وجعلها تنسى أو تتناسى أى مناسبة لأى احتفال، فلماذا أصر اليابانيون فى القاهرة كما فى غيرها على إقامة هذا الحفل؟!
لقد سألت، وكانت الإجابة هى أن الأمة اليابانية بعد أن ضربها الزلزال والتسونامى والكارثة الإشعاعية، عادوا إلى أفضل ما فى موروثهم الإنسانى، فكان الصبر، والهدوء، وإنكار الذات، والتضحية، والنظام، والعقلانية، وعلى السؤال الشامل الذى صعدته الأمة المكلومة: «والآن ماذا نفعل؟»، كانت الإجابة الشاملة التى أظهرتها وسائل الإعلام والاستطلاعات ومدونات ومواقع الإنترنت اليابانية هى: «لا شىء، سنعمل!».
قالوها وهم يعملون بالفعل، بل يعملون أكثر من الأوقات العادية، وأصروا أن تكون ساعات العمل الزائدة دون مقابل، وخاطر كثيرون منهم بالعمل فى ظروف مهددة للحياة كالعمال والفنيين الخمسين الذين بذلوا جهدا فدائيا فى محاولة تبريد قلب مفاعل فوكوشيما النووى المنفلت. وكانت الشفافية نبراسا هاديا لليقين فى غمار هذا العمل، فلم يكذب مسئول وهو يوالى تقديم التقارير لحظة بلحظة عن تطورات الأحداث وفعاليات مواجهتها، وفى موضوع هذا المفاعل النووى المنكوب الذى كنت أتابع أخباره، لم يُهوِّن أى عالم أو مسئول نووى من حجم الكارثة، ولم يتواروا خلف الكذب المهنى عندما تعيَّن عليهم إعلان وصول أخطار الكارثة إلى المستوى السابع المماثل لكارثة تشيرنوبل.
غادرت حفل الشاى الذى أقامه العاملون فى مؤسسة اليابان وضيوفهم بالجهود الذاتية حتى لايحمِّلوا الميزانية اليابانية يِنَّا واحدا، فقد صارت كل جهود ومقدرات ومدخرات اليابان موجهة للنهوض بالمقاطعات الثمانى المتضررة بعد ضربات الفاجعة والكارثة، ولم يعد لدى شك فى أن هذا البلد الصبور وشعبه المتحضر سيخرجان من المحنة أقوى وأفضل وأجمل، تماما كما خرجوا من محنة الحرب العالمية الثانية التى كانوا ضحايا قنبلتيها النوويتين الأمريكيتين المدمرتين، بل يحملنى يقينى أن الكارثة النووية الأخيرة فى مفاعلات فوكوشيما ستضيف إلى قوى الخير العالمى المناهض لمقامرات المحطات النووية دَفعة كبرى من العبقرية اليابانية التى ستتوجه بجديتها ودقتها ودأبها لتطوير تقنيات باهرة وفاعلة فى مجال استخلاص الطاقة النظيفة الآمنة المتجددة من الشمس والرياح والموج وحرارة قلب الأرض والدفء البشرى، وتسيير مركبات وتشغيل مصانع وميكنة مزارع بهذه الطاقات النبيلة بما يجعل شمس نهضة تقنية أخلاقية جديدة تسطع على العالم.
وعلى ذكر النهضة واليابان، تحضرنى لمحة تاريخية لافتة حدثت عام 1862 عندما قررت اليابان أن ترسل إلى مصر «بعثة الساموراى» التى كانت تطوف ببلدان العالم الناهضة للتعرف على تجارب نهضة هذه البلدان والتأسِّى بها، وكان أن انبهر أعضاء البعثة اليابانية مما شاهدوه فى مصر من تقدم علمى وصناعى وزراعى ومدنى، فقد عرفت مصر آنذاك التلغراف والقطار والحمامات العامة والميادين الشاسعة المنظمة، وقد سجل اليابانيون كل هذا ليستفيد شعبهم والبلاط الإمبراطورى مما كانت تتمتع به مصر ويضعها فى طليعة الأمم الناهضة آنذاك.
قبل رجوعى فى ذلك الصباح متخذا الاتجاه العكسى من ميدان التحرير عبر كوبرى قصر النيل جلست على مقعد أمام مبنى المُجمَّع مُيمِّما وجهى شطر الميدان، وكانت بهجتى الصباحية يشوبها قلق راعش، فتجارب النهضة المصرية المعاصرة الأشهر تكرر إخفاقها لأسباب كان يمكن تحاشيها، وأهمها فيما أتصور كان غياب أو تغييب القاعدة الاجتماعية الواعية القادرة على حماية جنين النهضة وتطوير نمائه، وهو ما يلوح لى مهددا بالتكرار الآن لا قدَّر الله، فبعد الإنجاز الحضارى الباهر لثورة 25 يناير، برزت ملامح للفظاظة والهمجية باتت تتكاثر وتهدد المشروع الديموقراطى النهضوى المأمول قبل أن يبدأ، وبنوع من «الهوجة» اللاعقلانية واللاأخلاقية واللاوطنية فى الحساب النهائى.
هوجة تهتبل فضاء الحرية الذى لا إطار له نتيجة ارتباك الدولة وهشاشة الوضع الأمنى وتغييب العقل النقدى الحر لدى قطاع كبير من أبناء الأمة، فتهدد ليس فقط مشروع النهضة المأمول والواجب والمنقذ من المهالك القريبة والبعيدة، بل تهدد روح الحضارة التى اتسمت بها هذه الثورة بانقلاب مجتمعى همجى شعبوى إما يقود إلى الفوضى أو إلى استبداد جديد بقناع مختلف يذكرنى بمقولة موجزة بليغة مؤداها أن «العنف استبداد»، والعنف ليس ماديا فقط، بل هو معنوى أيضا، وفى مصر ما بعد ثورة 25 يناير يروج منه الآن الكثير بأقنعة شتى تختفى وراءها التعصبات الطائفية والتنظيمية والنرجسية الفردية أيضا.
«ليحفظ الله بلادى» رددتها وأنا أنهض مُسرِّحا بصرى فى رحابة ميدان التحرير، ثم أغمضت عينى لأستعيد صور الاستشهاد والبسالة والنبالة والجمال الوطنى فى مليونيات توافق وائتلاف وتضافر شباب الثورة البديع لأعزى روحى وأقويها، وإذا بطيف شفيف يبزغ فى قلب هذه الصورة المصرية، إنها الصبية اليابانية الجميلة التى فى عمر أولادى وهى تنحنى محيية تقدم لى فنجان الشاى، فأتناوله على راحتى اليسرى مُسندا إياه باليمنى وأنا أبادلها التحية ثم استقيم متطلعا إلى إشراقة وجهها الصبوح مُردِّدا «أوتيماى تشوداى إيتا شيماس». وأفتح عينىَّ فأفاجأ بأن هناك مِن المارة مَن توقف بقربى مستغربا إغماضى وضمة يدىّ أمام صدرى وتكرار انحنائى وترديدى للكلمات الغريبة! فأبتسِم مرتبكا وأسرع فى اتجاه قصر النيل.
التعليقات (0)