مواضيع اليوم

دفاع النملة عن المارد إهانة

حكى لي أحد الأصدقاء مرة كيف تعرض لموقف محرج مع ولده الصغير الذي لم يتعدى آنذاك الثامنة من عمره. يقول صديقي:

كان إبني حاضراً معي في مجلس لبعض الأهل والمعارف (ديوانية في المصطلح الخليجي) عندما نشب شجار حاد بيني وبين أحد الحضور شتمني فيه. فسكتّ ترفعاً منّي عن الدخول في مباراة بينج بونج للسباب بيني وبينه تنهدر فيها الكرامات وقد تتصاعد إلى ماهو أسوء. ولكني صعقت عندما نهض إبني الصغير الجالس بجانبي إثر سماعه لشتمي، ولعبة سيارة المطافي الحمراء التي كان للتو يلعب بها على السجادة لاتزال بيده، ليرد على خصمي بنفس شتيمته لي، ويكيل له الصاع صاعين بوابل إضافي من السباب وسط ذهول وضحك الحاضرين.

يضيف صديقي قائلاً:

لوهلة قصيرة، لم أعرف ماذا أفعل، فلم أتوقع من ولدي الصغير أن يفز للدفاع عني من إهانات الغير لي، وشعرت بإحراج شديد في ذلك الموقف لأني أظهرت للحاضرين، ولولدي بالخصوص، بذلك السكوت عجزاً غير مقصود للدفاع عن نفسي. فتداركت الوضع المحرج ونهرت إبني على قلة أدبه وتدخله في شؤون الكبار وأوضحت له أنني لم أحتاج إلى دفاعه عني، وأضطررت إلى الإعتذار بعدها ليس للحاضرين فقط إنما ماهو أسوء إلى خصمي البغيض الذي بدأ في شتيمتي.

دعوني أترك هذه القصة الآن لأضيف بعداً آخر للحوار، وسوف تدركون مغزاها عند قرائتكم لباقي الموضوع.

نشر موقع السي أن أن قبل بضعة أيام خبر إصدار حكم قضائي في باكستان بإعدام إمرأة مسيحية بتهمة الإساءة إلى الذات الإلهية والنبي محمد بقولها لبعض النسوة المسلمات حسب ماورد في وثائق المحكمة أن:

"القرآن مزور، ورسولكم محمد مكث في فراش الموت لمدة شهر قبل وفاته، لأن الديدان كانت تملأ أذنيه وفمه، وقد تزوج من خديجة فقط بسبب مالها، وأنه بعدما تمكن من نهبها طردها خارج المنزل".

هناك عدة تساؤلات تمر بذهني عند مصادفتي لمثل هذه الأخبار، أهمها هو هذا:


في الكثير من الأحكام الجزائية في الدول الإسلامية، هناك بنود تعاقب، وتعاقب بقسوة شديدة تصل إلى الإعدام كما رأينا في قضية المرأة الباكستانية، على مايسمى بـ "جريمة التجديف"، أي الإساءة اللفظية إلى المقدسات، وبالخصوص الذات الإلهية أو الرسول. والسؤال هو:

 

 


مالذي يتخوف منه المشرع المتدين (وأقول المتدين وليس المسلم حصراً لأن عقوبة التجديف لاتزال تطبق في بعض المجتمعات المسيحية أيضاً، بولندا كمثال) حين يشرع قوانين وحشية كهذه؟ هل هو الخوف من تفشي الفساد في المجتمع مثلاً؟ فإن كان هذا هو السبب فهو سبب واهي وساقط، لأن هناك مجتمعات أخرى لاتحترم المقدسات، أياً كانت، ولاتهتم بحرمتها ومع هذا فهي مجتمعات ناجحة، كما رأينا في نموذج الدنمارك وغيرها الكثير من الدول اللادينية الأخرى، إذ أن مستوى الفساد فيها أقل بكثير مما هو سائد في المجتمعات المؤمنة التي تطبق تلك العقوبات.

أما إن كان التشريع نابع عن تخوف من تزعزع إيمان المؤمن وإنجرافه عن دينه وبالتالي إنحداره إلى الزندقة والإلحاد إذا تم التقاضي عن الإستخفاف بمكونات عقيدته من كتب وأنبياء وملائكة وقداستها، فهذا يثير تساؤل:

بصرف النظر عن أن الإلحاد بحد ذاته هو أحد الحريات التي كفلتها جميع مواثيق حقوق الإنسان فيما يخص إختيار الفرد للعقيدة، أو عدمها، وبصرف النظر أيضاً عن أنه ليس بعلة يُحتج بها لترويع الناس من أن تفشيها في المجتمع يؤدي إلى إنحلاله، لأن هذا الزعم نقضه الرخاء والإزدهار الذي تنعم فيه المجتمعات العلمانية الملحدة، إنما السؤال هو:

هل العقيدة الدينية بهذا الضعف والهشاشة التي تستلزم الحماية بهذه القوانين القمعية؟ هل هي من الهزل والرقة بحيث أن مجرد إدعاء أن القرآن كتاب مزيف مثلاً سوف يزعزع إيمان أفراد المجتمع بتلك العقيدة ويسبب تداعيها في أنفسهم بالرغم من أنهم تجرعوها مع حليب أمهاتهم ونشؤوا عليها وتجذرت في عقولهم؟ ألهذا السبب مثل هذا الإدعاء يمثل خطراً حقيقياً على هذه العقيدة يستحق معه القتل؟

في الحقيقة لاأرى تبرير آخر مقنع لمثل هذه العقوبات الوحشية القاسية في حق من أبدى رأياً مغايراً للمعتقد السائد، كقدسية القرآن، غير أن المشرع لهذه القوانين ومن يؤيده يعتقد فعلاً، ولو باطنياً، بأن العقيدة التي يستهدف القانون حفظها هي في الحقيقة في مستوى من الهشاشة التي تتطلب فرض عقوبات تصل إلى قتل كل من يطعن فيها. إذ لو كان المشرع يؤمن أيماناً تاماً بصلابة معتقده لما كان هناك أي تخوف من أي نقد لها، مهما كان شديداً، فهي سوف تصمد أمامه، أليس كذلك؟

أليست مدعمة بالحجة الإلهية الدامغة والسند الرباني؟ إذاً لماذا التخوف من نقدها وتشريع العقوبات الصارمة لمن يجرأ على ذلك؟

وفي حادثة آخرى مشابهة، قبضت سلطات الأمن الفلسطينة بالتعاون مع قوات المخابرات والنيابة العسكرية على شاب في الضفة الغربية بتهمة الإساءة أيضاً إلى الذات الإلهية بعد مراقبة له دامت عدة أسابيع. إذ ظهر أن هذا المتهم كان ينشر مقالات تجديفية مسيئة لله وللرسول في مدوناته العربية والإنجليزية وعلى صفحته في الفيسبوك. وقد يكون الدافع الأول الذي حث السلطات الفلسطينية في النيل منه بشتى الوسائل المتاحة هو زعمه بأنه الله!

حيث أن السلطات الفلسطينية لم تكتفي بقوات الأمن فقط في تعقب الشاب المدعي الألوهية ومراقبته والقبض عليه، بل كثّفت جميع الإمكانيات الأخرى المتاحة لها في ملاحقته باستدعاء قوات المخابرات والنيابة العسكرية أيضاً، لايملك الإنسان إلاّ التساؤل فيما إذا كانت السلطات الفلسطينية، وغيرها ممن ينتهج هذه الأساليب التعسفية، بتسخير كل تلك الإمكانيات وتكثيف كل تلك الأجهزة الأمنية في مطاردة شاب وحيد أعزب، تتخوف فعلاً من coup detat (قلب نظام حكم) يشنه هذا الكائن الضعيف على الإله بجبروته وجنوده في سمائه السابعة؟

أرجو أن يكون مغزى الحادثة التي ذكرتها في مقدمة المقال قد بدأ يتضح الآن.

هل الذات الإلهية التي تمسك الكون بقبضتها تحتاج إلى حماية البشر الذين لايمثلون إلاّ جزء تافه ضمن ذلك الكون .... والذي هو بمجراته ونجومه وكائناته في قبضة ذلك الإله يتصرف به كما يشاء؟
أليست هذه المحاولات الدفاعية البائسة إستخفاف بقدرة الإله وإهانة له؟وعندما يدافع البشر عن الذات الإلهية ويعاقبون بالقتل كل من يسيئ إليها، فهم يدافعون عن ماذا بالضبط؟ كيف يكون للإله ذات أصلاً والذات شيئ، إنما القرآن يقول "ليس كمثله شيئ"؟وهل من الممكن، على افتراض أن للإله شيئ إسمه ذات، شرح ماهو الضرر الذي سوف يصيب تلك الذات وكيف سوف يصيبها حين يسئ إليها أحد؟ هل سوف تنجرح مثلاً أو تنهار نفسياً إذا انتقدها أحد؟

لن تنجرح أو تنهار من أي شيئ، ناهيك عن مجرد إلقاء الكلام عليها، بل هذا الدفاع عن تلك "الذات الإلهية"، التي ليس لها تعريف ولاتعني شيئ، بالقتل المتعمد ماهو إلاّ محاولة وحشية بائسة يائسة للتعويض عن نقص في الذات البشرية، التي نعرف بالضبط ماهي، والتي تسعى لأن تحمي ضعفها وتسد ثغرات جهلها وتأمن من خوفها في صراعها ضد جبروت الطبيعة التي لاتفهمها ولاتستطيع ضبط قسوتها، فالزلازل والبراكين والأعاصير والأوبئة لاتزال تحصد البشر بالملايين وليس للإنسان سبيل إلى منعها أو التحكم فيها، وكل مايصدر عنها من دمار يُعامل بسبب ذلك الضعف كغضب من الآلهة. وهذا القتل المتعمد لبني جنسهم بإسم آلهتم ماهو إلى إمتداد لطقوس ومراسيم دموية نابعة عن جهل، مارسها البشر طوال التاريخ ولايزالوا للأسف إلى اليوم يقدمونها كأضحيات وقرابين لاسترضاء تلك الطبيعة وإخماد غضبها.

والمشكلة التي تعاني منها أممنا المتخلفة علماً وتشريعاً هي ثقافتها العلمية الإنتقائية الناقصة، فهي تأخذ ماتشتهيه من العلوم ومنهاجها وترفض مالاتستسيغه منها. وطالما استمرت هذه الإنتقائية العوراء للعلم والمعرفة، فسوف يستمر معها جهلها، وكلما أستمر جهلها كلما إستمرت في طقوسها البدائية في إصطياد الضحايا البشرية وتقديمهم كقرابين على مذابح الحريات لتجنب غضب الطبيعة.

 

مدونة بصيص:   basees.blogspot.com/




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !