د.ازهار رحيم
ـــــــــــــــــــــــ
امرأة دأب الغرباء على اغتصابها!!هكذا كانت تردد مع نفسها وهي تستنشق نسيم الريف المنساب الى الغرفة مع أصوات الحشرات الليلية، عازفة سيمفونية غريبة على مسامعها .. تخاطب مياه دجلة المتكاسلةعلى وسائد الضفتين.. حتى رائحة زهر البرتقال تختلف عما في بغداد .. مدينتي التي تبكي مآذنها مع كل غارة ، وتستغيث مكبرة بأ سم الله ..فلا مجيب .. كانت ترفض ان تصدق بأن الحرب ستزار، تزمجر ،تمزق الأرض لتهيل من فوقها الناس.. شتاتا عبر طرقاتها الخارجية ..هاربون لمدنٍ أخرى.. بحثا عن ملجأ يقيهم صلوات الصواريخ التي تعتذر قبل ان تنفجر بأسم التحرير لتلتهم سنوات تساقطت أوراق صفر... ولتدحر فصولا آخرها هذه الحرب اللعينة.. مع كل ارتجاف لجدران البيت كانت تردد:
..لن أموت.. ولن يموت أطفالي...سأخرج من هنا سالمة وأعود لبيتي.. انه الصاروخ الخامس.. احست بالخدر في اطرافها ،جفت شفتاها واختنق الهواء في رئتيها كأن الاصوات امتصت الحياة من حولها ... كم روحا بريئة ستزهق؟..كم بيتاً سيفنى ؟... أمي لماذا تركتك وهربت؟ .. لِم يكن امامي خيار ا خر، أخترتِ البقاء في صومعتك ،عشك الذي لمنا يوما صغارا وودعت فيه أ بي... صرخت بي عندما توسلت إليك ان نترك المدينة التي لم تمنحنا سوى النعوش والرماد..صرخت بي: لن أغادر.. زحفت وحيدة ابحث عن ملاذ اتقي به الموت وها أ نت تستقبلين رائحة البارود وعصف القصف صامدة ، كما عهدتك قبل حربين مضت .. قوية لا تذرفين الدمع .. تقفين شامخة فوق الموت.. لترقبي كيف يحتضن الموت أجساد أحبائك.. والدتك، أخوك، أ بي..لمِ لم أشبهك ؟ لمِ أ نا هشة أ تكسر ، أتفتت مع أول خدش يلامس روحي ..لكن يا أمي لدي أطفال أودعهم أباهم طوقا يخنقني، عبئا احمله وحدي فوق عبء الجسد.. كما منحهم رحمي الحياة، علي ان احمي وجودهم من الموت الآتي قدما، مشرعا لنا أبواب الجراح والرحيل...
آلا ينتهي هذا الليل؟ أصوات القصف تبدو بعيدة لكنها تفجر في كياني رعباً.. يلتهمني كل ثانية و يتقيآني ذبالة ورود… عيناي مشدودتان الى ظلمة السماء ا للامتناهية عبر نافذة الغرفة، ترقص في رحبها ألوان، حمراء، صفراء.. نيران قصية.. تضيء عباءة الليل..أيعقل ان يناموا في هذه الليلة المجنونة؟.. خمسة وستون إنسانا مبعثرين فوق السطح، في السيارات التي أقلتهم لهذه القرية الوديعة المنسية.. لم يتبق سوى السلالم والحمام لم تحتضن أجسادا ممددة هربت من هجير مستعر.... تاركين خلفهم..كل شيء ،البيت ،المتاع ،الاحباب.. حاملين أرواحهم فوق الأكف مغادرين مدينة الدخان والتراب والسماء الغاضبة..
