دراسة تحليلية لقصة( نظرة ) للقصاص يوسف إدريس ( الجزء الثاني)
وحين كسب السارد تعاطفنا مع هذه الطفلة انتقل للزج بنا في دوامة القلق والإشفاق, وقد سلك في ذلك مسلكين : الأول هو تتبع حركة الحمل فوق رأسها كلما تحركت الطفلة. الثاني عرض أوصاف الطفلة.
وإذا كان الكاتب قد أولى عناية كبيرة لوصف بطل القصة ( الطفلة) فإنه لم يغفل الفضاء الذي كانت تتحرك فيه هذه الشخصية المثيرة . لقد بدا المكان صاخبا لينسجم مع الصخب العاطفي المقرون بتحرك الفتاة فالشارع الذي شهد معاناتها بدا عريضا مزدحما بالسيارات .مما يعطيه دلالة واضحة في القصة . ولو أن الشارع بدا غير ذلك لما تحقق المغزى من الأحداث. بمعنى أن المكان كان يلعب دور المعاكس لرغبات طفلة تنوء بحمل ثقيل خلال عمدتها من الفرن إلى بيت مشغلتها.
أما الزمان فإنه يبدو أكثر تعقيدا. إن الأحداث مسندة إلى الزمن الماضي . بحيث تهيمن الأفعال الماضية على كل مراحل السرد.وبالرغم من أن كل مشاهد القصة مرت في وقت وجيز من ذلك الصباح غير المحدد بدقة , فإن الانطباع العام السائد يبقى في كون الزمن غير مرتبط بهذا المشهد فحسب وإنما هو زمن مستمر مادامت الطفلة مسخرة , ومادامت سيدتها متمادية في استغلال براءتها . وما دام الكبار يغتصبون براءة الصغار. وقد كان لبداية القصة نوع من الإيحاء لهذا التقابل بين عالم الكبار القائم على الاستغلال وعالم الطفولة المغتصبة. يظهر ذلك منذ الجملة الأولى: ( كان غريبا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانا كبيرا مثلي ) وهذا أمر غريب بالفعل. غريب أن تطلب الصغيرة حماية من الكبار الذين كانوا سبب بلائها.
كما أنه لم يكن غريبا أن يطبع الوصف أسلوب القصة ولغتها. فقد اعتمد الكاتب على توظيف النعوت, حتى غدا النعت ملازما للوصف: ( وجهها المنكمش الأسمر- ثوبها الواسع المهلهل- الشارع الواسع المزدحم ...) كما وظف الكاتب أسلوب التشبيه في أكثر من مناسبة : كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين – الذي يشبه قطعة القماش –قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت ...) وهذه كلها تشبيهات ذات رمزية وإيحاء مما يعطي للغة القصة جمالية متسربلة بكثير من الخفاء. حتى ليظن القارئ أنه أمام لفة تقريرية مباشرة . يخدعه في ذلك استعمال الكاتب لمصطلحات عامية مثل : الصاج – سيتي . بينما الحقيقة أن استعمال هذين المصطلحين كشفا عن قدرات لدى الكاتب لاقتناص التعابير الأكثر تعبيرا عن واقع مزر لا نملك نحوه غير الإدانة.
ولعل غنى القصة وتطور الأحداث أملى على القصة طابعا الإثارة والتشويق . من جهة على مستوى سرعة المشهد الذي تحول إلى لقطات تتابع إلى درجة تشد الأنفاس . كما أن الجمل القصيرة أعطت الإيجاز مهارة نادرة المثال . زد على ذلك تجاوز الكاتب لنظام بداية وسط ونهاية إلى نظام تبدأ فيه الأحداث ولا تنتهي . كما تبدأ العقدة لتسير ليس نحو الحل وإنما نحو عقدة أكثر تعقيدا .فالطفلة قد ابتلعتها الحارة. هل اختفت الطفلة كما نفهم من الوهلة الأولى ؟ أكيد أن معاناتها الحقيقية ستبدأ الآن.كيف لا وقد ودعتنا تحمل بين ضلوع مخلفات نظرة تكاد تكون قاتلة.
وبهذا يكون الكاتب قد أبدع في قصة (نظرة ) إبداعا أيما إبداع .
.
التعليقات (0)