(10) الجريمة والعقاب
منذ عدة أشهر تلقيت عبر صديقى المهندس أحمد هشام هدية ثمينة الأصول من الدكتورة ليلى الدروبى عبارة عن خمسة عشر مجلدا تضم الأعمال الروائية الكاملة للكاتب الإنسانى العظيم دوستويفسكى التى ترجمها بإبداع خلاب والدها المثقف العربى الكبير الفذ الدكتور سامى الدروبى، وأعادت نشرها الهيئة المصرية للكتاب فى العام الفائت، لكننى ما إن شرعت فى قراءة مجلد من المجلدات الخمسة عشر، وهو الجزء الأول من رواية الجريمة والعقاب حتى لطمتنى صدمة غير متوقعة، وتكررت اللطمات مع مراجعتى لبقية أجزاء الهدية!
لم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها ترجمة الدكتور سامى الدروبى الاستثنائية لأعمال دوستويفسكى الاستثنائى، فقد أتيت عليها جميعا عندما نُشِرت منذ سنوات بعيدة تسبق عقود الركود الوخيم لنظام الاستبداد والفساد الذى أسقطته ثورة 25 يناير، وفى أول سنوات الجامعة كنت قد قرأت دوستويفسكى كله فى ترجمة الدروبى البديعة فى طبعتها القديمة، وهى الترجمة نفسها التى أعادت الهيئة العامة للكتاب نشرها مؤخرا، ولكن بأسلوب آخر سنوات عهد مبارك التى صدمتنى بصماتها المشوهة فى هذه الطبعة الجديدة، غير السعيدة على غير ما توقعت، ليس فقط لوجود صورة سوزان مبارك المُقرَّرة على ظهور أغلفتها كما كل أغلفة مشروع مكتبة الأسرة ومهرجان القراءة للجميع، الذى بدا فكرة نبيلة تم مسخها بالنفاق وزيف النوايا والإهدار وربما النهب على غرار نهب دولارات ويوروهات مكتبة الإسكندرية المودعة فى حساب «الهانم»، ولكن لأن التشوه وصل إلى حد اكتشاف أن هناك ضحايا من المصريين راحوا يوقعون العقاب على أنفسهم بدلا من إنزاله بالجلاد كما أوضحت لى صفحات هذه الطبعة!
فى الطبعة القديمة كان من النادر أن تعثر على خطأ طباعى واحد فى مجلد كامل، لكن الطبعة الجديدة كانت مثقلة بالأخطاء الطباعية الوبيلة لدرجة أنه ما من صفحة إلا وتصدمك فيها عشرة أو خمسة عشر خطأ من النوع الردىء جدا والذى يسبب إزعاجا يجعل مثلى يتوقف عن القراءة برغم شدة شغفى بدوستويفسكى، وشوقى الكبير لإعادة قراءته كاملا فى مشروع بدأته منذ سنتين، وظننت أن الهدية ستحفزنى للاندفاع فى تنفيذه بحافز الجاذبية التى يُفترَض أن يوفرها الكتاب المحبوب نفسه فى طبعة جديدة. وقد كانت جديدة بالفعل، لكنها جِدَّة ملوَّثة بما طرأ على حياتنا من رداءات ذلك العهد القمىء الساقط، والذى تسلل إلى أغوار بعيدة فى النفوس، وأوصلتنى للكشف عنها بصيرة دوستويفسكى نفسه، وبإضاءات نفسية من روايته الخالدة «الجريمة والعقاب» التى كانت أول رواية أحاول إعادة قراءتها بين هذه المجلدات!
فى زمن حكم أسرة مبارك التى كان كل مشروع فيها يمثل واجهة لهبرة كبيرة لكبار المحاسيب وزعماء العصابة، لم يعدم الصغار الحيلة ليجدوا على هامش كل هبرة سبوبة مما يتساقط من أفواه الضباع الكبيرة من فتات، وما دام ذلك كذلك، فلا يمكن أن يكون هناك ضمير لدى الصغير كما الكبير يقود إلى إجادة أى عمل أو إتقانه، فالهدف لم يكن أبدا العمل نفسه، بل كان اقتناص الهبرة وخطف السبوبة، وكل ماعدا ذلك كان كلفتة وسد خانة وكذبا. كذب وقلة حيا فى اقتراف الأخطاء وارتكاب الجرائم. فما أغرب الجريمة فى ذلك وما أعجب العقاب!
لقد لحقْتُ بعصر كان عمل الإنسان المصرى فيه هو جزءا من شرفه، سواء كان حرفيا بسيطا أو مهندسا كبيرا أو طبيبا من النابغين.. نجارا أو طيارا أو أستاذا فى الجامعة، وكان إتقان كل إنسان لعمله يرتبط بكرامته الشخصية واعتزازه بقيمته كإنسان. لهذا يتبدَّى لى كتاب مكدس بالأخطاء إلى هذا الحد نوعا من خراب الضمير وانحطاط الكرامة لدى سلسلة ممن قاموا بنشره، ومراجعته، وتدقيق بروفاته، وقبول توزيعه على هذا النحو المعيب، طابور طويل معظمه من البشر الموظفين الصغار، الذين هم ضحايا منظومة فاسدة يقودها مجرمون كبار فى قمة السلطة الساقطة كانوا يكدسون الملايين والبلايين المنهوبة، فلا يتبقى للسواد الأعظم من مثل هؤلاء الصغار سوى الملاليم ليتصارعوا عليها. لكن المفارقة تكمن فى ان الضحايا بانزلاقهم فى الأداء الردىء لأعمالهم إنما يزيحون العقاب عن المجرم الأصلى الكبير، ليوقعوه على أنفسهم، عندما يبتذلون أنفسهم، ويهدرون شرفهم وكرامتهم عبر الكلفتة والإهمال وقذارة الأداء فيما يؤدونه، وهى سمة صارت وصمة فى إنجاز الأعمال خلال ذلك العهد الردىء الذى لانزال نعانى ركام أنقاضه وزواحفه وحشراته ودوابه المختبئة بين الأنقاض.
فى رواية دوستويفسكى يرتكب راسكولنيكوف جريمة قتل المرابية العجوز للحصول على ما تكتنزه ليس لأنه كان طالبا بائسا مدقع الفقر فى حاجة ماسة للنقود فقط، ولكن لأنه برر لنفسه ارتكاب الجريمة على اعتبار أنه أحق منها بما لديها من ثروة كونه مميزا وذكيا ومثقفا وهى خلو من هذا كله، لكنه ما إن أوحل فى دمها حتى اكتشف فداحة إثمه، ليس فى حقها، ولكن فى حق نفسه، وراح يبحث عن العقاب، ويحوم حول مكان الجريمة، وهو القانون الذى أهدته عبقرية دوستويفسكى لعلم النفس الجنائى ضمن قوانين كبرى فى علم النفس كان هذا الأديب العظيم هو مكتشفها قبل علماء النفس والأطباء النفسيين.
كان الجانى فى رواية الجريمة والعقاب يبحث عن خلاص روحه فى القصاص من ذاته لعله يتوازن فى ظل عدالة منطقية يحسها كل إنسان فى داخله مهما كان مجرما. أما فى الطبعة المصرية الجديدة الفضيحة لرواية الجريمة والعقاب كما بقية مجلدات الأعمال الكاملة لدوستويفسكى، فإن طابور الموظفين الصغار، ضحايا الجريمة الأكبر فى مجتمع النهب الأعظمى اللامبارك الذى لم يترك لهم غير لعق العظام، كانوا يُنزِلون عقاب الخطيئة الأصلية لا بالمجرم الأصلى الكبير، بل بأنفسهم البائسة!
الشىء نفسه الذى نراه الآن فى تلك الفتن الطائفية بين البؤساء فى الأرض، سواء فى قرى ضائعة فى الوادى المنهوب كأطفيح، أو فى أحياء الزرائب هكذا يُسمَّى أحدها فى عشوائيات الزبالين الذين نهبهم ملياردير مجهول الهوية كانت كل مؤهلاته أنه أفاق من عصابة أصدقاء الفسل المزعوم جمال مبارك وكوَّن مليارات وسخة من نهب جهود الزبالين زورا وبهتانا وتحصيلا جائرا على فواتير كهرباء النظام الفاسد ثم راح يغسل ملياراته فى مشاريع التاكسى الملون، ولم تطله يد العدالة بعد!
ضحايا جريمة شاملة لفظهم عهد حرامية البلايين، راحوا يُسقِطون العقاب على بعضهم بعضا بمزاعم دينية منحرفة بدلا من إنزاله بالمجرم الأصلى الذى رفسهم إلى هوامش ومزابل الحياة وحواف التعصب المخبول. فأى تشوه، وأى وسيلة للعلاج؟
نعم هناك ثعابين للفتنة المنظمة يقطع بوجودها انكشاف بعض خبايا جهاز أمن الدولة المنهار، ولن تكف هذه الأفاعى عن التسلل من جحور الخبث القديم لتثير الفوضى والفزع فى ساحة الأمل الوليد بعد ثورة 25 يناير التى لم تكن فى أصلها وفصلها إلا ثورة لاستعادة الكرامة والحق والعدل والحرية التى هى كلها أركان أساسية للكرامة. لكن هناك أسبابا موضوعية تتعلق بالضحايا المتحولين إلى جناة فى هذه الفتنة وكل ما يشابهها من فتن، ذلك الوعى الشقى الذى يعشش فى رءوسهم متقنعا بأقنعة دينية كنا بالفعل تجاوزناها فى مأثرة الوحدة الوطنية بساحات الثورة الجميلة، ولا نجاة من بؤس هذا الشقاء إلا بانتزاع هذا القناع عن وجوه المتقاتلين بالفتنة وكرات النار الطائفية.
لابد من نهوض هيبة الدولة، لا الدولة الباغية الساقطة، بل الدولة العادلة المأمولة، والتى يجهر عدلها بقناعة أن العدوان المادى أو المعنوى على الغير من أبناء الأمة الواحدة بمزاعم دينية هو فى هذا الوقت بالذات خيانة عظمى وانحراف جسيم لابد من تقويمه بسيف القانون الذى يقطع بأن كل المصريين فى حقوق المواطنة سواء. لكن القانون لا قيمة له إلا بصرامة تطبيقه وتنفيذ أحكامه، فمن يفعل؟
بالرغم من ثقل العبء المُلقَى على عاتق قواتنا المسلحة الباسلة التى تخوض الآن ومنذ وقوفها مع الثورة معركة تاريخية بكل المقاييس وبأصعب ما تواجهه الجيوش النبيلة، إلا أنه قدرها فى أمتها وبين أهلها، كما هو قدر قوى الثورة التى آن لها أن تنوِّع ميادين صيحتها، فتهدر بالحق والمساواة والحرية فى أجران تلك القرى المنكوبة بالفتنة، وفى ظلال صخور الدويقة الخطرة وبين أزقة منشية ناصر التعيسة وعلى جانبى الطريق الدائرى المشتعل. وأين جهاز شرطتنا من ذلك؟
أقول شرطتنا لا توسلا من العبيد للسادة بالحصول على الأمان كما جنحت مفاهيم لواءٍ هواء هباء من لواءات شرطة العهد البائد المخطوفة، بل تقريرا لحقنا فى الحصول على ثمار عمل اختاره ضباط وأفراد الشرطة لأنفسهم وهم يُؤجَرون عليه ويُشكَرون إن أدوه بأمانة، أمانة جديدة لا تبعية فيها لنظام فاسد كان يختطفهم كما اختطف مجمل مقدرات الأمة. ثم إن العمل الشرطى إذا لم يكن ضربا من ضروب الشجاعة فى مواجهة الانحراف الجنائى فماذا يكون؟
إنه نداء لشُرطِيى الأمس يتيح لهم التطهر الكريم من أدران الماضى التى لطخهم بها النظام الفاسد البائد، وامتحان لشرف الشرفاء منهم. ثم، لابد أن يكون هناك سعى عاجل لا لمجرد إعادة هيكلة هذا الجهاز العظيم الأهمية، بل ابتكار هياكل جديدة لتزويد الأمة بأفواج من شرطة جديدة من متطوعين أكفاء من جيش الشباب الرائع الذين تهينهم البطالة بغير حق، والذين سيكون العمل الشرطى النظيف بكل مخاطراته النبيلة أهون لهم من مصارعة الموج والموت فى زوارق الهجرة غير الشرعية المتهالكة القاتلة.
واقع الحال واستشراف المستقبل يقولان بوجوب الشروع فورا فى إعداد مكثف لأفواج من ضباط شرطة شباب مسلحين بوعى جديد يحترم حقوق الإنسان ولا يلين فى مواجهة الانحراف والجنوح والفساد ولا يتراخى أمام مخاطر الجريمة وبأس المجرمين، ضباط شرطة جدد لمستقبل جديد يتم إعدادهم من الآن إعدادا مكثفا يتخرجون بعده فى زمن قياسى كما ضباط الجيوش عند الحروب، فمصر تخوض أخطر حروبها، شعبا وجيشا وقضاء وشرطة، لا فى مواجهة فتن الماضى المعششة لاتزال فى جحور وشقوق وجيوب وعقول بقايا النظام الساقط، بل توجُّها لفتون الأمل فى أفق الكرامة الإنسانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والروحية للمصريين دون تفرقة، وعلى أساس من حق المواطنة المكفول للجميع فى دولة للقانون العادل والصارم، حتى لا يُفلت أى مجرم بجُرمِه، وحتى لا يقع العقاب على رأس الضحايا.
التعليقات (0)