مواضيع اليوم

دكتور محمد المخزنجى ( 11- 100) كراسى

الدكتور صديق

2011-06-06 18:45:41

0

محمد المخزنجى.. كراسى (قصص) ــ 1 ــ
كرسى الحارس
فنانة تشكيل الزجاج الملون المرموقة صنعت لزوجها صديقى منحوتة تصور إنسانا مضطجعا وقد وضع ساقا على ساق، بينما رأسه تتوسد يمناه المرتكزة على مرفقه فى شكل مثلث. وكان تعليقها الذى أدهشنى تماما هو أن أحمد زوجها صديقى، لا يعرف الجلوس، فهو إما متمدد أو واقف أكثر الوقت.

وجدت ذلك للوهلة الأولى غريبا ومؤلما، لكننى اكتشفت مذهولا أننى أيضا لا أعرف الجلوس، ولا أطيق جلسة المكتب، وأكتب على لوح وأنا غاطس فى فوتيه وساقاى ممددتان على قماش مشدود لمقعد من مقاعد الصيد أو البلاج الصغيرة.

حتى عندما أوغلت فى الكتابة على الكمبيوتر، مكثت أختار أجهزة محمولة بالغة الخفة، صغيرة تتناسب مع وضعية التمدد نفسها، وهى وضعية أوافر أدواتها بما يشبه الاستنساخ فى كل مكان أذهب إليه. ثم إننى أيضا دون أن أنتبه لذلك من قبل أقضى معظم وقتى إما واقفا أو مضطجعا أو جالسا تلك الجلسة الأقرب إلى التمدد أو الاضطجاع.

وبقليل من الانتباه تبينت أن هناك صديقا مشتركا كان يكرر الحالة نفسها، وبالتقصى ظهر ثان، وثالث، ورابع، ولم يتوقف اكتشافى للظاهرة بين كثيرين من الأصدقاء والمعارف، ثم برقت فى ذهنى ومضة موجعة من بعيد.

فجميعنا ذقنا مرارة السجن السياسى ونحن طلبة فى مقتبل العمر. وكان السجن الذى دخلناه كما سجوننا دائما زنزانات ليس بها غير أبراش من الليف مغطاة بخرق البطاطين الرثة. مجرد أرض مغطاة بالأسفلت ومفروشة بالأبراش، ولا مقعد هناك حيث لا يمكننا إلا الوقوف، أو التمدد، أو الاضطجاع.

والآن أتذكر أن كلا منا، ونحن فى السجن، كان يعبِّر عن شوقه المكتوم للجلوس على مقعد، ولو لثانية أو بضع ثوان، باختلاسات خاطفة من الجلوس على كرسى الحارس الداخلى لبوابة عنبر السجن. لكننا بعد الخروج وتوافر الكراسى كنا دون أن ندرى قد فقدنا قابلية الشعور بالراحة، عند الجلوس على مقعد!

ـ 2 ـ
كرسى عابر
سنوات طويلة وأنا أبحث عن كرسى مريح لأجلس فيه أطول وقت ممكن لإنجاز ما يصعب إنجازه بغير جلسة الكرسى. سنوات طويلة مضت وأنا غير متوائم مع كل الكراسى التى عرضت لى، لكننى بصدفة مترنحة، عثرت على الكرسى الذى يمكن أن أقول عنه إنه أفضل كرسى أحسست فيه بالراحة، بل بالرفاهية حيث الرفاهية فى إحدى تعريفاتها هى «أعظم استرخاء ممكن.

لأكبر عدد ممكن من العضلات»، وهو ما وجدته فى هذا الكرسى حين كنت أدرس وأعيش وأعمل فى كييف، والذى للأسف لم أهنأ به طويلا شأن كل الأشياء الهنيئة فى الحياة، ومضة خاطفة، مجرد ومضة، يعقبها صمت وعتمة، أو اكتشاف لحقيقة وعمق وجود الصمت والعتمة.

فى شارع شرباكوفا كان يقع المسكن الطلابى الضخم ذو الطوابق الخمسة عشر، والذى كنت أسكن أحد استوديوهاته، غرفة تطل على الشارع بنافذة واسعة، ملحق بها حمام صغير ومطبخ منمنم، وردهة أكثر نمنمة، لم يكن مجرد شارع، بل جادة مشجرة كثيفة الأشجار، بوليفار كما يقولون، أشجار كستناء برية فى طوابير طويلة على الرصيفين، وأشجار حور وبتولا فى أشرطة الحدائق الممتدة خلف الرصيفين، وأشجار تفاح ولوز ودلب وبلوط فى حدائق البيوت والحدائق بين البيوت.

شارع فى حديقة كبيرة. وكييف نفسها توصف بأنها مدينة فى حديقة. وفى مثل هذه الحديقة كان طبيعيا أن تكون الأرواح أكثر استرخاء، والنفوس أسرع إلى المداعبة والمرح. كل هذا طبعا فى الربيع والصيف، وحتى فى الخريف الذى يصفونه بالتأنيث «الخريف الذهبية» (زالاتايا أوسن).

أما فى الشتاء الطويل حيث لا شىء غير الثلج ثم الثلج ثم الثلج، ولا لون غير البياض ثم البياض ثم البياض، فلا وداعة ولا مرح ولا ود إلا فيما ندر، فى الشارع الأقرب إلى التجمد. بينما كانت الحياة مختلفة بالتأكيد داخل البيوت المدفأة مركزيا، 20 درجة مئوية للجميع، تقريبا.

فى الربيع إذن، وربما على مشارف الصيف، فى الشارع الحديقة فى المدينة الحديقة، عثرت على الكرسى الذى لم أشعر بالراحة فى كرسى آخر مثله، والذى تحطم فى النهاية شأن كل شىء هش فى حياتنا بالغة الهشاشة على ذلك الكوكب الجميل الهش.

فى منطقة محال الأطعمة القريبة من السوق الخاصة بالحى، يتكاثر الناس بشكل ملحوظ بالمقياس الكيفاوى لا القاهرى طبعا، ويقابل الإنسان أشكالا وألوانا مختلفة من البشر، ومن بين هذه الأشكال والألوان، لفت نظرى دبان كبيران مرحان، رجل وامرأة فى نحو الخمسين من العمر ومن وزن ثقيل ثقيل الثقيل.

بوجهين محمرين وملامح مبسوطة، كانا يتمايلان كل منهما على الآخر، متضاحكين، يغنيان مقاطع مبتورة من أغنية غائمة، يحيط كل منهما خصر الآخر بذراعه لبضع خطوات، ثم يتباعدان مترنحين قليلا ويعودان للارتطام والتلاصق.

وكنت أتابعهما بنظرى، بل التفت مواصلا النظر إليهما، فالتفتا لمتابعتى. وبوغتُّ بالمرأة توجه الحديث إلىّ ضاحكة وهى تشير إلى الرجل:
ــ «كولا موى دروج»

(أنه كولا.. صديقى)
ضحكت، بل كدت أقهقه، فكولا هى تدليل اسم نيقولا، أما دروج، فهى فى هذا الموضع أقرب أن تكون إشارة بنت إلى ولد، بمعنى يطابق تعبير «بوى فرند».
كانت مفارقة باعثة على الضحك فعلا، فأن يكون هناك بوى فرند بهذا الحجم وفى هذه السن، وأن تكون هناك «جيرل فرند» بالحجم نفسه والسن نفسها تقريبا، صورة مرحة، ومرحها معبأ بضحك كثير فى عالم المفارقات الروسية.

ــ «مالشك آتكودا تى»؟ (من أى البلاد أنت أيها الصغير)
سألتنى المرأة، طبعا كنت صغيرا مقارنة بحجميهما اللارج لارجج لارج سايز.
ــ من جواتيمالا!

لا أعرف لماذا طقّت فى رأسى جواتيمالا هذه، ربما لأننى كنت راغبا فى المعابثة والضحك، وتواجه الدبان يفتشان فى ما تبقى من وعيهما عن جواتيمالا، وضَحَ أنهما لم يجداها، فاستدارا لى ماطين شفاههما ورافعين الحواجب، ما يعنى لا يهم.

لكنهما كانا فى لحظة انشكاح، وانشراح لمحبة العالم ومصاحبة سكانه، وكنت أنا فى هذه اللحظة أمامهما، ممثلا للعالم ونائبا عن سكانه.

ــ «أين تسكن أيها الأسمر الصغير»؟
سألنى «كولا» بود، فأشرت للبناية الضخمة من خمسة عشر طابقا، والمعروفة بأنها مسكن الأطباء الملتحقين بمعهد الدراسات العليا للتخصصات الطبية الذين كنت منهم. ويبدو أن هذا أثار فضول كولا وصديقته، فمدا لى معا كفين ضخمين ساخنين:
ــ «تشرفنا أيها الطبيب».

بديا جادين فجأة، وتبخر مرحهما، ولم أكن مستعدا للتنازل عن هذا المرح فى هذه اللحظة، فقد كان الصيف الجميل يثقل صدرى بحزن موحش يتكرر كل عام، لأننى لم أكن أستطيع قضاء إجازة الصيف فى بلدى شأن كل الطلاب الأجانب، ومنهم المصريون. كنت طبيبا فى وزارة الصحة المصرية التى عذبتنى فى الخروج.

وأظهر موظفوها براعة هائلة فى الحصول على عنوانى من تحت الأرض، أرض وزارة الخارجية غالبا وربما وزارات أخرى، ولم يكفوا عن إنذارى بشكل يكاد يكون اسبوعيا بخطابات مسجلة بعلم الوصول: «عُدْ وإلا اضطررنا لفصلك بالانقطاع» لم يكن الفصل يهمنى، فالأهم أن موظفين بهذا الشكل قادرين على منعى من الخروج بحجب «الكارت الأصفر» الذى بدونه لا أسافر لو أننى عدت ووقعت بين أضابيرهم وأحقاد عوالمهم الصغيرة.

ـ ما اسم حضرتك؟
سألتُ أنا المرأة بصيغة التعظيم والاحترام «أنتم»، فى « (معطشة)، وليست أنتِ «تى» فما كان منها إلا أن انفجرت تقهقه مرددة بالفاء المعطشة «فى فى فى»، ولابد أن حرجى بدا واضحا، ولا بد أن كولا خشى أن يكون ضحكها جرح مهابة طبيب، فبادرنى بلسان مترنح:
ــ لا تؤاخذها أيها الطبيب.. فماشكا مبسوطة قليلا.. لا تؤاخذنا.

وراح يزجر صاحبته ماريا التى يناديها بصيغة التدليل والتصغير، ماشكا، والتى انتابتها كريزة الضحك على مناداتى لها بصيغة التعظيم، لكننى أوقفت الزجر بمشاركتها فى الضحك، أعدانى ضحكها، وفجر ضحكانا ضحك كولا، سحابة من الضحك الجامح تشارك فيها ثلاثتنا بهذه الزاوية من شارع شرباكوفا.

ضحك يفضى إلى ضحك. ضحك لا يمكننا التحكم فيه ولا إيقافه حتى أنه لفت نظر كثيرين من المارين بنا والواقفين بقربنا، وبشكل تلقائى هربنا بضحكنا نبتعد فى اتجاه البناية الضخمة التى من خمسة عشر طابقا، حيث مسكنى، وحيث كان مسكنهما قريبا كذلك.
تصاحبنا، ودعانى كولا ومعه ماشكا، لزيارتهما، وأعطيانى العنوان.

شقة فى الطابق العاشر بمربع سكنى لا يبعد عن مسكنى إلا عشر دقائق، عشر دقائق من مشى الهوينى بين زهور الربيع وخضرة الأرض وتألق الأشجار التى تتجدد أوراقها كل عام، الأسانسيرات ذات الغرف من الحديد المشغول، والأبواب المدبسة بحشيات الجِبّاد والجلد الصناعى لاتقاء برد الشتاء، غرفة واحدة واسعة، وصالة بها أنتريه، ومطبخ صغير لطيف به ترابيزة للأكل حولها أربعة مقاعد. يفضل الروس، ومنهم الأوكرانيون، خاصة أهل كييف التى كانت دائما مدينة روسية وأول عاصمة لروسيا..

يفضلون قعدة المطبخ، فهو دائما حميم ونظيف، وفيه الثلاجة والموقد والساموفار المتأهب دائما لتقديم الشاى، فأوقاتهم السعيدة لابد أن يفعمها الشرب والأكل والنكت.

نكت معظمها حراق جدا، وفاحش غالبا، لكنها نكت حية، طالما جعلت غريبا عن اللغة الروسية مثلى ينفجر فى الضحك. كانت ماشكا وهى سائقة ترولى باص تلقى بعض النكت، أما كولا وهو أسطى خراط فى مصنع الصواريخ فكان يُخرِج من جيبه ورقة مطوية بدقة، يفردها فتصير طويلة جدا، كأنها فرمان، ويأخذ يقرأ منها النكت.

وما من سهرة روسية أو أوكرانية، أيا كان مستوى الساهرين فيها، إلا وتتكرر فيها هذه الظاهرة، فرمان النكت، يخرجه من جيبه أحد أو إحدى الساهرين، ومن حول النكت يتطاير الضحك.

ضحكت كثيرا فى بيت كولا وماشكا، لكننى كنت أفضل جلسة الأنتريه لأننى لا أرتاح على كراسى المطبخ الصلبة، وفى هذا الانتريه اكتشفت نعيم أفضل كرسى جلست عليه فى حياتى... ففى سهرة صاخبة بالضحك كالعادة فى هذا البيت الصغير الأليف، وكانت ماشكا منتشية اكثر من العادة، راحت تواصل تلقينى صحة نطق الكلمات الروسية، وتنفجر مقهقهة من نطقى، ودائما تعلمنى نطق الكلمة بعد أن تقول «اسمع يا صغيرى» (سلوشى موى مالشك). وتقول الكلمة لأكرر وراءها.

فى هذه السهرة كانت الكلمة عسيرة جدا بالرغم من أنها فى الاسم الرسمى للمعهد الذى ادرس به «معهد ترقية الأطباء»، فالكلمة هى «ترقية» وبالروسية «اوسفيرشينستفافانيا»، شىء يذكرنى بأحجية ( الحاججحجححجحجتين )، التى هى (الحاج جُحجُح حج حجتين)، دائما كنت أغلط فى نطق هذه الأوسفيرشينستفافانيا، ولا أزال على الأرجح أغلط فى نطقها.

عشر مرات، ربما عشرين مرة رددتها ماشكا الهائلة لأرددها وراءها، وفى كل مرة ارتكب خطأ فى حرف ما من حروف الكلمة الروسية الثمانى عشرة، ويبدو أن ماشكا الهائلة ظنتنى لا أسمع جيدا، وفوجئت بها ترفعنى فى الهواء وتهبط بى فى حجرها نافدة الصبر، «سلوشى كروكوديلشك» اسمع أيها التمساح الصغير.

اسمع جيدا لتنطق جيدا، وراحت تصب فى اذنى مباشرة الكلمة، حرفا حرفا، وأنا فى حجرها، ظهرى فى حضنها، وكولا يتلوى ويرتج من شدة الضحك مشيرا إلىّ بسبابته الضخمة، وأنا أكاد اموت ضحكا وهى لا تفلتنى ولا تضحك.

واكتشفت أن ارتجاجات ضحكى ترج وثارة الكرسى الحى الذى كنت أغوص فيه. أريح كرسى احتوى لحمى وعظامى منذ عرفت جلسة الكراسى، وتعبى من جلوس الكراسى. وكنت أستهبل، وأهتبل كل سانحة للارتياح فى هذا الكرسى، فأقفز جالسا فى حجر ماشكا لأتعلم النطق الصحيح للكلمات الروسية، ويكتفى كولا بالضحك، وأنا لم أكن أضحك، فجسمى كان يبتسم، يبتسم باستجمام عظيم، وامتنان، وراحة.

لكن الراحة، كما فى كل أمور الإنسان الفانى الفانية، لا تدوم. مرضت ماشكا، اكتشفت إصابتها بحالة سُكر متفاقمة عندما وقعت مغشيا عليها فى محطة مترو شرباكوفا. ولما لم تستطع الممرضة المناوبة فى وحدة الإسعاف بالمحطة إفاقتها، نقلوها إلى المستشفى، لكنهم طردوها بعد ساعات من إفاقتها من الغيبوبة، أعطوها دواء للسكّر والضغط وقالوا لها أن تعتنى بنفسها وتراجع عيادة الحى.

كان ينبغى أن تبقى فى المستشفى حتى ينضبط الاختلال الكبير الذى انتشر فى كل أجهزتها لأنها كانت مصابة بالمرض منذ فترة طويلة دون أن تكتشف ذلك، ولقد لمت نفسى أننى لم أكتشف ذلك، بل لم أفترضه أصلا، كنت أراها ضخمة وطيبة وراضية ومرحة أو تحض على المرح فحسبتها معافية تماما.

لكنها كانت مريضة من زمن. ولم يمهلوها فى المستشفى حتى تصل إلى بر الأمان، كان لابد من إخلاء سريرها لاستقبال مريض ذى حيثية حزبية أو لديه واسطة أو دَفَع رشوة، مريض يعرف الخوض فى سراديب النظام السوفييتى المظلمة التى كانت تتحكم فى أضواء المدينة ومياه شربها ومصائر الناس.

ومن الغريب أننى أنا الغريب، كنت واسطة ماشكا السمينة الطيبة سائقة التروللى باص، مواطنة جمهورية أوكرانيا السوفييتية، لتدخل مستشفى فى بلدها الاشتراكى، بل كنت واسطتها للوصول إلى راش محترف يقدم رشوة لمسئول حزبى فى المدينة، حتى يمنحوها سريرا تنام عليه وتتعالج أو تموت فى سلام. أى تموت دون كثير من الألم بإعطائها ما يكفى من المسكنات.

كان المستشفى تابعا لمعهد الدولة لترقية الأطباء الذى أدرس به. «جاسودارنست إنستيتوت أوسفيرشنستففانيا فراتشاى».

رحت أنطقها دفعة واحدة لأمازح ماشكا المطروحة على سرير المستشفى لعلها تضحك، لكنها لم تكن تضحك، كانت تبتسم فى وهن حزين، وفى وهن حزين يبتسم واقفا قرب رأسها كولا. تغُّير مفاجئ ومؤلم ضرب أحنى مقاعدى بصاعقة غير مرئية فدمره. نحفت ماشكا بشكل جعلها مثل هيكل إنسان ضخم فى كيس من جلد متهدل.

ظهرت لها زوايا عظام ناتئة وكنت أحسبها لا عظام فيها. خسّت وشحبت وفقدت مرحها. والمدهش أن كولا الذى لم يكن يعانى من أدنى ارتفاع للسكر فى دمه، راح ينحف ويشحب ويغدو حزينا هو الآخر.

فقدتُ كرسىّ الإنسانى الوثير، وفقدت معه مرح الملابسات التى كان يستضيفنى فيها، ولم أعد أتردد على بيت ماشكا وكولا كثيرا كسابق عهدى، حتى بعد ان تعافت وخرجت من الستشفى واستعادت بعض حيويتها.

استعادت بعض حيويتها لكنها لم تستعد أبدا هارمونية الوثارة التى كانت تكسو كيانها الضخم، كرسىَّ الأكثر راحة فى الوجود. طار مرحها مُطيِّرا معه مرح كولا الذى وضح أنه ظل يحبها بجد وعمق حتى إنه تفرغ للعناية بها وهو سكران طوال الوقت.
باتا موجعين، بينما كنت أفتقد إحساس الكرسى الإنسانى الذى لم يحتوينى كرسى أطيب منه. ووجدت نفسى لاشعوريا أسعى لامتلاك كرسى بديل.

بالمواصفات ذاتها. لكننى فشلت فى الحصول على كرسى مماثل عبر تجربتين انتهت كل منهما فى أول جلسة، بل فى الدقائق الأولى من الجلوس، لأن الكراسى الجديدة، والتى كانت أكثر شبابا وأقل أمومة من ماشكا وإن فى مثل حجمها، كانت.. هذه الكراسى.. تريد أن أجلس عليها بطنا لبطن، وليس ظهرا لبطن كما كانت تحتوينى ضخامة ووثارة وزهد أختى الكبيرة، أو أمى الصغيرة، الرؤوم ماشكا.

ــ 3 ــ
كرسى السعادة

كنا فى سيمنار خاص للأطباء النفسيين، وكانت الحالات التى تُعرض فى هذا السيمنار ذات طبيعة خاصة، غير نمطية، وتستدعى مزيدا من البحث، والمزيد من الأسئلة.

وكان المريض موضوع المناظرة أمامنا، حالة محيرة، يصعب إدراجها فى خانة من خانات التصنيف التقليدى للأمراض النفسية والذى يفضله بعض الأطباء النفسيين وأنا منهم، أو التقسيمات المحددة فى جداول التصنيف الأمريكى الذى يتبناه كثير من الأطباء النفسيين، ولست منهم.

كان يحمل احتمالين لتشخيصين متعارضين تماما، أحدهما أنه مريض فصامى غائم نوع الفصام، والثانى أنه ليس مريضا نفسيا على الإطلاق، وأن ما يُظهره من أعراض ذهانية، كالهلاوس السمعية والبصرية، والضلالات والهذيان. كلها لا تنتمى للمرض النفسى، ولكن تنتمى لنوع من الإدراك غير المألوف.

بدا لأحد الزملاء، عبر المناقشة، أنه ربما كان حالة اكتئابية لأن ردوده كلها كانت تتسم بنوع خافت من السوداوية والتشاؤم، وكان يتحدث بأسف من لم ير السعادة أبدا فى الحياة، فوجه له الزميل سؤالا كان رمية بغير رام:
ــ «ما هى أسعد مرحلة فى حياتك»؟
ــ «لما كنت فى بطن أمى»، أجاب الرجل موضوع المناظرة، ولم نضحك، وإن كان بعض منا لم يتمالكوا أنفسهم، فابتسموا ابتسامات صغيرة تحت السيطرة، حتى لا يطيحوا بكل قنوات التواصل الممكنة مع الحالة.

ولأن الرجل قال ذلك، بجدية شديدة، وانفعال عميق مثقل بالحنين والافتقاد، انهلنا عليه بالأسئلة، وألجمتنا إجاباته، بل إجابته الواحدة المسترسلة التى جعلتنا نصمت كما لو أن على رءوسنا الطير.

فالرجل الذى كان مدرسا للتاريخ، ولم تكن له أى علاقة بالطب، راح يصف بدقة لا يعرفها إلا الأطباء، كيف كان يعيش جنينا فى بطن أمه، يسبح محتبيا ومستريحا فى بحيرة من ماء لطيف الدفء، يلهو دافعا هذا الماء الكثيف الأليف بقدمه أو بيده الصغيرة، يضايقه هذا الحبل الذى يربطه بقاع البحيرة، لكنه يراوغه حتى لا يلتف حول عنقه، وكان يحس بيدها الحانية عندما تمررها بحنان على بطنها، على سطح الكبسولة الحية التى استودعته فيها، وكان يحب رنين صوتها المهدهد ووجيب قلبها الذى يجعله مطمئنا، اطمئنانا لم يشعر به فى حياته منذ خرج إلى الدنيا.

«هل كنت تنام وتصحو». سأله أحدنا هذا السؤال الذى استهجناه فى البداية، لكن الإجابة جعلتنا نمتدح السؤال بإيماءات رءوس خفيفة، ونظرات استحسان للسائل.

قال الرجل إنه لم يكن ينام ويصحو، بل كان فى حالة مستمرة أشبه بالأحلام، وبالرغم من أنه لم يكن متمددا، فإنه كان يشعر براحة لا تدانيها راحة التمدد فى الفراش، لقد كان جالسا طول الوقت، جالسا على مقعد مائى وثير لا يشعر معه بوجود أو بثقل جسمه، ولا يشعر بوجود الكرسى الذى يقعد عليه.

«إنه يعبِّر عن الوضع الجنينى بدقة ووضوح». اتفقنا جميعا على ذلك، وبدرت عن بعضنا عقب انتهاء السيمنار تنهدات تعب وحيرة. أما تنهيدتى، أنا من عذبته وتعذبه قساوة الكراسى، فكانت تنهيدة حنين، وافتقاد لمقعد الجنين فى الرحم.

ــ 4 ــ
كرسى الراكن
لابد أنه كان مُرحّبا به فى البداية، فحملته راضية آملة، ننتظر اكتماله وطلوعه، ليسعدها ويبهجها ويزيل عنها الكدر، ويكون عونا لها فى مواجهة الدنيا التى لم تكف عن التربص بها، وعِوضا عن الأزواج الذين غدروا بها وانتهوا إلى مجرد مستبدين قساة، أو عابثين يتسمون بالخفة.

لكن يبدو أنه استمرأ البقاء.
استمرأ الوضع الجنينى الذى هو وضع جلوس على نحو ما، وضع جلوس على كرسى من الماء الوثير المحيط به فى داخلها. وكان يتضخم، ينتفخ ويكبر، ويكبر ويتبلد، غذاؤه يأتيه من جسمها دون ان يتجشم حتى عناء المضغ أو البلع، ودماؤه الكسلى تتجدد بالسحب من دمها.

كان يكبر فتزداد مطالبه وهى مرغمة تلبى. يمتصها امتصاصا وهى لا تعرف ماذا تفعل له، وماذا تفعل به.

كان يرفسها رفسات موجعة فى بطنها على امتداد زمن طويل، زمن مرير، فتتألم، لكنه لم يكن يرحمها، لم يكن يريد النزول عن كرسى الماء الوثير فى بطنها.
كان أنانيا، لكنه لم يكن يدرك أن فى أنانيته يكمن مقتله، وربما مقتلها قبله، وبالتالى موته إذ تموت...

بدأ جلده السميك ينحَلُّ فى بحيرة ماء الرحم الذى ركد، ومن تحلل جلده كانت تنساب سموم تنتقل إلى دمها وتدخل فى دمائه، فيتسمم هو الآخر، يتسمم ببطء، يتسمم بطول بقائه، فتموت أنسجته طبقة بعد طبقة، وتموت أعضاؤه عضوا فعضوا، لكنه يواصل الجلوس.

غاض ماء الرحم حتى تلاشى من حوله، وصار فراغا مقفرا كل ما يحيط به، كان يجلس فى الفراغ. وبدأت جزيئات الكلس تنسحب من عظامها لتسكن أنسجته الميتة، فيتحول شيئا فشيئا إلى حجر.

يسمونه الراكن، لأنه يتشبث بمكانه، ويرفض النزول، ويعطل عمل الرحم فى استقبال أجنة جديدة، وإنضاج مواليد أحدث، وهو تجاوََز أقصى حدود التجاوُز، راكنا لا يتزحزح، لا هو ميت ولا هو حى، لكنه ينشر فى جسمها الموات، ويجعلها تشيخ قبل الأوان.

صار صنما لجنين عجوز منتفخ متهدل، مومياء متحجرة سمينة جامدة بجفون ثقيلة وأقدام تضخمت لفرط بقائها مدلاة إلى أسفل فى وضع الجلوس، وكان كلما استشعر نبضة حياة فى غياهب جسمه المتكلس، يحرك قدمه الحجرية الكبيرة، فيكرر رفسها، وتئن.
تئن ولا ينقطع الأنين.

ــ 5 ـــ
كرسى الموسيقى
فجأة كان الكرسى يظهر وسط الدائرة فى اللحظة التى يتوقف فيها عزف الموسيقى النحاسية وتوشك اللعبة على نهايتها، يجلس عليه الولد الذى لم يبذل أى جهد فى المنافسة والجرى، ولم يخض حتى المراحل الأولى من اللعبة.

وكنا نُصاب بالقهر، قهر أولاد صغار يحسون بالأشياء أكثر مما يستطيعون فهمها. وكان هذا الكرسى المدسوس يعنى أن اللعبة مستمرة، وأن هناك إصرارا بليدا على فوزه.

كان ولدا سخيفا، لا يمتلك حتى بعض مزايا والده، حضرة الناظر، الذى كان له حضور لا يمكن إنكاره، كان يضحكنا أحيانا عندما يلقى بمزحة فيضحك كل من حوله ونضحك نحن، وكان يرعبنا دائما، بالرغم من أنه نفسه لم يكن يمسك عصا، ولا يرفع صوته على أحد، لكن كان هناك من يمسكون عنه بعشرات العصى، ومن يشغلون نيابة عنه أكثر من فلكة، ومن يزعقون من خارج حنجرته فى وجوهنا. بعض المدرسين، والوكيل، والسكرتير، والفراشين، وحارس بوابة المدرسة.

الولد، السخيف لم يكن يتميز بشىء يضعه فى المكانة التى احتلها فى المدرسة، لم يكن تلميذا متفوقا، ولا رياضيا بارعا، ولا صاحب خيال مجنح، أو أدنى موهبة، ولم يكن حتى ظريفا، ولم يكن فى حاجة لإثبات قوته البدنية التى كانت فقيرة، لأنه لم يكن فى حاجة للشجار مع أحد منا، فلم يكن هناك من يجرؤ على التشاجر معه.

فى الحفلات المدرسية كانوا يعدون له الخطب التى يلقيها باسمنا، برغم ركاكة لغته وطريقته الباردة المتخشبة فى القراءة، ولأنه لم يكن فنانا كانوا يعطونه حق تقديم اللوحات والمشغولات التى ينجزها الأولاد الموهوبون، أما فى المنافسات الرياضية التى كان غير مؤهل لها، فكان يقودها نيابة عن مدرس الألعاب الذى يتصاغر أمامه ليصير مساعدا له.

المنافسة الوحيدة التى وجدناه يقحم نفسه فيها هى لعبة الكراسى الموسيقية التى كانت لها مكانة مميزة وحماسة كبيرة، لأن الفائز بها كان ينتزع الاعتراف به زعيما شرعيا لنا، كلنا.

لم يشترك فى التصفيات التمهيدية، ولا حتى فى المراحل قبل النهائية، فقط فى المرحلة النهائية عندما لم يعد هناك وسط الحلبة غير مقعد واحد واثنين من المتنافسين، أقحموه، وأقحموا معه الكرسى الذى كان يظهر كأنه من المجهول فى وسط الحلبة.
تدور الموسيقى التى كانت تعزفها فرقة آلات نحاسية جوالة متواضعة، تتكون من أربعة عازفين مسنين، يرتدون زيا مهلهلا، هو خليط من زى رجال الإسعاف وزى الكشافة وزى موسيقات الجيش وربما الشرطة.

