درب من العمر-4- جنون الكتابة
حولت نظري إلى الشباك.التقطت بطنه السوداء في قعر الفناء. تنبهت أن اليل كان هنا منذ ثلاث ساعات بعد أن نسيت هدئته لما جلعت ظهري له. وقفت و اقتربت من الشباك .كانت النجموم تبرق في سمائها لماعة و لاتقتل لحمة السواد. نظرت الى المصباح يشع . قلت لعين هذا المرح المتكبر. يجرح كبرياء الليل ويقطع احشائه.سا كن يرسل سكينه للبقرليقطعني عن بقية ما تلف الظلمة من بشر.
قلت في سري إن هذا الليل عبقري يجمعني بخط الاستواء ثم دغدغته ببعض ملامحي و انا ابطن في فكري ان يدرني المعني .
قمت إلى زر الكهرباء و قد نويت أن اجهز على نور المصباح . حسبت خطوتي و رفعت مثال الحجرة إلى راسي كي اتمكن من المشي في غياب بصري.
فني النور و انقطع عني ما كنت اسرق بنظري من أشياء العالم .تقدمت نحو الطاولة و أنا اعد خطواتي،جلست أتحسس ورقي أنضده و اصففه .
كان القلم في يدي لم يبرح لعبه ودورانه بين أصابعي ،صعدت الضلمة إلى راسي و همست اني اكتب اليوم شيئا يكون معقودا لصحابه غير التي أمطرت من قبل.لا ماء فيها و لا نار ولا تراب و لا هواء. شيء من كل هذا و مني يدور في لحمي ثم زدت الفلسفة.اليوم اعرف سر الخط،مولده و نشأته ثم تساءلت هل الخط للعين أم للإصبع أم لما يدور في الهمس.
الان ابدا فتحي استطيع بعد ساعة و بعد ان تركت القلم الى المصباح اعيد نوره للحجرة تقرير أمر.كتبت دون ان يقطعني تبلد او يسممني عقم صار الكلام إلى الورق نهرا يفجر الأرض إلى البحر.تقلبت المفردات لذبذة نكهة كأسماء أمي وجدت إحساسا ليس كل ما فيه مني إنما خضبته قوة حولي تدفع حولي. ايحاء اسود خبا بياضه فينا حتى اطرحه في نفسي و في البدعة.
لم أكن امسك أمرا يطيعني تمام الطاعة . اضبطه لحدودي و ينضبط للمساحة.ضل المعنى دعاءا و أملا حرونا،يتمسح في صدري أو يعلو إلى راسي جسما نورانيا ضغطه إلى حافة القلم. قمت بخارج و داخل سلسلة في طرفها القائد ليل ياؤي و نصفها انا وخبر.استحكمت الحلقات بناءات بغت عن مدركاتي.انفلت مني بعض اسمها و وسطها لكني اقسمها على الصفحة و الصفحة.
جعل طبعي في الكتابة الرهبة من لحظة مجنونة أحيانا كابله صمودا و سرعة، لم يخذلني فيها دماغي .كنت امضي دونما التفات،ابعث خيالي أتصور فيه شكل العبارة بعد أن تعطلت آلة البصر إلى حين.قامت الحجب بيني و بينها فكاءني قعر المحيط لا يعرف لمعة أصدافه.كنت كالأعمى أمد يدي، اكشف بحس اطرافي. تمر أصابعي على الصفحة شمالا و جنوبا و شرقا و غربا فلا اعرفها عن خشخشتها و حفيف التوائها مع اخرى ترقد تحتها.شغف في لعنتها يغرى الجازبة تفتح رطبها و رحيقها و تشير الى صحبتها حتى أتيها.
للمرة الأولى انفر في مثل هذه البوتقة .اسود بها السواد و انا خاضع للقانون . اذا كتبت فليس لك إلا السفر إلى الأمام .كل الواحات غاصت و انمحت و لم تعد النخلة محطة تقبلك. يبلغ عماك الخطوط و التوليد والمعاني . لا تتحدى ما دامت خصوبتك هنا فاءن أغواك الشره باء متلاكهابما يمضي و ما يجئ فجفاف و بئس الذي تفعل.
كان من عادتي ان اقطع الجمل عند ما يلوح لي وجوب الإضافة أو التنقيح و التصحيح .أراجع كتابتي بغية أن اشبع منها فتاتي الزيادة غنية و قد امحوه شطبا أو أمزق الورقة حنقا . لكني هذه المرة محوت ما خلفي و استنصرت قدامى و ما يقبل من جديد التركيب.
خلق التجريب بصيرة بلا بصر . بارقة من صواب و جنون و طمأنينة و حرون .غزا قلمي حجره و المعنى في قوة المقاتل . أحسست إني كنت ارمي من نفسي خلقا اقرب إلى تجريد من حس و مادة. انفصلت عن العادة الى المغامرة .تبعت أول الأمر و أنا ارسم المفردات حتى لا تأتي شوهاء مضحكة بما قدرت ترهاء مضحكة . أقلقتني الكلمات التي كانت حروفها منفصلة غير متصلة . فقدت في طرف القلم تدقيق المسافة و فقدت البعد . لم اعد أدرك هل الحرف بعيد عن الحرف أم قريب . هل كانت الحركة عالية، صاعدة او منخفضة ،هابطة . هل تداخلت الكلمات فصارت عجيبة .
لكني اهتديت بعد لواء إلى سهولة .بقيت لذيذة زمن الإلقاء و بعده قررت أن اتخلص من التتنقيط و من كل الحركات . سرت دون أن توقفني النقطة أو تبطئني الفاصلة .تحررت من بعض الجمل و كففت حتى كاني في سير طارئ و رجل جديدة . تخلصت من أبي الأسود الدالي ومن سبويه استرجعت الزمن الأول للعربية . أصبحت بفكرة وفي فكرة أكثر جرأة .اضع المواضعة على حبل السرك ولكني بقيت على بعض الوفاء . لم افكر في في التفجير و القلب إن وجد الخاطر في نفسي نفورا.
كان يجب أن أكون على صلة دائمة بالصفحة .فلحظة أقف لا استجمع شتات الجملة تنقلب عني جغرافية الكتابة .ينقطع التأليف و التالف و يضيع رأس القلم و يفقد البوصلة فلا اعرف أين توقف السلسبيل . سخرت من نفسي لحظة فكرت أن التزامي كان حرية مطلقة و مراحل فجر عبودية الليل . يقف عند راسي يصدني إذا أدبرت .صارت جملي تغرق في أنها و لا تستطيع رجوعا إلى لحظة ماضية . كنت ارمي من نفسي شيئا اقرب إلى لحظة زمن تنغمس في الفوات الى حين تخلقها أخرى فلا تنبعث إلا في عمل الذاكرة. أول ما بانت الأوراق امامي مخطوطة. ضحكت منها كيف تحركت بي قبل أن يعود النور ليأخذني للعمى فأخال أن الأفكار فئران مراحيض لا تخرج إلا في سترت الليل لترتع في أوراق الجريدة.
تمعت في السطور صارت تارة تعلو و تارة تهبط و تارة تستقيم كما كانت في خطي . حافظت في الحقيقة على افقيتها مع بعض تحوير و تبديل .رايته غنيا بالتنويع. ارض بكل مقعراتها و محدودياتها و منخفظاتها .
عن لي و أنا أعيد القراءة مرات عدة أن الجوهر قد خبا في التعريجات التي أصابت السطور حتى انه زين لي أن الخط إذا نزل كان تلميحا لنزول الجمال و أن الصعود يدلل على جلال عبقري في الرونق و عمق المعنى صرت لا أرى ما أمامي إلا من خلال هذا الخاطر . يهتز راسي تارة و تستيقض البسمة إذا ظفرت بدليل .عمدت إلى قلم احمر أشرت به على ما رايته تنغيما في حدود السطر . حدبة و صعود المعنى قوة . انتقلت بالدوائر الحمراء إلى كل الأوراق و أنا اصعد في سعادة.
حدست أني قد كشفت بعد سر المعنى و خربشاته يكون اللفظ آلة تعمل على نبض الفكرة و الزعم . ترسم بالنقطة السنام و النقطة الوسطى و النقطة السفلى .اختلاف التقلب و التمرغ الذي يعتريه . يصير الحذف و التحليل عملا بعلم الهندسة و المعمار .تدخل المدينة في صيغ التفكيك . هنا بلغ البديع الصومعة و هنا رسبت به المجاري . ذلك المكان سيئ بلا هيئة و لا نظام لا يخضع للمثال . تأتي الأشكال في سكة الارهاس عملية شرعية للضرب و التبادل .
استسغت الفكرة وقلت هذا باب جديد افتح به جديدا في النقد ثم قلت ادفع الأمر إلى صديق يوسعها بتطلعه و أدواته فينفق فيها جهدا يصيب به خيرا عميما ،تقنن به الأبواب و يأخذ العباد بها و يغرم الباحثون ثم تكون مرحلة استفز فيها ما استطيع بصوت و اجلب عليها .و ادفع بالثورة يكون فيها النص بالخط الأول إلى رقم أو طباعة تفني تلك الروعة .امتد الليل حتى كاد الفجر ينزغ وانا على وعد أن أعود لتصحيح و التوسعة .
قمت إلى الفراش على هذه البطولة و قد اخذ مني التعب أخذا غصت به في قاعي دون أن اخلع ثيابي.
سعيف الظريف
درب من العمر
التعليقات (0)