مواضيع اليوم

دفاعًا عن مفهوم الاعتدال !

علي آل طالب

2010-02-20 10:37:47

0



الخوض في حديث "منهجية الاعتدال" في العالم العربي بات حديثًا مأزومًا ومربكا، بعد أن أصبح محل تجاذب ومزايدة لثقافتين؛ الممانعة والموادعة، فثمة أطراف عديدة ما تنفك عن مراهنتها على نموذج المقاومة باعتباره الطريق الوحيد – بالنسبة لها - في انتزاع الحقوق وعودة الأراضي المحتلة، بعد أن أثبت المقاومة في لبنان وقطاع غزة نجاعة هذا الرهان، وفي المقابل أيضا هناك اصطفاف – معتدل -استراتيجي وتحالف إقليمي عربي فيما يدفع عملية السلام مع الكيان الصهيوني للأمام.

وبمعزل عمّا هو بالإمكان استخلاصه من تجربة هذين النموذجين، أو ما تتمخض عن من نتائج أو ما تؤول إليه الأمور؛ وفي الآونة الأخيرة من الملاحظ أن مصطلح "الاعتدال" بات محل تجاذب إعلامي محموم، حيث لم يقتصر على طرفي النزاع بقدر ما كان في متناول العامة من الناس، وهنا مكمن الخطورة، فعندما تنزل المناكفات إلى مستوى المجتمع بكافة مكوناته، فلا وجه للغرابة إذا ما تطبع السلوك لديه بما يُغلب الاصطفاف للأطر الضيقة على حساب النسق الوطني الأرحب، ومما لا يدع مجالا للشك يحدث هذا بعد أن يدخل الوعي المجتمعي كله في عملية أشبه ما تكون بالشحن السلبي المكثف، نتيجة تسويق لمعانٍ مقولبة ومُحرفة، لا تطال المفاهيم والمصطلحات فحسب، بل وتشمل بناء الصورة المشوهة للحقائق والوقائع أيضًا.

ولا غرو أن نشهد انزياحًا لمفهوم "الاعتدال" إلى غير محل عن معناه الحقيقي والأصلي، وهذا الانزياح "المخملي" بشكل أو بآخر يؤدي لانقلاب الصور الأخرى التي هي من سلخ سلالة المفهوم، كمبدأ التسامح بين الأديان والمذاهب، وضمانة العيش الواحد بين كل أبناء المحيط، وسيادة قانون الاحترام المتبادل .. كل هذه المفاهيم عرضة للانقلاب، طالما بقى الصراع أو التنافس خارج الصندوق الأخلاقي؛ إلا أن ذلك لا يساوي شيئا في الميزان خاصة إذا ما تعلق الأمر بـ (الوعي) باعتباره هو المحور في تأسيس السلوك في الواقع الميداني. والشيء بالشيء يُذكر فيما لو تم استدعاء نظرية "كي الوعي" الذي استخدمها الإسرائيليون لإلحاق الهزيمة المعنوية في نفوس الفلسطينيين ومن ورائهم العرب قاطبة قبل أن هزيمتهم سياسيا أو أمنيًّا، ولو أن مثل هذه النظرية وغيرها، كما أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، قد تساقطت وتهاوت أمام نظرية وعي جديد، تقوم على إرادة التحدي والصمود.

إذن نحن أمام ما بالإمكان وصفه بـ (المتاجرة بالوعي) جراء تغييب واضح للحقائق، ناهيك عن قولبة المفاهيم وفبركتها، والتي تعبر الاستراتيجيات الكبرى هي الجهة المسؤولة عن ذلك، بمعنى أن المصالح العليا تقتضي فرضيات ثقافية يتطبع بها السلوك الاجتماعي والذي يعتبر نتاج طبيعي لجهد إعلامي مكثف، يسهم بشكل أو بآخر في تغيير للمفاهيم وارتسام صورًا مربكة ومشوهة للوقائع والأحداث.

يأتي ذلك في الوقت الذي والإعلام وصناعاته قد دخلت في طور التحديث المادي والمعنوي، بعد أن بات الإعلام المعاصر على تواصل دائم مع المختصين في علوم النفس والاجتماع. ناهيك عمّا يأخذ به من تقنيات اتصالية حديثة، بحيث لا يقتصر نطاق استهدافها المؤثر على الشريحة العامة من الناس فحسب، بقدر ما تحاول أن تتوغل إلى أماكن شديد الغور، للتأثير على آلة الوعي البشري بصفته الشاملة، عملا بمقولة إن من يمتلك الإعلام يستطيع أيضا أن يعلن تفوقه في مواقع أخرى من النظم المؤثرة !.

وبالعودة إلى مفهوم "الاعتدال" و"المعتدلين" حيث إنه وبالرغم من الإدراك الواعي إلى ما يحمله هذا المفهوم من تعريف يتماهى والرؤية الاستراتيجية الأمريكية ومن خلفها الإعلام الدولي على اعتبار أن ثمة دولا أو جماعات صُنفت في الإطار "المعتدل" في مقابل أخرى قُيدت في قائمة "الإرهاب" مما يجعل الجهة المختلفة مع هذه الرؤية في سجال دائم يكون محوره الأساس هو (رد الفعل)، وقد يكون هذا أمر طبيعي جدًا، إلا أن اللافت في الأمر ليس في إجراءات التصدي المعهودة، إنما الغياب الدقيق للمعاني الأصلية للمفاهيم والمصطلحات، تحت مبرر الانشغال بالرد من أجل الرد، فتنخفض نسبة التأثير الواعية التي ينبغي أن تصل للمتلقي بشكل مباشر، بالتالي وربما دون شعور يقع الإعلام المناوئ أيضا في فخ التغييب الواقعي للمفاهيم والمصطلحات نتيجة لانسياقه وراء البانوراما من الأحداث، وتغافله عن نقاط دقيقة لا تقل أهميّة عن أي موقف يستحق التصدي له. فإن تمكنت جهة ما من الجهات في تغيير دفة الرأي العام لصالحها، فلأن رهان الاستهداف بالنسبة لها، يكمن في المادة الإعلامية المباشرة وقدرتها على تشكيل نمط إدراكي مناسب، إلا أن التعاطي مع بعض المفاهيم؛ كمفهوم "الاعتدال" ينبغي التوقف عنده بحذر شديد!.

واللغط الحاصل إزاء مفهوم الاعتدال بالذات ما يزال مستمرًا، وقد استطاع الإعلام اليوم، سواء الممانع منه أو الموادع أن يساهم بشكل أو بآخر في اختلاق معنى مغايرًا لما هو عليه في الواقع اللغوي وكذلك المعنوي، وكما يبدو بأن الصورة النمطية التي استقرت في الأذهان عن هذا المفهوم وغيره من المفاهيم، خير شاهد على فداحة السلوكيات السلبية والتي يتم اختزالها في عناوين التشظي والانقسام الاجتماعيين.

وبطبيعة الحال، ثمة بون شاسع ما بين منهجية الاعتدال بصورته العامة والمجردة، ومفهوم الاعتدال الذي هو وفق الرؤية الأمريكية وإستراتيجية الحرب على الإرهاب، ومتلازمات الصراع العربي الإسرائيلي على وجه الخصوص.

وكما يبدو أن صناعة الميديا هي اللاعب الأبرز في تشكيل المشهد السياسي حسب الصورة المنشطرة إلى قسمين؛ المقاومون إرهابيون، والمعتدلون هم أنصار السلام. هذه هي الصورة المصنوعة التي يُراد لها أن تحتل حيزًا من الوعي المجتمعي، وأن تأخذ معنى مغايرًا لما هي عليه في الجوهر بل والواقع أيضًا. فالاعتدال كمنهجية وحسب الرؤية الأمريكية أشبه ما تكون بشهادة الضمان، بحيث إنه لا يحق لأي جهة ما – حكومية أو معارضة أو حزب أو تيار .. – الحظوة بها إلا بعد أن تتماهى رؤيتها الخاصة مع كل ما هو بالإمكان أن يؤمن المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة، وأن يضمن حق الأمن والاستقرار لإسرائيل بالدرجة الأولى، ولو كان ذلك على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته المشروعة.

اللافت في الأمر أنه لا يكمن في حدود الاندفاع إزاء إصدار الأحكام المسبقة؛ من خلال نعت الآخر؛ إما بـ "الإرهاب" أو "الاعتدال"، أو أن هذه الدولة أو تلك المنظمة أو الجماعة أو الحزب، هي من الجهات المصنفة ضمن قائمة "الإرهاب"، وفي المقابل أيضا ينسحب التصنيف نفسه على الجهات المعتدلة، سواء كانت دول أو ما شابه من التكوينات التنظيمية ذات الطابع المدني، فهذا لم يكن مفاجئا، بقدر ما هو اللافت أن يتم تناول مصطلح "الاعتدال" أو "المعتدلين" أو"الجهات المعتدلة" بازدراء من قبل الإعلام الممانع، والحال ذاته ينطبق على الإعلام المعتدل عندما يتناول مصطلح "الإرهاب والإرهابيين"!. ولعل مصطلح "الإرهاب" جاء في سياق استراتيجية "الحرب على الإرهاب" والتي لا تخرج عن مضامين؛ من لم يكن معنا فهو ضدنا، بل وذهبت السياسية الأمريكية وفي أوقات مختلفة إلى ما هو أبعد من ذلك وما لم يكن متوقعًا في إدانة من كان على الحياد، عبر تصنيفهم أيضا في قائمة "أعداء أمريكا". بالتالي قد يكون مثل مصطلح "الإرهاب" أخذ حيزه في المناقشة وعبر العديد من وسائل الإعلام المتنوعة.

الخطير في الأمر؛ هو ما ينجم – وبصورة بانورامية – عن مثل هذه المزايدات والتي ولا شك بأنها تترك آثارًا؛ تلقي بظلالها السلبية على الأجواء الاجتماعية، مما يهيئ الفرصة إلى إحداث حالة من التشرذم والانقسام بين أبناء المحيط الواحد، وإلا ماذا يعني وبكل سهولة أن يتلقى الآخر – المختلف في الرؤية – تهمة "التخوين" مثلا !؟. والذاكرة التاريخية القريبة جدًّا تحمل في جعبتها الكثير من مثل هذه المواقف، وعلى الصعيد الداخلي الأمريكي، فمعظم الذين عارضوا مشروع "الحرب على الإرهاب" قد اكتووا حينها وما يزالون بنائبات التخوين، الخيانة للبشرية والحضارة والخيانة للأمن القومي الأمريكي.

إذن لا يمكن فصل مثل هذه الممارسات عن ثقافة ذات طابع منظم، بإمكانها أن تسهم في تزييف الحقائق وقولبتها. فالمعتدلون والممانعون على حد سواء، قد انطلت عليهما – وإلى حد ما - لعبة فبركة المصطلحات وفذلكتها، وتفريغها من مضمونها الحقيقي، وهذا ما يتوافق مع النظرية الاتصالية ذات الصلة المؤثرة في المعنى، إما بتغيير المفاهيم أو المصطلحات أو الكلمات تغييرا كليًّا أو بإضافة معانٍ جديدة مكتسبة من خلال المحيط الأيدلوجي أو السياسي معًا. ناهيك عن الدور المؤثر الذي تلعبه كافة الوسائل الإعلامية وما تتركه من أثر، يؤدي إلى قولبة السلوك؛ وأظن بأن هذا هو المآل والناتج الطبيعي جراء تلك الفبركات الإعلامية، والتي تستتبع معانٍ مستحدثة ومشوهة، وبالتالي يترنح الوعي مابين معنى مغلوط، وسلوك غير مُرشّد. وإلا مفردة "الاعتدال" ما كان لها إلا وتأخذ معناها الأصيل؛ الذي يتماهي مع مضمون "تحقيق العدالة" والوقوف عند الحقائق بالكثير من الإنصاف.

وقديما قارب أرسطو بين مفهوم الاعتدال والفضيلة، وعرّفها بـ "الوسط بين الرذيلتين"، وبمعنى أنه ليس من المقبول استخدامها كمفهوم ومنهجية في غير معانيهما الطبيعية، كما أنه ليس من المبرر أن يُنعت بها الآخر وهو أبعد - في تطبيقاته -عمّا يكون عن المعنى الأصلي والقيمة الخاصة بها. ومما يُؤسف له وبعد أن كان الإعلام الدولي قد أدخل – مفهوم الاعتدال - في معامل الانتشار بعد تكرارها واجترارها، يأتي الإعلام الممانع – على وجه الخصوص – وبالمعاني المشوهة، ودونما فحص أو تمحيص يأتي ليضيفها إلى قاموسه الإعلامي اليومي، بل ويدخلها في نطاق الخدمة – وحسب نسخة التدويل الإعلامي الموجه – دون العناية بما تحمله من دلالات إيجابيّة ومضامين محمودة الجانب. هذا ما ينبغي أن يُتنبه له، ودلالات الألفاظ والمفاهيم والمصطلحات لا تنطبق بالضرورة على من يُعبر بها أو يدعي التمسك بها. وإلا لو أمعنت النظر قليلا في جوهر "الاعتدال" كمفهوم ومنهجية، لوجدته أكثر مقاربة للصمود والممانعة، وبعيدًا كل البعد عن مسارات الخنوع والاستسلام!. لذا بات من الضرورة بمكان الالتفات إلى تحرير المفاهيم والمصطلحات والعودة بها إلى دلالاتها الحقيقية، وألاّ يكون ذلك على سبيل الاستهانة، خاصة إذا ما أدركنا بأن الآلة الإعلامية الموجهة قد اتخذت من المفاهيم والمصطلحات قناطر لتمرير كل ما من شأنه أن يعزز من أدوار الثقافة المصنوعة والمعلبة والتي لا هم لها سوى افتعال المثير فحسب!.

لا شك بأن المفاهيم والمصطلحات المتنوعة والمتعددة المعاني تظل حمّالة أوجه، وهذه حقيقة ينبغي الرضوخ إليها، لكن الذي ليس بالإمكان قبوله أبدًا، أن يساهم الإعلام العربي بالذات، ليس في تفريغ هذه المفاهيم من محتوياتها الأصلية فحسب، بل والمساهمة في نشرها على هيئتها المفبركة، دونما وعي أو إدراك لما تؤول إليه الأمور لاحقًا. فمنهج الاعتدال هو المنهج الرامي لتحقيق العدالة والأخذ بكل ما من شأنه أن يرسخ مبدأ العمل بالقانون العادل والمنصف، إذ لا يمكن اعتباره أبدا مشروعًا انهزاميًّا أو استسلاميًّا، فكما أنه ليس كل مقاوم إرهابيًّا، كذلك ليس كل مهادنٍ ومُداهنٍ معتدلا..!.

--------------

صحيفة أوان الكويتية

http://www.awan.com/pages/guests/296591




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات