دعوة الى الفلسفة.
يقترن لفظ الفلسفة في الثقافة العربية- والاسلامية على العموم- بترسانة من الأحكام الجاهزة التي تسلب المفهوم حقيقته الجوهرية وتخندقه في خانة الكفر والزندقة والكلام الفارغ. وهكذا أصبحت كلمة " فلسفة في المنتديات والحوارات اليومية مرادفا للهذيان و اللاعقل والتخريف الذي لا معنى له. وما يثير الانتباه أكثر هو أن الأمر لا يقتصر على فهم عامة الناس فحسب، بل يتجاوزه الى مستوى الثقافة العالمة أيضا. حيث نجد هذا الخطاب لا يقتصر على الأوساط الشعبية وحدها وانما يحضر كذلك عند كثير من " المثقفين ". وبات طبيعيا أن يخاطب أحدنا محاوره قائلا: (دعنا من التفلسف) أو ( هذه مجرد فلسفة زائدة)... كلما وجد في تصرف أو كلام المخاطب ما يجانب المنطق.
ان هذا النفور الجماعي من الفلسفة ينم عن ثقافة قاصرة و سطحية ولاعقلانية. ذلك أن الفلسفة فكر عقلاني بامتياز وهي أرقى أشكال تحرر الفكر البشري. وليس بغريب أن تلقى عندنا كل هذا الصد الشعوري واللاشعوري، مادام العقل في ثقافتنا قد دخل متحف الآثار منذ أمد بعيد. والجذور التاريخية لهذا الانطباع السلبي عن فعل التفلسف تمتد الى اللحظات الأولى التي تبلورت فيها بعض ملامح العقلنة في الفكر الاسلامي، عندما أقبل عدد من المسلمين على دراسة الفلسفة اليونانية خلال العصر العباسي الذي عرف حركة نشيطة في الترجمة والكتابة. غير أن بذور العقلنة تلك سرعان ما أهيل عليها التراب، ليتم اقبارها في المهد. حيث رافق ذلك الاقبال على الفلسفة نقاش كبير انتهى الى انقسام بين " علماء الأمة " حول قيمة الفكر اليوناني. واستطاع الراديكاليون تحقيق انتصار ماحق على الفلسفة ( عفوا على العقل)، توجه " أبو حامد الغزالي " باصدار كتابه الشهير " تهافت الفلاسفة " الذي كتبه تحت الطلب في خضم الصراعات المذهبية والسياسية، وتصدى فيه للفلاسفة عموما و "لأرسطو" وتلميذيه "الفارابي" و "ابن سينا" على وجه الخصوص. وهكذا كان سلاح التكفير الوسيلة الرئيسية التي وأدت التفكير الفلسفي مبكرا منذ ذلك الحين. لذلك ينبغي أن لا نتعجب كثيرا في زماننا ونحن نرى التكفير يتنامى في أوصال مجتمعاتنا بسرعة قياسية، مادامت الاطر المرجعية لهذا الفكر المنغلق تجد مشروعيتها في تاريخ انتصار النقل على العقل.
لقد نجح الغزالي اذن في طرد الفلسفة( الوافدة ) بعيدا عن عقول المسلمين . وتمت مصادرة العقل والعقلانية بسلطة مقص الرقيب الديني الذي يعد أبوحامد أحد اقطابه الكبار.وبالرغم من النجاح الذي عرفه الفكر الفلسفي بعد ذلك في المغرب الاسلامي والأندلس، والذي بلغ مستوى كبيرا مع " ابن رشد " حين رد على اتهامات الغزالي للفلسفة بكتاب مميز ، يعد مرجعا مهما في أدبيات الحوار والمقارعة الفكرية، هو: " تهافت التهافت "- بالرغم من ذلك اذن- لم تنجح الفلسفة في ايجاد موطئ قدم راسخ لها في الثقافة الاسلامية الى يومنا هذا... بينما نجح الأوربيون الى حد بعيد في تجاوز التخلف والانحطاط الوسيطي بفضل التفكير الفلسفي التي هزت كثيرا من الثوابت الكنسية ،وفتحت المجال واسعا أمام العقل للتحليق بعيدا في أجواء المعرفة الانسانية.( والمفارقة العجيبة أن ابن رشد كان صاحب الفضل الأول على الأوربيين للاطلاع على فلسفة اليونان من خلال أعماله وترجمته لكتب أرسطو). وهكذا حطمت العقلانية الأوربية خلال مرحلة " عصر الأنوار " آخر معاقل الأرثوذوكسية والدوغمائية الاكليروسية، فقطعت بذلك مع عقلية " صكوك الغفران " بشكل نهائي. وأنجبت أوربا أعلاما من المفكرين الكبار الذين وضعوا الحجر الأساس لحضارة العقل الحديثة منذ أن بنى " ديكارت " لبنتها الأولى حينما صدح بقولته التي ملأت الآفاق: " أنا أفكر اذن أنا موجود."
في هذه المفارقة اذن تكمن الاشكالية الحقيقية. وبدون افساح المجال أمام العقلانية والتفكير الفلسفي الرزين لن ننتظر الا مزيدا من الانحطاط و التخلف والانغلاق. و الى أن يحين الوقت الذي نفهم فيه الدلالة الحقيقية لمفهوم " الفلسفة "، باعتبارها منهجا وأسلوبا في الحياة وليست ترفا زائدا، سيظل التفلسف في غير متناولنا لأن العقل عندنا - ببساطة شديدة – مازال محفوظا في الأرشيف منذ زمان.
محمد مغوتي.26/02/2010.
التعليقات (0)