يقول الله عز وجل في سورة البقرة مخاطباً حبيبه صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة 186]، هذه الآية التي تستوقفنا لنتأمل فيها من عدة أوجه، فمن جهة جاءت الآية بين آيات الصيام في سورة البقرة وكأنها إشارة وتذكير بأن دعوة الصائم لا ترد، روى البيهقي بإسناد صحيح عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ لاَ تُرَدُّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ». ومن جهة أخرى المتأمل في القرآن يجد أن الناس أكثروا من التساؤلات للنبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت الآيات تجيب على تساؤلاتهم بصورة توحي بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو واسطة الإجابة، يسألونك عن كذا قل كذا، ولكن في هذه الآية جاءت الإجابة لتشير إلى أن الدعاء لا يحتاج إلى واسطة، فلم تأت الإجابة "فقل لهم إني قريب"، وإنما جاءت "فإني قريب". فمهما كنت ضعيفا لا يكاد يسمع صوتك أحد فالله يسمعه، ومهما كان بينك وبين الناس أبواب مغلقة فليس بين دعائك وبين الله حواجز ولا سدود ولا جدران، روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ).
اخترت لكم أن نعيش سويا اليوم مع دعوتين من رجلين صالحين، كل منهما دعا الله عز وجل دعوة خفية لم يسمعه فيها أحد، وسمعه الله تبارك وتعالى فتغيرت حياته وتبدلت ورأى من الآيات والبركات بسبب هذه الدعوة ما لا يتخيله عقل، ولا يصدقه إلا مؤمن بقدرة الله الذي إذا شاء فعل. صاحب الدعوة الأولى هو نبي الله أيوب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، يقول الله عز وجل في سورة الأنبياء: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء 83 – 84]. وقال الله عز وجل في سورة ص: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص 41 – 44]. أيوب عليه السلام كان من ذرية اسحق بن إبراهيم عليهما السلام، وكان أيوب عليه السلام رجلاً كثير المال من سائر صنوفه، من الأنعام والعبيد والمواشي والأراضي المتسعة، وكان له أولاد وأهلون كثر، ثم أراد الله عز وجل أن يبتليه فسلب منه ذلك جميعا، فذهب المال ومات الأولاد، وابتلي بالمرض حتى لم يبق منه عضوًا سليمًا إلا القلب واللسان، لحمه كان يتهرأ ويتساقط، والدود يسعى في جسده، وهو في ذلك كله صابر محتسب، ذاكر لله عز وجل في ليله ونهاره، واشتدت الأحوال سوءًا حينما طال مرضه قيل أنه استمر هكذا ثلاث سنوات وقيل سبع سنوات، لما ظهر به البلاء قال قومه: قد أضر بنا كونه معنا وقذره فليخرج عنا، فأخرجته امرأته إلى ظاهر البلد؛ فكانوا إذا خرجوا رأوه وتطيروا به وتشاءموا برؤيته، فقالوا: ليبعد بحيث لا نراه. فخرج إلى بعد من القرية، فكانت امرأته تقوم عليه وتحمل قوته إليه. كانت نعم المرأة الصالحة، وصل بها الأمر إلى أنها كانت تخدم الناس بالأجر لتأتي لها ولأيوب بالطعام، فتعود إلى أيوب لتطعمه وتعينه على قضاء حاجته وتقوم بمصلحته، كل هذا وهي صابرة على ما ألم بزوجها صابرة على فقد المال والأبناء، بل وازداد الأمر سوءًا حينما خشي الناس من زوجة أيوب أن تنقل لهم عدوى من أيوب فأصبحوا لا يقبلون منها خدمتهم، وأرادوا قطعها عنه. كل هذا وأيوب صابر على ما هو فيه، تقول له امرأته: يا أيوب، لو دعوت ربك لفرج عنك. فيقول لها: قد عشت سبعين سنة صحيحاً، فهو قليل لله أن أصبر سبعين سنة؟
ثم أراد الله عز وجل أن يرفع البلاء عن أيوب، فدعا أيوب بهذه الدعوة التي كان فيها تبديل حياته بالكلية، نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، اختلف العلماء في سبب الدعاء، بعضهم قال أنه أراد أن يصلي فلم يقدر على النهوض، بعضهم قال أن تلامذته الذين كانوا يكتبون عنه لما أفضت حال إلى ما انتهت إليه محوا ما كتبوا عنه، وقالوا: ما لهذا عند الله قدر؛ فاشتكى الضر في ذهاب الوحي والدين من أيدي الناس. بعضهم قال: كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما. بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من نتن ريحه، فقال أحدهما: لو علم الله في أيوب خيرا ما ابتلاه به البلاء؛ فلم يسمع شيئا أشد عليه من هذه الكلمة؛ فعند ذلك قال: "مسني الضر". كل هذه الأقوال وغيرها لم يرد فيها شيء ثابت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
أيا كانت الأسباب فقد دعا أيوب هذا الدعاء بينه وبين ربه، ولم يكن قوله "مسني الضر" جزعا؛ لأن الله تعالى قال: "إنا وجدناه صابرا"، بل كان ذلك دعاء منه، والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا، ماذا فعلت هذة الدعوة المباركة، أما أبناءه فقال بعض العلماء: قيل لأيوب صلى الله عليه وسلم: قد آتيناك أهلك في الجنة فإن شئت تركناهم لك في الجنة وإن شئت آتيناكهم في الدنيا. قال مجاهد: فتركهم الله عز وجل له في الجنة وأعطاه مثلهم في الدنيا. وقال بعض العلماء: مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإناث فلما عوفي نشروا له، وولدت امرأته سبعة بنين وسبع بنات.
وأما عن مرضه فقد قال له الله تعالى: "اركض برجلك" الركض الدفع بالرجل. وهذا لما عافاه الله. "هذا مغتسل بارد وشراب" أي فركض فنبعت عين ماء فاغتسل به، فذهب الداء من ظاهره، ثم شرب منه فذهب الداء من باطنه. فأصبح في أحسن صورة وحال، وأما ماله فقد رده الله تعالى عليه، ومن هذا العطاء والفضل والرزق ما راه البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا، خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ). (خَرَّ عَلَيْهِ) أَيْ سَقَطَ عَلَيْهِ، (رِجْلُ جَرَادٍ) أَيْ جَمَاعَةُ جَرَادٍ، (يَحْثِي) أَيْ يَأْخُذُ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، (عَنْ بَرَكَتِك) وَفِي رِوَايَةِ "وَمَنْ يَشْبَعُ مِنْ رَحْمَتِك " أَوْ قَالَ : "مِنْ فَضْلِك".
الدعوة الثانية هي دعوة يونس عليه السلام، النون هو الحوت ذو النون أي صاحب الحوت وهو لقب ليونس عليه السلام، يونس عليه السلام بعثه ربنا تبارك وتعالى إلى أهل نينوى من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله عز وجل فكذبوه وتمردوا عليه، فلما طال الأمر كذلك توعدهم أن يحل عليهم عذاب الله عز وجل بعد ثلاثة أيام، وتركهم وخرج مغاضبا أي غضبان من أجل الله ومن أجل كفر هؤلاء بالله عز وجل ولكن لم يكن قد أذن له بالخروج فكان خروجه هذا دون الأولى، أو أن يكون الغضب بعد ذلك، فلما خرج يونس من بينهم وتحققوا نزول العذاب بهم قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة فتابوا إلى الله عز وجل فكشف الله عنهم برحمته العذاب، فلما عاد يونس ووجد أنه لم ينزل بهم العذاب غضب لذلك وتركهم وانصرف، وقيل أنه لما رجع ولم يجد العذاب قد وقع بقومه خاف أن يقتلوه، فقد كان عنهم أن من كذب ولم يجدوا له بينة قتلوه فخاف من القتل وهرب، في جميع الأحوال أن يونس ترك قومه وانصرف مغاضباً، فلما تركهم وانصرف ذهب فركب سفينة في البحر فماجت السفينة بهم وأوشكت على الغرق وثقلت بما فيها فتشاوروا على أن يقترعوا فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من السفينة ليخف حمل السفينة، فأجروا القرعة فوقعت القرعة على نبي الله يونس، فألقوه في البحر، فأرسل الله عز وجل حوتا عظيماً فالتقمه، وأمر الله عز وجل الحوت ألا يأكل له لحما ولا يهشم له عظما فليس له برزق، فحمله الحوت وطاف به البحار وهو في ظلمات ثلاث، ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل، واختلف العلماء في فترة بقاء يونس في بطن الحوت منهم من قال ساعة ومنهم من قال يوم ومنهم من قال ثلاثة أيام ومن قال سبعة وغير ذلك والله أعلم.
في هذه الأثناء وبينما كان يونس في بطن الحوت سمع تسبيح الكائنات لله رب العالمين، وعلم أنه لا نجاة له مما هو فيه إلا باللجوء إلى الله عز وجل، فدعا بدعائه الخالد ، فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، هذا الدعاء وهذا التسبيح الذي كان فيه النجاه ليونس ولو أن يونس لم يسبح لله بهذا التسبيح لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة: { فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات 143 ، 144]، عندها استجاب الله له ونجاه مما كان فيه، فنبذه الحوت بالعراء وهو سقيم، قذفه الحوت من جوفه إلى الساحل، ليس فيه صحة وليس فيه قوة، كهيئة الفرخ الذي ليس عليه ريش، ومن رحمة الله عز وجل به، أنبت الله عز وجل عليه شجرة اليقطين قيل هي شجرة القرع، فكانت له فرشا وغطاء وطعاما وشرابا، حتى عافاه الله عز وجل.
على الرغم من أن يونس خرج مغاضبا وحدث له كل ما حدث إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يعلمنا الأدب مع يونس عليه السلام فيقول: (مَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ)، فيونس عليه السلام نبي كريم وله مكانته ومنزلته عند الله، أما دعؤه فعجيب ، إذ أن الله عز وجل يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) ، معنى ذلك أن هذا الدعء ليس خاصا بيونس عليه السلام، فكل مؤمن مكروب، إذا لجأ إلى الله عز وجل بإخلاص، وأسلم وجهه لله، وفوض أمره لله، ودعا ربه بدعاء يونس [لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين] يجد الفرج والنجاة إن شاء الله، روى الحاكم في المستدرك عن سعد رضي الله عنه ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من دعا بدعاء يونس الذي دعا به في بطن الحوت استجيب له ».
التعليقات (0)