معدتها تعتصرها ألماً .. لم تذق سوى الحليب منذ يومين ...خمسة وستون انساناً يتقاسمون حماماً واحداً.. نسِيت الجوع عندما تذكرت كم هو مقزز هذا الحمام وهي تخطو على رؤوس أصابعها لئلا تتسخ قدماها ببقايا الآخرين.. اشتهت سريرها، رائحة الصابون، بيتها .. عاهدت نفسها.. بأن لا تحزن ولن تذرف دمعة يأس ان خرجت سالمة مع اطفالها من أتون الحرب التي يقذف فيها عزرائيل ما شاءَ من بشر..ظلت تردد آية الكرسي كما لو كانت آلة تسجيل.. تتوقف تكرر كانت تريد ان تنسى الخوف .... قامت من كرسيها لتندس في الفراش الذي نثر على أرضية الغرفة الصغيرة بين أطفالها وهي تتفرس وجوههم بشراهة كأنها تراهم لآخر مرة... ارادت ان تحفر تفاصيل بشرتهم الناعمة في طيات ذاكرتها المترهلة، التي فقدت عافيتها لكثرة أسماء الموتى ممن حصدتهم الحروب،اقربائها ،جيرانها ، زوجها... رفيق مراهقتها وحبيب توقدها.. الذي تركها وحيدة بلا معيل سوى شقيق أناني.. قرر ان يستحوذ على كل ما تملك من ارث والدها ،ليرمي لها بفتات قلما تكفيها لنهاية الشهر.. جاء بها الى بيت احد عماله في المزرعة.. رماها هنا بعد ان توسلت اليه طالبة ملاذا آمنا لها ولاطفالها فبيتها يجاور دائرة امنية ومقراً حزبياً.. وستكون هدفاً للصواريخ ان لم ترحل منه.. لم يترك لها شيئا سوى عشرة الآف دينار.. امتنعت عن الأكل لتبقى حصتها للصغار...نفد الحليب والرز اللذان اتت بهما لصاحبة البيت الكريمة اليد، وهي الآن تأكل من حسنات كرمهم.. هذا التودد والحنان اللذان ساحا جداول رقة ورحمة من امرأة غريبة قرأت في عيونها الحاجة والخوف فبدت منكسرة لا تتكلم مع أي من نساء البيت، اذلتها الحاجة والهروب من فخاخ الموت لساحة الحياة.. كانت قلما تترك الغرفة العليا.. الا لحاجة ملحة.. حبست صغارها معها طيلة عشرة ايام الى ان هزمتها طفولتهم فرق قلب ام سلام صاحبة البيت ..وقررت ان تأخذهم مع بقية اطفال اقربائها الهاربين من مصائد الموت الى ضفة النهر لتنطلق طفولتهم فراشات ملونة تغازل عطر الربيع الذي بدأ يشق الارض..
توقفت الصواريخ..لمدة ساعة.. جعلت عيناها تعرف النوم المضمغ بالكوابيس .. أستافقت فزعة وهي تسمع دقاً هامساً على الباب .. هرعت لتستند الى الباب بجسدها مرتعدة.. وبصوت اهتزت كلماته من الخوف--:
- من هناك..
- من هناك..
- رجعت اليها كلماتها خائبة..
..انها المرة الرابعة خلال اسبوع !!..
مرتان، اثنان، ثلاث و..الطرق الهامس يغازل الباب مصراً ..انسلت من تحت الباب…اربع قطع من حلوى.. وساد السكون بعدها..
مدت يدها راجفة .. من عرف بالجوع الذي يقرص معدتها؟.. قبل يومين جاءتها طفلتها وهي تلوك متلذذة قطعة حلوى لم تذق منها منذ ثلاثة اسابيع، قالت ان احد الرجال اعطاها اياها ولاخويها.. فتحت غلاف الحلوى والتهمتها دفعة واحدة وقلبها يرتجف وفمها يلوك الحلوى بسرعة.. احست ان السكر الذي سار عبر اوردتها اعطاها دفقا بالحياة، وحرارة مدت جسدها، كمن ارتوى بعد جوع سنوات.. لايهم ان أجوع
..رددت مع نفسها.. ان يأكل أ طفالي وأ نجو بهم من هذه الحرب هو ما أبتغيه.
حاولت ان تعلم في الايام التي تلت ليلة الحلوى الاولى ...من صاحب اليد الحانية والقلب الغافي في بحيرة المجهول ..من احس بجوعها وانينها.. من الذي اعاد الى اغصانها نسغاً خجولاً ايقظ مشاعراً قد نسيتها في خضم قتالها مع الحياة ... بدأت تخرج من غرفتها وتتجاذب اطراف الحديث الحزين مع بقية النساء…كل منهن لها روايتها تبدأها بوجع كسير ينخر حتى العظام .. لتنهيها ببكاء مرير.. فهذه تركت اولادها وهربت مع بناتها لتنجومن القصف، وتلك اتى بها زوجها مع اطفالها ليبقى يحرس البيت، واخرى لم تسمع اخباراً عن بكرها منذ شهر ..واخرى.. واخرى.. اثقلن عليها بالشجن الذي بدأ بعزف ناي ينتحب لينتهي باوركسترا لطم صبغت الوجوه والصدور.. مزقتها وهي تستمع بالدموع ومعاقبة الجسد لنفث الاحزان مع الاخريات.
حاولت ان تبحث في الوجوه التي تلتقيها في باحة الدارعن فارس ليلها ، ذهبت للنهر مرتين لجلب المياه اللازمة للاغتسال بعد ان نفد الماء الصافي في البيت... تفرست في وجوه كل الرجال عسى ان تلمح نظرة من احدهم تخبرها عن صاحب اليد الحانية.. كأنه يعلم بسهرها طوال الليل تستمع لرعود القصف، وحيدة، مهزومة، مرمية على حافة العالم.. لا أنيس لها سوى أنفاس صغارها التي تبقيها حية..
بعد ايام.. بدأت عيون اطفالها البريئة ترنو الى ما بيد الاخرين...بدأ كل شيء ينفد منها المال.. الصبر .. تلعثمت طفلتها وهي تطلب:
ماما نريد تفاحاً.. ماما نريد موزاً.. وددت لو تتلاشى تتفتت ولا تشهد تهدج التوسلات في عيون طفلتها ..لم يتبق لها سوى أجرة السيارة التي ستقلها لبيتها اذا توقفت هذه الحرب المجنونة ... بعد ثلاثة ايام تحولت الحلوى التي تزورها فجرا كل يوم الى نقود..خمسة آلاف دينار تزحف بنعومة من تحت الباب.. من الذي يعلم بمكنونات قلبها؟ من الذي يسكنها ويرحل عبر شرايينها؟من الذي يكسر جدران ذاكرتها ويبكي دمعها.. فيحس بها.. ويأتيها كف من نور سماوي أزاح عتمة عزلتها، دثار من ياسمين احتضن أنوثة منسية..وايقظ حاجات تناستها مرغمة لتنكفأ في تفاصيل حياة يومية مرة..
فعلت ما بوسعها لتبحث عن فارس ارقها.. لم تتوصل لنتيجة.. لكنها علمت ان الغرفة التي تجاور غرفتها في الطابق العلوي ينام فيها أقرباء صاحبة البيت وكلهم من الرجال وحذرتها ان تغلق بابها جيدا في الليل.. فالشيطان شاطر والكل يعلم أ نها امرأة جميلة ووحيدة.. تبسمت في داخلها.. ما أحلى الشيطان الذي يؤنس وحدتها ويحس برحب عتمتها.. وذلة حاجتها.... إذن هو جارها.. تألفت و خوفها .... هناك من يحتضنها آمنة في قلبه ويطيب بعطر حنينه انكسارها ولا يطلب الثمن.. وما عليها سوى ان تعتقله وهو يرتكب إثم الحنين إليها.
انتظرت الليل الذي تتراقص نجومه على أنغام الصواريخ وكما في كل ليلة على مدى أثني عشر ليلة بدأ الدق الهامس.. أدارت المفتاح ببطء كي لا تفزع الطارق، وتقطع عليه طريق الهروب منها..أغمضت عينيها وساحت في خيال ملتهب تبحث عن أي صورة لكائن حتى تندس بين ثناياه باكية فجيعة مبكرة ووحدة متوحشة.. فتحت الباب بأقصى سرعتها فلامس وجهها حرارة أنفاسه اللاهثة.. كاد جسدها ينصهر ملتصقا دون وعي منها بالعامل الذي يعمل في مزرعة أخيها..
في تلك الليلة تناثرت أقاويل بين النساء، بان فلول الجيش المهزوم أتوا بمنصات صواريخ وخبأوها بين النخيل الذي تعج به المنطقة، و عند الفجر.. أتى الناس من كل حدب وصوب ليساعدوا في إنقاذ من تبقى من العائلات التي هربت من بغداد وألتجت الى بيت أم سلام بعد ان مزق صاروخا البيت كله… لكنهم عجزوا عن فك جسدين ملتحمين لامرأة ورجل توحدا في الموت محترقين..
كاتبه وصحفية عراقية
التعليقات (0)