ويأخذ الولدان الصامدان خلال المنافسات السابقة الطويلة الحماسية يركضان فى الدائرة حول الكرسى الوحيد المتبقى، وما إن تتوقف الموسيقى ويسارع الولد الأكثر انتباها والأسرع استجابة بالجلوس على كرسى الفوز، حتى تسارع يد خفية بإلقاء الكرسى الآخر من خارج الحلبة ليستقر فى قلبها، وعلى هذا الكرسى يتربع ابن الناظر، رامقا منافسه باحتقار، وماسحا وجوهنا بابتسامة ساخرة، مزهوة ومسمومة.


رفعوا الكرسى الزائد، فلم يعد فى الحلبة غير كرسى واحد ومتنافسين يتكرران. وعادت الموسيقى وعاد الدوران حول الكرسى الوحيد، لكن ابن الناظر لم يكن يرهق نفسه بالجرى، كان يتمشى بعظمة مزيفة وثقة فارغة، بينما خصمه يجرى كما ينبغى، يجرى بإخلاص، حتى توقفت الموسيقى.

كان الولد الصامد سريع الحركة، أذنه مرهفة، واستجاباته فورية، فشغل المقعد مثل البرق، بكفاءة وخفة. وفى هذه اللحظة ذاتها عاد الكرسى المدسوس يظهر فى قلب الحلبة وعليه استقر ابن الناظر. وكان ذلك يعنى أن الموسيقى ينبغى أن تدور من جديد.
دارت الموسيقى مرة ومرة ومرة، مرّات بلا حصر، وكان الولد الصامد يركض بجد ويبلغ حد الإنهاك، ويترنح فى جريه، لكنه بموهبة دفينة واستعداد جسمانى فائق ظل يفوز بالكرسى الحقيقى، لكن هذا الفوز سرعان ما يتكرر إجهاضه فى اللحظة الأخيرة، بظهور الكرسى المدسوس وعليه الولد المدسوس.

كنا نختنق من الإحساس بالقهر، ولا نفهم إلى أين تمضى هذه اللعبة المغشوشة، وكيف تنتهى، لكننا تحت وطأة القهر مكثنا نطالب الولد الصامد بالاستمرار، نشجعه بحماس مكتوم خوفا من عصى المحيطين بالناظر، ورعبا من ثقل نظرات الناظر نفسه. لكننا فى قلوبنا الصغيرة كنا نتمنى أن يختفى الناظر، ليعرف هذا الولد المغرور حدوده، ولتنتهى اللعبة.

ازداد شعورنا بالاختناق، لأننا أدركنا أن حلم اختفاء الناظر ربما سيظل حلما أطول مما نتمنى، بينما كان ممثلنا الصامد هو الذى يبدو على وشك الموت صار مغسولا بالعرق الذى ينزفه، وصارت ثيابه منقوعة فى هذا العرق، وكانت ساقاه تتلويان تحته وهو يواصل الدوران والجرى الذى تحول إلى مجرد هرولة، بل ترنُّح.

وعندما تمكن من الجلوس على الكرسى الوحيد وظهر كالعادة ذلك الكرسى المدسوس وعليه الولد المدسوس، تهدل جسم بطلنا وكان مبلولا كله، وسال خيط من الدم رفيع أخذ ينزلق على ذقنه، فتجمد العالم، وسكن.

لم يطل سكون العالم ولا جموده، وأتت الانبثاقة والدوى من حيث لا نتوقع، من صدح الموسيقى التى انطلقت فجأة، مبدلة اللحن الدوار للسباق على الكراسى إلى لحن من شواظ نارية صاخبة، لحن لم نسمعه من قبل لكننا أحسسناه يسرى بلهيبه فى أطرافنا، فى صدورنا، فى رءوسنا.

وأكثر من ذلك كانت نيران هذا اللحن تجتذب بوهجها أفرادا ثم حشودا من العابرين. اقتحموا بوابة المدرسة واشتبكوا مع الفراشين الذين كانوا يحاولون إخراجهم دون جدوى ودون جدوى كان الناظر يصرخ لإيقاف نار الموسيقى.

فقد كان الموسيقيون المهلهلون العواجيز كانما أصابهم مس، لا يتزحزحون من أماكنهم ولا يتوقفون، برغم الصراخ الذى كان يلطمهم، وضربات العصى واللكمات والركلات التى تنهال على هياكلهم اليابسة. كانوا عرقين وممتقعى الوجوه، يواصلون العزف النارى متلوين ومرتجِّين بوابل الضربات، تبدو وجوههم وكأنها ستنفجر بالدم، ويبدون كأنما ينفخون فى الأبواق النحاسية آخر ما تبقى من أرواحهم.

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !