دستور المحنة ومحنة الدستور
كمال غبريال
الدستور المصري الذي يجري إعداده الآن ليس بأي حال دستور ثورة تحرر، لكنه دستور يعبر عن محنة وظروف عصيبة وظلامية تمر بها مصر، ولابد مهما اجتهدنا أن يأتي معبراً عن ملامح هذه المحنة، لكن الحقيقة أن مسودة الدستور المعروضة جاءت أقل سوءً من المتوقع، وهذا بفضل المجهودات التي يبذلها دعاة الدولة المدنية، لقطع الطريق على من تصوروا أن مصر صارت مباحة مستباحة لهم، يعودون بها في نزهة سهلة ظريفة إلى عصور الجاهلية الأولى.
هذه هي نقاط اعتراض على مسودة الدستور من وجهة نظر مهتم بحقوق الإنسان وبأسس دولة مدنية حديثة، ولا تتعرض لما قد يكون بالمسودة من ثغرات يراها متخصصون في شتى المجالات التي يتعرض لها الدستور.
• أرفض المادة الأولى من مسودة الدستور، لإلحاق صفة "عربية" باسم مصر، ولتحديد دوائر انتماءات لها غير الانتماء الإنساني، فتسمية "جمهورية مصر العربية" تسمية مزيفة وغير حقيقية، فمصر هي مصر منذ ثلاثين قرناً قبل الميلاد على الأقل، فيما العرب لم يأت أي ذكر لهم في التاريخ قبل القرن التاسع قبل الميلاد، ومن الافتئات على الحقائق والتاريخ نسبة هذه الأمة والدولة العريقة إلى أي جنس أو قومية بخلاف القومية المصرية بذاتها في ذاتها، هذا مع الاحترام الواجب والطبيعي لكل الأعراق والأجناس.
والفقرة الثانية من المادة والتي تقول: "والشعب المصرى جزء من الأمتين العربية والإسلامية، ويعتز بانتمائه لحوض النيل والقارة الإفريقية وامتداده الأسيوي" هي استزادة لا معنى ولا لزوم لها، فما من أمة أو دولة في عصرنا هذا منقطعة الصلة بمن حولها، وقد صار العالم كله قرية واحدة صغيرة، ولا يمر علينا هنا إن كنا نذهب لاستزادة وتفصيل لدوائر علاقات أن نرصد تجاهل الانتماء لدائرة البحر المتوسط، وهي الدائرة التي نحتاجها لربط مصر بمراكز الحضارة العالمية، بعكس الدوائر الأخرى التي اعتنى بها واضع الفقرة، والتي تحمل بعضها لنا وعداً بالتخلف.
• أرفض المادة الثانية لذكرها مرجعيات تشريع بخلاف تحقيق المصلحة والمعايير العالمية لحقوق الإنسان، فهذه المادة كانت وستبقى عقبة كأداء في سبيل تحديث مصر وانطلاقها في طريق التنمية والتصالح مع الذات ومع العالم ومع العصر، فالقوانين في جميع الشعوب لا تقصد لذاتها محبة وتقديساً، لكنها أسس لتنظيم حياة الشعوب بما يحقق مصالحها المتغيرة بتغير الزمن والظروف، ولا قيمة لها في ذاتها إلا بقدر صلاحيتها في تحقيق الغاية المرجوة منها.
• أرفض المادة الثالثة التي تنص على " مبادئ شرائع المصريين المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية"، لتفرقتها بين أبناء الوطن الواحد في الأحوال الشخصية، ولذكرها المسيحيين واليهود وتجاهلها سائر الأديان واللادينيين والملحدين، فإذا كنا نتحدث عن دولة حديثة وليس ائتلاف قبائل أو عشائر فلابد أن تسري ذات القوانين على جميع المنتمين للوطن وكذا على جميع المقيمين فيه بصفة مؤقتة أو دائمة، لينحصر دور الدين في الجانب الروحي لحياة الإنسان، باعتباره علاقة خاصة بين الإنسان وربه.
• أرفض المادة الرابعة لشبهة تنصيبها هيئة كبار العلماء بالأزهر وصية على النظام السياسي باسم مرجعيتها في الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية، فهذا النص بوابة يدخل إلينا منها نظام مماثل لنظام ولاية الفقيه الإيراني.
• أرفض المادة السادسة لتجاهلها النصوص السابقة التي تمنع قيام أحزاب على أساس ديني، والاستعاضة عنها بنص معد خصيصاً للالتفاف حوله ينص على عدم تفرقة الأحزاب بين المواطنين على أساس الدين، وهو ما يسهل التلاعب به كما نرى من ضم أشد الأحزاب الدينية تعصباً لشخوص غير مسلمة مستعدة لأن تلعب الدور الذي تكلف به، وهو ستر عورة تلك الأحزاب مظهرياً وقانونياً، وهذه المادة بصياغتها هذه نموذج للصياغات التي الغرض منها ليس تحديد وإحكام تفعيل مبادئ ما، وإنما وضعت لتسهيل الالتفاف عليها والالتواء بها لتمرير المضاد لما توحي به مظهرياً.
• أرفض المادة (10) التي تنص على: "تلتزم الدولة والمجتمع برعاية الأخلاق والآداب العامة وحمايتها، والتمكين للتقاليد المصرية الأصيلة، ومراعاة المستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية والحقائق العلمية، والثقافة العربية والتراث التاريخى والحضارى للشعب، وذلك وفقا لما ينظمه القانون."، فهذا نص هلامي غائم يتحدث عن مطلقات مثل " التقاليد المصرية الأصيلة" و"المستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية"، ومثل هذه النصوص يضعها من يريدها بوابة للهيمنة وقمع حرية الفكر ووقف عجلة التطور، بما يصيب المجتمع لو تم تفعيلها بالشلل والجمود، كما تصلح أيضاً لتكون أساساً لمحاكم تفتيش ومكارثية جديدة.
• أرفض المادة (24) لأنها تحيي "الوقف الخيري"، وهو مجال لتهريب الأموال خارج ميزانية الدولة وبعيداً عن الأجهزة الرقابية وتعفيها من الضرائب. . هي انتقاص من سيطرة وإمكانيات الدولة لصالح جهات بعينها، فعداء بعض التيارات للدولة ونظمها واضح ومعلن، والنية في إضعافها وتجاوزها أو تهميشها جزء من رؤية تستهدف العودة بمصر إلى حالة مجتمعية وسياسية بدائية.
• أرفض المادة (37) لأنها تخصص "حرية إقامة دور العبادة للأديان السماوية"، وهو نص يفرق بين المواطنين وبين سائر الأديان التي تعرفها البشرية، وينفي حرية الاعتقاد التي تنص عليها نفس المادة، بما يتيح الفرصة لمن ينتوي إدخال البلاد في جحيم استهداف الأقليات كالبهائيين وما شابه، فتعبير "الأديان السماوية" وجهة نظر خاصة يتم فرضها على واقع متعدد ومتنوع، فجميع الأديان التي تعد بالآلاف في العالم ترى نفسها "أديان سماوية"، فماذا يكون "الدين" بصورة عامة غير علاقة بين الأرض والسماء، أي بين الإنسان وخالق الكون؟!
• أرفض المادة (38) التي تنص على: "يحظر الإساءة أو التعرض إلى الرسل والأنبياء كافة."، فهناك في القانون المصري ما يجرم ازدراء الأديان، وفيه الكفاية للوفاء بالمطلوب لو تم تفعيله بالصورة الصحيحة، والحيلولة دون توظيفه من قبل من يستخدمونه كأداة ضد خصومهم بعيداً عن روح النص وغرض المشرع منه، ووضع هذا النص بالدستور يهدد عبر سوء استخدامه حرية البحث العلمي والتاريخي، ولا يصب في صالح التقوى والإيمان واحترام الرسالات السماوية، وإنما سيخدم الممارسات الشمولية والمكارثية.
• أرفض المادة (52) لأنها تقحم التربية الدينية التي تختص بها الأسرة ودور العبادة في المقررات الدراسية ولأديان محددة بالطبع، وتتجاهل أصحاب الديانات الأخرى، وقد كان المنتظر أن ينص دستور دولة مدنية حديثة على الاكتفاء بتدريس مادة "الأخلاق"، لتجمع النشء على المبادئ والأخلاق الكفيلة بتوطيد العيش المشترك.
• أرفض المادة (68) لأنها ربطت مساواة المرأة مع الرجل في سائر مجالات الحياة "بأحكام" وليس "مبادئ" الشريعة الإسلامية كما تنص على ذلك المادة الثانية من الدستور، فالمبادئ الدينية خالدة بمرور الزمن، أما الأحكام فترتبط بالزمان والمكان والأحوال واجتهادات الفقهاء المختلفة، ومبادئ الشريعة الإسلامية تتفق مع مبادئ جميع الأديان في التأكيد على العدالة المساواة بين البشر، في حين أن الأحكام الفقهية تتأثر بما هو سائد باختلاف الأزمنة والأمكنة، ويعرف هذا جيداً الفقهاء والمتخصصين، وليس في هذا خروجاً على الدين والإيمان.
• أطالب بتعديل نص المادة (136) الذي يقول: "يشترط فيمن يترشح رئيساً للجمهورية أن يكون مصرياً من أبوين مصريين"، لتضاف كلمة "بالولادة" ليصبح النص: "مصرياً من أبوين مصريين بالولادة"، وحسناً تم التخلي عن اشتراط عدم سبق حصوله على جنسية أخرى، على أن يتم تعديل شروط رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة المذكورة في المادة (163)، لتصبح مماثلة لشروط رئيس الجمهورية من حيث الأصل، دون اشتراط "عدم الزواج من غير مصري"، ذلك حرصاً على عدم حرمان السلطة التنفيذية من كفاءات مصرية على تواصل مع المجتمع العالمي وحضارته.
• أرفض المادة (221) التي تنص على: "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة."، فهي لا تحوي تفسيراً لمصطلح دستوري هو "مبادئ الشريعة الإسلامية"، وإنما تفرض مفهوماً خاصاً مفارقاً لمحتوى المصطلح، كما أرفض في ذات الوقت الإقرار بتفسير المحكمة الدستورية العليا، التي كانت قد فسَّرت "مبادئ الشريعة الإسلامية" بأنها الأحكام الثابتة بالنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، فهذا أيضاً اجتهاد يستهدف فرض مفهوم خاص مفارق على المصطلح، حيث من الواضح لكل ذي عينين أن مصطلح "مبادئ" يشير إلى المبادئ الكلية المطلقة، والتي تأتي الأحكام (المتغيرة وفق الظروف) لتحقيقها في الواقع المعيش، في حين أن تثبيت الأحكام أياً كانت يجعلها مع تغير الظروف غير صالحة لتفعيل "المبادئ" التي هي جوهر المعتقدات والأديان وكل المثل العليا، في حين أن التمسك بالمبادئ الكلية وحدها دون الأحكام هو الوسيلة المثلى والوحيدة لتخليد العقائد والمثل العليا وتفعيلها في حياة الناس.
واضح في صياغة المسودة الدهاء والإلتواء تجنباً للصدام الذي يترتب على محاولة التأسيس الصريح لدولة دينية، مع وضع ما يكفي من الثغرات الكافية للذهاب بالفعل لدولة دينية، فالدستور هكذا لا يفرض الدولة الدينية، ولكنه يتيح الاتجاه إليها، وهو في نفس الوقت لا يمنع إلا قليلاً التوجه لدولة مدنية، رغم العقبات التي يضعها في طريقها، ليستغلها الذي يبذلون كل جهودهم لمفارقة العصر، لنكون هكذا لسنا أمام الدستور المرتجى بعد ما تصورنا أنه ثورة من أجل الحرية، لكنه أيضاً ليس الدستور الكارثة الذي تخوفنا من إخراجه على أيدي من يسيطرون الآن على البلاد والعباد.
أرفض إذن هذه المسودة للدستور لعدم توافر مواصفات الدستور الحديث فيه، وقد أضطر مرغماً لقبولها على سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه مرحلياً، لحين استرداد الشعب لمقدرات حياته من أيدي أهل التخلف والجهل والظلامية، هذا بالطبع ما لم تمتد أياد العبث والجهالة إلى المسودة لتحيلها إلى سواد ناقع، فحسن النية غير متوفر لدى الذين يمسكون بمصر الآن بين أنيابهم، وقد سنحت لهم فرصة تاريخية لم يحلموا أن تأتيهم على طبق من ذهب وبتلك السهولة، وهم مستعدون وجاهزون تحقيقاً لأهدافهم لتحويل مصر إلى أنهار من الدماء وفق ما يعلنون.
kghobrial@yahoo.com
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات (0)