دع الشّرّ يعبر
أيًّا كان الحال فإنّ التشهير بإدارة الغرب الرديئة للقضايا العالمية المستفحلة وبما تتّسم به من أنانية وجشع واستكبار له ما يُبرّره ويدعمه بالحجج والبراهين التي يتعذّر دحضها،لكنّ التشهير وحده دون قدرة على الإقناع أو الرّدع يتحوّل إلى بكاء ونديب يثير سخريّة المشهَّر به إن لم يكن موقظا لضميره...
ليس من المبالغة في شيء القول أنّ العالم العربي يُعدّ في مقدّمة المتأذّين من الهيمنة الغربية احتلالا لأراضيه واستنزافا لثرواته ونيلا من هويّته وتشويها لإرثه الحضاري واستهانة بتطلّعات شعوبه في الكرامة والأمن والرّفاهة واستلابا لإرادتها الحرّة في الفعل الحضاري من أجل عالم تسوده القيم الإنسانية الخالدة...
ولئن تكن حالة الاحتقان والتوتّر والإحباط التي عليها الشعوب العربية غير خافية،وهي التي تفسّر التّوجّس من الغرب وتضاؤل الأمل في حسن نواياه تجاه قضاياها وتطلّعاتها،فإنّ الحكمة تقتضي ألاّ تستسلم لنظريّة "شيطنة الغرب" واعتباره مَصْدر شرّ ومُصدّر الحروب والكوارث والمظالم التي تغرق في وحلها وعفونتها...
وبما أنّ القضية الفلسطينية،رغم انحسارها في طلب الحدّ الأدنى،ورغم اشتعال قضايا عربية أخرى لا تقلّ عنها خطورة وإيذاء،ظلّت المعيار الذي نقيّم به أداءنا ونختبر به نوايا الآخرين تجاهنا فإنه بات من الضروري،ومن خلال الدخان الكثيف "لشرّ الغرب" الذي يُعتّم الرؤية،أن نستعمل المنظار المخترق لهذا الدّخان لما يلوح من "صحوة أميركية وغربية" وأن نُرهف السمع لما ترسله من إشارات تُؤشّر ليقظة ضمير غربي يتنامى متعاطفا مع الشعب الفلسطيني وحقّه في حياة آمنة وكرامة إنسانية...
في العتمة التي تلفّ العالم العربي ثمّة بصيص من نور حريّ بنا أن ننتبه إليه وأن نُعلن أننا نراه ونرغب في توهّجه...أو أننا لا نتوجّس منه شرّا حتى إن كان يكتنفه غموض يُبرّر ما يتهيّأ لنا أحيانا أنه بصيص نور لا ليُبدّد الظلمات إنّما ليُشعل حريقا كارثيا...
الحكمة تقتضي أن نكتم تخميناتنا وتهيّئاتنا وألاّ نُسيء بها لغيرنا لتكون ذريعته "لتأديبنا"...
إنّ التحرّك الأمريكي،هذه الأيام،بات لافتا ومحفّزا من أجل كبح الغطرسة الإسرائيلية التي تفاقمت بفعل رضاعتها حنانا مبالغا فيه أميركيا وغربيا...بدا التحرّك الأمريكي ملوّحا بالحدّ من "الدّلال الإسرائيلي" ورافضا لتجاوزه حدودا تنال من وقار الدولة الأعظم في العالم التي استطاعت أن تضغط على العرب من أجل استئناف مفاوضات فلسطينية إسرائيلية اتسمت بالعبثية ونالتها شيخوخة طول العمر وانسداد الأفق... فإدارة الرئيس "أوباما" عن طريق نائبه ووزيرة الخارجية صعّدت من لهجتها إلى حدّ ما اعتُبر "توبيخا" لنيتانياهو تلقاه في اتصال هاتفي من السيدة هيلاري كلينتون التي قالت في تصريح لشبكة "سي ان ان" :"إنّ إعلان المستوطنات في نفس يوم وجود نائب الرئيس هناك(في إسرائيل) أمر مهين."
ولئن كان من البديهي أن يترجم نائب الرئيس الأمريكي "جوزيف بادن" وهو يحلّ بإسرائيل عن امتعاضه من "الهديّة" التي تلقاها والمتمثّلة في الإعلان عن قرار بناء 1600 وحدة سكنية في مستوطنة "رامات شلومو" في القدس المحتلة،فإنّ اللافت أنّ هذا الامتعاض كان في شكل رفض لهذه الهدية فهمه البعض من خلال ما سُرّب من "تعمّد الضيف الأمريكي التأخّر لمدّة ساعة ونصف الساعة عن موعد مأدبة عشاء أقامها على شرفه رئيس الوزراء الإسرائيلي "،ومن خلال تصريحات أمريكية خرجت عن المألوف في تبريرها لكلّ جرم تقترفه إسرائيل...
يضاف لبشائر الحزم الأمريكي تجاه مدلّلتها إسرائيل موقف دول الاتحاد الأوروبي التي تعاطت بإيجابية مع تقرير "غولدستون" المدين لجرائم العمليات العسكرية في غزة،وتأكيد جلها على ضرورة التقيد بالشرعية الدولية ودعمها لعملية السلام والتذكير بحقّ الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلّة قابلة للحياة،فضلا عن تنديدها ورفضها لقرار بناء مستوطنات جديدة اعتبرته غير شرعي واستفزازي ومقوّض لجهود استئناف المفاوضات...
مهما بلغ بنا التّوجّس من الآخر فإنّه لا يصحّ أن نرفض ما يُظهره من مساعي تشير إلى مساندة حقوقنا أو بعضها،ولا يصُحّ أن نُجافي من يمدّ إلينا يده حتى إن لم يكن صادقا،ولا يصحّ ألا نتحيّن أيّ فرصة متاحة لإقامة الحجة على الخصم أو تأكيدها،خصوصا،ونحن على ما عليه من وهن وتشتّت وفقدان الشّهية في التحدّي فضلا عن غياب شروطه...
لقد بلغ بنا الأذى درجة أضحى فيها لا يضرّنا إنْ استجبنا لرغبة أميركية،أكانت صادقة أم مخادعة،في التمديد أشهر معدودات من أجل تحريك عملية سلام تحمّلنا كوارثها لعقود خلت...لنمدّدْ ونمطّط... فحياتنا مقامة على عادة التمديد والتمطيط من أجل البقاء،مجرّد البقاء...في التمديد فسحة أمل،وفي رفضه مأزق مواجهة العجز على تحدّي ضعفنا وتخاذلنا...
من يدري،لعلّ بركة أوباما تأتي بالمعجزة،معجزة استيقاظ الضمير العالمي من سبات طويل أنهك الإنسانية وأضرّ بالحرث والنسل وأوقع العرب في عشق فلسطين من أجل...قتلها.
أما إذا كان يُراد بنا شرّا من خلال مغازلتنا،"فلنتركْه يعبر" ولنستحضر قولة منسوبة لعمرو بن العاص:"ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشرّ،ولكنّه الذي يعرف خير الشرّين.." ولنعمل بالمثل القائل:"اقرأ ياسين وفي يدك حجر"-"يا أيّها الذين آمنوا خذوا حذركم" (النساء: 71)...
التعليقات (0)