إعداد: د. سعيد التل.
ملاحظات:
1- تشكل هذه الورقة مشروع الفصل الثامن من كتاب يعدّه كاتبها بعنوان: «دور التربية السياسية في التربية الوطنية». وينشر هذا الفصل مقدماً، لأهمية موضوعه، في الشارع السياسي الأردني في الوقت الحاضر.
2- قرأ مسودة هذه الورقة مشكوراً كل من السادة، مع حفظ الألقاب، الأستاذ طاهر المصري، الأستاذ الدكتور عيد الدحيات، الأستاذ الدكتور محمد حمدان، الأستاذ الدكتور راتب السعود، الدكتور راضي الوقفي، الأستاذ حسني عايش، الدكتورة بيان عبدالحق، وكانت لهم عليها ملاحظات قيّمة.
3- يرحب كاتب هذه الورقة، بأي ملاحظات يمكن أن تغني مضمونها، وتجعلها أكثر كفاية في تحقيق أهدافها، وبالتالي أهداف الكتاب الذي تشكل أحد مشاريع فصوله.
قضية فلسطين، ليست قضية فلسطينية وليست قضية الفلسطينيين وحدهم، بل هي أيضا قضية أردنيةً وقضية عربية وقضية إسلامية وقضية إنسانية. فهي من جهة أولى قضية فلسطينية، لأن الشعب الفلسطيني هو الشعب الذي تضرر مباشرة من العدوان الصهيوني، فأرضه هي التي احتلت، وقراه هي التي دمّرت وأزيلت من الوجود، وجزء كبير من أبنائه هم الذين تعرضوا للتشريد والتنكيل والقتل. وهي أيضاً قضية أردنية ليس فقط بحكم العلاقات الخاصة والمميزة بين الأردن وفلسطين أرضاً وشعباً، مع أهمية ذلك، وليس بحكم أن حوالي ربع الشعب الفلسطيني يحمل جنسية الدولة الأردنية، مع أهمية ذلك أيضاً. إن قضية فلسطين قضية أردنية بحكم أن دفع العدوان الصهيوني عن فلسطين، وإقامة الدولة الفلسطينية على أرض فلسطين وعاصمتها القدس العربية، هو دفع هذا العدوان عن الأردن، ذلك أن للصهيونية العالمية، ومنذ نشأتها، نوايا عدوانية نحو الأردن أرضاً وشعباً. وهي من ناحية أخرى قضية عربية، ذلك أن القطر الفلسطيني جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، والشعب الفلسطيني جزء لا يتجزأ من الأمة العربية. وهي قضية إسلامية، ذلك أن أرض القطر الفلسطيني وعلى رأسها القدس أرض مقدسة إسلامياً، والمسجد الأقصى فيها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. وهي في نهاية التحليل قضية إنسانية، بحكم كونها قضية مجموعة من البشر، تعيش على أرض أبائها وأجدادها منذ آلاف السنين، تتعرض لعدوان غاشم ظالم أتى على قراها بالتدمير وعلى أبنائها بالتقتيل والتشريد والتنكيل. ومن المثير للألم والحزن والنقمة، ويزرع السخط والحقد والكره، من هذا العدوان الغاشم أمران مهمان. الأول، أن هذا العدوان الغاشم قد استند إلى أوهام تاريخية باطلة وغير مقبولة. أما الثاني، فهذا العدوان اللاإنساني البشع يقع في القرن العشرين ويقرره ويخطط له ويعمل على تنفيذه قيادات ذكية ومتميزة في العلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية أو العلوم الإنسانية، وتدعمه أكثر دول العالم تقدماً ثقافياً وحضارياً. إن أشكال العدوان المناظرة للعدوان الصهيوني على فلسطين وشعبها، والتي كانت تقع في الماضي البعيد كانت تقوم بها قيادات همجية وجماعات متوحشة مجردة من المشاعر الإنسانية. فعلى سبيل المثال، أن واحد من القيادات التي لعبت دوراً مهماً في العدوان الصهيوني على فلسطين وشعبها هو العالم الكيميائي وايزمن، والذي لا شك فيه أنه عالم كيميائي متميز ومثقف كبير، إلا أن موقفه في هذا العدوان قد لا يختلف عن موقف الذين خططوا وساعدوا هولاكو. أما الدول التي رعت ودعمت هذا العدوان ودعمته فهي دول متقدمة حضارياً وثقافياً مثل بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وغيرها.
من جهة أخرى، ومع أن هدف الحركة الصهيونية المعلن هو إنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، بقوم على تشريد شعبها العربي عنها، فإن هدف هذه الحركة البعيد، كما تشير مضامين الأدب السياسي المتعلق بهذه الحركة، هو السيطرة على المشرق العربي لتحقيق تقولاتها التوراتية وتطلعاتها الاقتصادية والسياسية. وبعبارة أخرى، إن دولة إسرائيل، وهي التجسيد المرحلي لخطة الحركة الصهيونية، ما هي إلا مرحلة أولى من المراحل التي تهدد الوطن العربي بصورة عامة والمشرق العربي بصورة خاصة.
لقد كانت فلسطين والشعب العربي الفلسطيني الضحية الأولى لعدوان غاشم شنته الحركة الصهيونية على الأمة العربية، إلا أن مصر والشعب العربي المصري، والأردن والشعب العربي الأردني، ولبنان والشعب العربي اللبناني، والعراق والشعب العربي العراقي وسورية والشعب العربي السوري وغيرهم من الشعوب العربية، مهددون جميعاً بهذا العدوان بطريقة أو أخرى، هذا إذا لم تتطور إرادة عربية واحدة قادرة على حسم الصراع العربي الإسرائيلي بسلام شامل وعادل ودائم.
بعبارة أخرى إن قضية فلسطين، هي القضية الأولى لكل مواطن عربي بصورة عامة ولكل مواطن فلسطيني وأردني بصورة خاصة. وستظل هذه القضية، القضية الأولى إلى أن يتحقق سلام شامل ودائم وعادل لهذه القضية وإقامة دولة عربية فلسطينية على الأرض الفلسطينية وعاصمتها القدس العربية. من هذه المنطلقات وغيرها، فإنه يترتب على المواطن العربي بعامة والمواطن الأردني بصورة خاصة أن يكون على وعي كامل بأن الخطر الذي يتهدده من الحركة الصهيونية، لا يقل عن الخطر الذي تعرض له المواطن الفلسطيني ودفع ثمناً غالياً له. ولكي تكون مساهمة المواطن العربي بصورة عامة والمواطن الفلسطيني والأردني بصورة خاصة في التصدي لعدوان هذه الحركة فعالة، فلا بد من أن يكون هذا المواطن على وعي كامل بالحركة الصهيونية وأهدافها ووسائلها وأساليبها. إن دور التربية السياسية تطوير مثل هذا الوعي، هذا مع العلم أن هذا الوعي جانب مهم جداً من جوانب مواصفات المواطن الصالح في الوطن العربي بصورة عامة، وفي القطر الأردني والقطر الفلسطيني بصورة خاصة.
وعلاوة على ذلك، إن دور التربية السياسية في توعية المواطن العربي بصورة عامة، والمواطن الفلسطيني والأردني بصورة خاصة بقضية فلسطين، الضحية الأولى للعدوان الصهيوني، لا ينحصر في تطوير معارفه ومعلوماته بالجذور غير الشرعية لهذه القضية، ولا بتطوراتها الاجتماعية والسياسية والعسكرية، ولا بالتواطؤات المخزية التي خضعت لها، مع أهمية كل ذلك. إن هذا الدور يشمل أيضاً وبنفس الأهمية والضرورة، غرس اتجاهات الكره والغضب في عقل ووجدان هذا المواطن، نحو جميع الذين ساهموا أو شاركوا أو دعموا، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، العدوان الصهيوني في ارتكاب جرائم القتل والتدمير والتهجير للشعب العربي الفلسطيني، وبأبشع الصور اللاإنسانية، وبأحط الأساليب الهمجية. إن مثل هذه الاتجاهات سوف تكون، وعلى الدوام، الحوافز الصارخة في عقل ووجدان الإنسان العربي لاستمرار التصدي الذي لا يضعف للعدوان الصهيوني، ولاستمرار العمل لرده عن الشعب الفلسطيني والأمة العربية. بالطبع، إن هذا الفصل من هذا الكتاب، لا يقدم إلا مساهمة أولية متواضعة مختصرة جداً لتطوير الوعي بقضية فلسطين، وما يرتبط بهذا الوعي من مفاهيم ومعارف واتجاهات، لا سيما وأن المكتبات تضم المراجع ومئات الكتب والدراسات والمقالات التي تتعلق بقضية فلسطين والتي تعمق من طبيعة الوعي المطلوب ومستواه وما ينطوي عليه من مفاهيم ومعارف واتجاهات.
بدايات القضية
قضية فلسطين، عنوان لأبشع وأسوأ وأقذر جريمة ارتكبت في التاريخ الإنساني. فهذه القضية هي قضية شعب آمن كان يعيش على أرض آبائه وأجداده، ومنذ آلاف السنين، يتعرّض لعملية اقتلاع وقتل وتنكيل وتشريد عن هذه الأرض على يد مجموعة مشبعة بروح الحقد والضغينة والانتقام، وعلى أساس أوهام وادعاءات لا تستند إلى أي أساس شرعي أو إنساني أو دولي. إن الجرائم المناظرة لهذه الجريمة البشعة في التاريخ الإنساني، وكما ذكر، كانت تقوم بها مجموعات من البشر لا صلة لها بالحضارة أو بالإنسانية، بل كانوا وحوشاً على هيئة بشر. أما القيادات والدول التي ارتكبت أو ساهمت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بجريمة اقتلاع وقتل وتشريد الشعب الفلسطيني فهي قيادات على درجة كبيرة من العلم والثقافة، ودول على قدر كبير من التقدم والمدنية والحضارة.
أما بالنسبة لنشأة قضية فلسطين وتطورها وتفاقم أخطارها، فيمكن القول بأنها مرتبطة بصورة رئيسية بنشأة الفكرة الصهيونية وتطورها وتطور أهدافها. وتقوم هذه الفكرة على تفسيرات غير دقيقة لنصوص توراتية خلاصتها بأن أرض فلسطين قد أعطيت لليهود، وأن هدف هذه الفكرة إعادة هذه الأرض إليهم بعد أن طردوا منها. شأنهم شأن غيرهم من الشعوب التي سكنت فلسطين والتي كانت تستبدل من حين إلى آخر، من المعروف تاريخياً أنه ومنذ أقدم الأزمنة كانت الجزيرة العربية تدفع إلى شمالها، إلى منطقة الهلال الخصيب، بمجموعات بشرية من سكانها تضيق بهم لشح مواردها الطبيعية آنذاك. وبعض هذه المجموعات كانت تقيم بعد استقرارها في أوطانها الجديدة دولاً، وكان لبعض هذه الدول شأن كبير في هذه المنطقة. ومن المجموعات البشرية التي هاجرت من الجزيرة العربية إلى الهلال الخصيب الآراميون والفينيقيون والكنعانيون والعبرانيون والبابليون والآشوريون والعمونيون والأنباط وغيرهم.
لقد احتل اليهود، وهي التسمية التي أطلقت على العبرانيين بعد اعتناقهم الديانة اليهودية، فلسطين والتي كان يعيش على أرضها عند هذا الاحتلال الكنعانيون، وهم كالعبرانيين، من الأقوام التي هاجرت من الجزيرة العربية. ولقد أقام اليهود في فلسطين لمدة (332) سنة وأسسوا أثناء إقامتهم مملكة السامرة وعاصمتها السامرة (نابلس) والتي دامت لحوالي (250) سنة، ثم انهارت على يد ملك آشور شلمناصر سنة 722 ق. م. كما أسسوا مملكة يهودا وعاصمتها القدس والتي دامت لحوالي (130) سنة بعد دمار مملكة السامرة، ثم انهارت على يد ملك بابل نبوخذ ناصر سنة 580 ق. م. ومثلما احتل اليهود فلسطين فقد احتل اليونان فلسطين بقيادة الاسكندر المقدوني سنة 332 ق. م. واستمر احتلاله لها لحوالي (272) سنة. كما احتل الرومان فلسطين بقيادة بومبي سنة 63 ق. م. واستمر احتلاله لحوالي (300) سنة. ولقد فتح العرب المسلمون فلسطين بقيادة عمرو بن العاص سنة 637 م، واستمر حكم دولهم المتتابعة، باستثناء الفترة التي احتلها الصليبيون والتي تقدر بحوالي مئتي سنة، حتى الاحتلال البريطاني سنة 1918م.
من ناحية دينية، يمكن القول وبيقين مطلق، إن الله سبحانه وتعالى، مُنزه جل جلاله، وبالكامل عن أن يميّز بين خلقه، أو أن يقبل أن يظلم بعض خلقه من بعض خلقه. ومن ناحية تاريخية إن مدة سيطرة اليهود على أرض فلسطين والتي وكما ذكر لا تتجاوز (332) سنة، لا تزيد عن 6% من مدة وجود العرب على هذه الأرض. الذين سكنوها منذ سنة 3500 ق. م.
بالنسبة لوجود اليهود كبشر على أرض فلسطين، فمن المعروف بالتاريخ القديم، أنه وعندما كانت تهزم دولة وتدمر من قبل قوة غازية، فإن هذه القوة تقتل وتنكل وتشتت كبار قيادات الدولة المنهزمة، وهذه تكون في الغالب من سكان المدن. أما عامة الناس، وهم الأغلبية الساحقة من مواطني الدولة المنهزمة، وهذه تكون في الغالب من سكان الريف والبادية، فيتابعون حياتهم العادية مع الواقع الجديد. وفي الأغلب يصبح هؤلاء المغلوبون جزأً لا يتجزأ من القوة الغالبة عقيدة ولغة وتقاليد. وفي التاريخ أمثلة كثيرة على ذلك. يمكن تلمسها من دول لشعوب كثيرة في التاريخ القديم كالكنعانيين والفينيقيين والآراميين والآشوريين والبابليين والأنباط وغيرهم، وهذا ما قد تم أيضاً مع اليهود. فبعد أن دمرت دولتاهما فإن غالبية مواطنيها اليهود لم تترك فلسطين بل تابعت حياتها فيها، وأغلبية هذه الأغلبية تبوتقت مع الواقع الديموغرافي والثقافي والديني الجديد الذي خضعت له. أما الأقلية اليهودية التي تشتتت في أنحاء العالم فقد ظلت، من ناحية نظرية، تعتقد بالفكرة الصهيونية الآنفة الذكر. كما نقلت هذه الأقلية هذه الفكرة إلى الذين اعتنقوا الديانة اليهودية من الأمم والشعوب والأقوام الذين تعايشوا معهم.
من جهة أخرى، إذا ما افترضنا جدلاً أن اليهود في العالم المعاصر هم امتداد حقيقي لليهود الذين عاشوا على أرض فلسطين قبل أكثر من ألفي عام، وكانت لهم دول عليها، فهل يصبح بالضرورة أن لهم الحق في العودة إليها وإقامة وطن قومي لهم عليها ؟ إذا كان الجواب على مثل هذا التساؤل بالإيجاب، فإن لأمم وشعوب كثيرة في عالمنا المعاصر حقوقاً في أراضي دول لأمم وشعوب أخرى في هذا العالم. فعلى سبيل المثال، فإن للعرب حقاً في الأرض الإسبانية التي عاشوا عليها حوالي ثمانية قرون، ولليونان حقاً في شرق تركيا وفي مدينة استانبول التي عاشوا فيها أكثر من ألف سنة، وحتى سنة 1453، كما للهنود الحمر حق في أمريكا باعتبارهم سكانها الأصليون قبل مجيء المستعمرين الأوروبيين.
تاريخياً، تعود بدايات الجهود لإحياء إدعاء اليهود بحقوقهم المزعومة في فلسطين إلى أواخر القرن السابع عشر. ومحطات هذه البدايات كثيرة لعل من أهمها ما يلي:
1- نداء نابليون بونابرت في سنة 1799 إلى اليهود، والذي يدعوهم فيه إلى الالتحاق بقواته ووعدهم بإقامة دولة لهم على أرض فلسطين كثمن لمشاركتهم في مجهوده الحربي.
2- دعوة الرئيس الأميركي جون ادمز في سنة 1818 إلى إعادة فلسطين لليهود وإقامة دولة لهم على أرضها.
3- مذكرة وزير خارجية بريطانيا بالمرستون إلى سفير بريطانيا في الدولة العثمانية بتاريخ 1840 بخصوص توطين اليهود في فلسطين وإقامة دولة لهم.
4- تأليف لجنة من قبل البرلمان البريطاني في سنة 1844 لـ(إعادة أمة اليهود إلى فلسطين).
5- اقتراح على جدول أعمال المؤتمر الأوروبي الذي عقد في برلين سنة 1878 بإقامة دولة يهودية في فلسطين.
6- كتاب هرتزل الذي صدر سنة 1895 بعنوان (الدولة اليهودية).
7- رفض السلطان عبد الحميد الثاني السماح لليهود بإقامة وطن لهم في فلسطين سنة 1896، وقوله أنه لا يستطيع أن يتنازل عن قدم واحد من فلسطين لأنها ليست له بل للأمة الإسلامية جميعها.ٍ
8- انعقاد أول مؤتمر صهيوني في مدينة بازل السويسرية في سنة 1897، الذي حدد أن الهدف الأساسي للحركة الصهيونية خلق وطن قومي لليهود. ويعتبر هذا المؤتمر نقطة أساسية في الحركة الصهيونية وسعيها إلى إقامة وطن لليهود.
9- رسالة وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور إلى اللورد روتشلد أحد زعماء الحركة الصهيونية في 2/11/1917، والتي جاء فيها «أن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية على أن يكون مفهوماً بشكل واضح، أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينقض الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى، وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية بهذا التصريح».
10- فرض الانتداب البريطاني على فلسطين. فقد جاء في المادة الثانية من صك الانتداب على فلسطين والذي وضع موضع التنفيذ في 29/9/1921: «تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي لليهود، وفقاً لما جاء بيانه في ديباجة هذا الصك، وترقية مؤسسات الحكم الذاتي، وتكون مسؤولة أيضاً عن صيانة الحقوق المدنية لجميع سكان فلسطين بغض النظر عن الجنس والدين».
كما جاء في ديباجة صك الانتداب على فلسطين، والذي وضع موضع التنفيذ في 29/9/1921: «ولما كان قد اعترف بذلك بالصلة التاريخية التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين وبالأسباب التي تبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومي في تلك البلاد».
ومع أهمية كل الجهود الآنفة الذكر، إلا أن الانتداب البريطاني على فلسطين هو الجهد الرئيسي الذي مكّن اليهود من الاستيلاء على فلسطين وإقامة دولة لهم عليها. فقد فتح هذا الانتداب أبواب فلسطين لهجرة اليهود إليها، كما دعمهم وساعدهم في مختلف المجالات وخاصة في مجال التسلح والتدريب العسكري. بعبارة أخرى، إن الدولة البريطانية هي التي تقف خلف تحقيق إدعاء اليهود الباطل في فلسطين، وبالتالي فإن هذه الدولة هي المسؤولة عن كل ما لحق وما يلحق بالفلسطينيين والعرب من أذى وظلم وقتل وتشرد، بسبب دعمها دون أي وجه حق لإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. إن القيادات البريطانية التي أعطت الوعد باغتصاب فلسطين، وقيادتها هي التي ساعدت على زرع بذرة الاغتصاب ورعته حتى أثمر. إن هذه القيادات أمثال بلفور وتشرشل وكرزون وغيرهم تدرك أنها تقوم بعمل لا إنساني ولا شرعي ولا أخلاقي تظلم به شعب آمن مستقر على أرض أبائه وأجداده منذ آلاف السنين، وتظلم به أمة عريقة تعتبر شعب فلسطين أحد شعوبها وتعتبر أرض فلسطين جزءا لا يتجزأ من أرضها.
النكبة ونتائجها
عندما تأكد المستعمر البريطاني الظالم أن اليهود على أرض فلسطين قد أصبحوا، بدعمهم ومساعدتهم المادية والمعنوية، مؤهلين لإقامة دولة لهم على أرض فلسطين، قرر إنهاء انتدابه عليها، وقرر أيضاً أن يكمل انسحابه منها في 15/5/1948. كما قرر هذا المستعمر إحالة قضية فلسطين على الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة لاتخاذ القرار المناسب بشأنها. وبناءً على ذلك بدأت مناقشة هذه القضية في الأول من نيسان سنة 1947. وبعد مناقشات طويلة ومستفيضة، طرحت فيها أفكار كثيرة قررت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة تقسيم أرض فلسطين بين أصحابها الشرعيين العرب والمغتصبين اليهود الطارئين عليها. وقد صدر قرار التقسيم تحت رقم (181) وبتاريخ 29/11/1947. هذا، وقد صوتت (33) دولة مع التقسيم، وصوتت (13) دولة ضد التقسيم (6) منها عربية و(4) إسلامية. وامتنعت عن التصويت (10) دول. وقد أعطى قرار التقسيم (46%) من أرض فلسطين للعرب مع أنهم يشكلون (71%) من سكان فلسطين، وأعطى اليهود (53%) من أرض فلسطين مع أنهم يشكلون (29%) من سكان فلسطين. أما الواحد بالمئة الباقية، وهي منطقة القدس، فقد جعلها قرار التقسيم الآنف الذكر منطقة دولية.
رفض العرب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، القاضي بتقسيم أرض فلسطينهم بينهم وبين اليهود، في حين وافق اليهود عليه.ونتيجة لهذا الاختلاف حول القرار، بدأ الصراع المسلح بين العرب واليهود على أرض فلسطين. وفي الوقت الذي كان هدف اليهود من هذا الصراع المسلح تحقيق حلمهم بإنشاء دولتهم، كان هدف العرب منع تنفيذ هذا القرار بالقوة، وتحرير كامل التراب الفلسطيني من العدوان الصهيوني. ومع الاختلاف الكلي في الهدف بين العرب واليهود، كان هنالك، أيضاً اختلاف كبير في الاستعداد، وفي المقدرة على متابعة الهدف. لقد كان العرب منقسمين على أنفسهم على شكل معسكرات متنافرة، تعوزهم مقومات الاستعداد العسكري، وخاصة في السلاح والذخيرة، في حين كان اليهود مستعدين لهذا الصراع، وكانوا يمتلكون الجنود المدربين، كما كانوا يمتلكون السلاح والذخيرة.
يقول صالح مسعود بويصير: «عند انتهاء الحرب العالمية الثانية، أصبح لليهود جيش رسمي مزوّد بجميع الأسلحة والمعدات.. «(132). ويصف صبحي محمد ياسين الواقع الفلسطيني غير المستعد، ويقول: «أنه لم توجد في مدينة حيفا بندقية واحدة عندما أقرت الأمم المتحدة مشروع التقسيم..» (133)، بينما يصف عبدالله السعد الواقع العربي بقوله: «أن عام 1948، كان نكبة على العرب، لأنهم واجهوا عصابات اليهود في فلسطين، وكانت منظمة ومدربة على فنون الحرب العصرية، ومجهزة بأحدث الأسلحة.. وكان العرب مفككين، وأكثرهم ما زالوا تحت سيطرة الاستعمار، تعوزهم كل مقومات الحرب الناجحة» (134) . أما وصفي التل فيقول: «كانت القوات اليهودية في 14 أيار 1948، أي عند دخول الجيوش العربية الحرب، مؤلفة من 65000 رجل من بينها فرقة قوامها 4000 يهودي، تم تدريبها على النظام والانضباط، لأن القيادة البريطانية كانت قد أعدت هذه الفرقة لاستخدامها في المعارك ضد الفاشية في أوروبا.. ومجمل القوات الاحتياطية كان نحو عشرين ألفا..» (135) . ويقول العقيد الركن حسن مصطفى: «كان مستوى التسلح والتجهيز والتدريب والقيادة في أكثرية الجيوش العربية، إن لم يكن كلها، لا يؤهلها خوض غمار حرب حقيقة..» (136). ويضيف قائلاً: «أن بعض الجيوش العربية ومن ضمنها الجيش العراقي، لم تكن تملك خرائط فلسطين..» (137). ولتوضيح درجة الاستعداد التي كانت عليها القوات الصهيونية آنذاك يقول أحمد طربين أن «النسبة العددية للقوات المحاربة في سنة 1948، كانت لمصلحة إسرائيل. ونعرف اليوم أنه كان لإسرائيل يوم إعلانها الحرب اثنا عشر لواء، إضافة إلى لواءين آليين. وكان سكان المستعمرات قوة مستقلة عن القوات النظامية، ويقال لها قوة الطوارئ، وكان عددها 32 ألفا..» (138). ويؤكد تقرير رؤساء أركان الجيوش العربية في 11 تشرين الثاني سنة 1948 عدم الاستعداد العربي، مشيراً إلى التفوق اليهودي بالنقاط التالية:
1. اليهود يتفوقون على القوات العربية من حيث العدد.
2. اليهود يتفوقون على القوات العربية من حيث السلاح بجميع أنواعه، ما خلا مدفعية الميدان. لكن القوات العربية مفتقرة إلى ذخيرة لهذه المدفعية.
إن المواطنين العرب لم يكونوا على علم بهذا الواقع، ولذلك كانوا يصرّون على القتال ويطالبون به. أما بالنسبة إلى القادة العرب، فإن غالبية الذين كانوا يعلمون بهذا الواقع، كانت تعوزهم الجرأة للإفصاح به أمام حماسة الجماهير العربية الثائرة، التي سوف تفسر أية دعوة إلى غير القتال على أنها دعوة تخاذل وخيانة. فعلى سبيل المثال، كان محمود فهمي النقراشي، رئيس الحكومة المصرية وقتذاك، ضد اشتراك الجيش المصري في حرب فلسطين، إلا أنه ما لبث أن تخلى عن موقفه، ووافق على الاشتراك، ولما سئل عن السبب في ذلك، قال: «إنني لم أر تحت ضغط الحوادث والرأي العام، وحالة الأمن الداخلي، وكرامة مصر أمام العالم الإسلامي، والتزام الدول العربية الأخرى خوض المعركة الفلسطينية، من أن آمر الجيش بالاشتراك في القتال كبقية الجيوش العربية ... « (139) .
في إطار هذا الواقع، وعندما انتهى الانتداب البريطاني على فلسطين في 14/5/1948، دخلت الجيوش العربية فلسطين بنيّة تحريرها من العدوان الصهيوني. «فاجتاز الجيش المصري جنوب فلسطين بأجمعه. وكانت خطوطه الأمامية من الشمال، مدينة بيت لحم، ومستعمرة تلبيوت في ضواحي القدس الجنوبية، وإلى الغرب حتى حدود منطقة يافا الجنوبية، وسيطر الجيش السوري، وجيش الإنقاذ العربي، والجيش اللبناني على الجليل بأكمله، حتى جنوب بحيرة طبريا، ما عدا بعض المستعمرات في الجليل الشرقي، وكانت خطوط جيش الإنقاذ الأمامية إلى الجنوب من قرى مدينة الناصرة الجنوبية، وسيطر الجيش العراقي على قلب فلسطين، وأحدق بتل أبيب، وكانت خطوطه الأمامية من الشمال إلى ما وراء مدينة جنين، ومن الغرب بيارات طولكرم وقلقيلية، وعلى بعد 8 أميال من ساحل البحر الأبيض. واحتل الجيش الأردني غور الأردن الجنوبي ومنطقة القدس، والقدس القديمة، ومنطقة رام الله واللد والرملة، حتى التقى بالجيش العراقي في الشمال، والجيش المصري في الجنوب والغرب، وسيطر الجيش المصري سيطرة تامة على منطقة النقب الجنوبي، وخليج العقبة بأكمله، وحتى أطراف البحر الأحمر الشمالية..» (140).
بعد فترة قتال قصيرة هزمت القوات الإسرائيلية الجيوش العربية. وهذه الجيوش، وبدلاً من أن تحرر جميع أراضي فلسطين، فقدت بعض الأراضي التي كانت بأيدي العرب عند دخول هذه الجيوش الحرب. ولم يبق من أراضي فلسطين في أيدي العرب سوى ما عرف في وقت لاحق باسم قطاع غزة، وجيب العوجة تحت سيطرة القوات المصرية، وما عرف فيما بعد بالضفة الغربية تحت سيطرة القوات الأردنية. وقد سيطر اليهود نتيجة هذه الحرب على ما أعطي لهم بموجب قرار تقسيم فلسطين، مضافاً إليه حوالي نصف ما أعطي للعرب بموجب هذا القرار.
لقد كانت هزيمة الجيوش العربية في الحرب الآنفة الذكر صدمة مؤلمة وموجعة جداً للمواطن العربي، لا بل كانت نكبة كبيرة هزّت ضميره ووجدانه. من جهة أخرى، وبدل أن تصرف الجهود إلى دراسة أسباب هذه الهزيمة دراسة عميقة وموضوعية، تجنب الإنسان العربي هزيمة جديدة، وتكون منطلق استعداد لجولة ثانية، بدلا من كل ذلك، تفجرت في الوطن العربي حملات الاتهام والتشكيك الظالمة. وفي هذه الحملات راحت كل فئة تلقي عبء الهزيمة على غيرها لتبرئ نفسها. وبرزت خلافات حادة بين الدول والقادة العرب ولّدت أحقاداً وضغائن، كان المستفيد الأول منها، هو العدوان الصهيوني. وقد ساهمت هذه الاتهامات والحملات والأحقاد في طغيان الحس الإقليمي الضيق على روابط الحس القومي الأصيل. خلاصة القول أن سبب هزيمة العرب عام 1948، أنهم لم يكونوا بمجموعهم، على مستوى القضية المقدسة التي يواجهونها.
بعد النكبة التي حلّت بالأمة العربية، بسبب هزيمتها المخزية في الحرب العربية الإسرائيلية الأولى سنة 1948، فرضت الهدنة الدائمة بين إسرائيل والدول العربية التي شاركت في هذه الحرب. وقد تطور عن هذه الحرب، فيما تطور من مآسي وآلام، أن حوالي نصف الشعب الفلسطيني قد شرّد من بيته وطرد من وطنه ليعيش لاجئاً خارج فلسطين. وعلاوة على ذلك، فلقد مزقت فلسطين وأصبحت تتشكل من ثلاثة أجزاء هي إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة. إن الأرض التي سيطرت عليها إسرائيل بسبب هذا التمزيق تساوي 77.6% من أرض فلسطين. ولإحكام سيطرتها على هذه الأرض، فقد قتلت وهجّرت ونكّلت بعشرات الآلاف من الفلسطينيين، ودمّرت ومحت من الوجود أكثر من خمسمائة قرية، واستولت، وبدون وجه حق، على مساحات واسعة من الأراضي وأقامت عليها عشرات المستوطنات التي سكنت فيها مهاجرين لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بفلسطين.
بالنسبة للضفة الغربية، والتي تشكل حوالي 21.1% من فلسطين، فقد وجدت بعض قيادات الشعب الفلسطيني أن خير ضمان للمحافظة عليها وعلى القدس العربية درتها الغالية وعلى عروبتها، هو وحدتها مع الدولة الأردنية، التي أصبحت أرضها تعرف بعد الوحدة بالضفة الشرقية. وقد أعطيت هذه الوحدة الصفة الشرعية بالمؤتمرات الشعبية التي طالبت بها. وأخذت هذه الوحدة الصفة الرسمية بالانتخابات النيابية التي أجريت بتاريخ 20/4/1950، والتي تطور عنها مجلس أمة يجمع سكان الضفتين الشرقية والغربية. هذا، ولا بد من الإشارة إلى أن بعض قيادات وفئات الشعب الفلسطيني عارضت هذه الوحدة ورفضتها. أما بالنسبة إلى الدول العربية، فلم تلق هذه الوحدة أي دعم أو تأييد لها، كما لم تعترف بها أي منها رسمياً.
بالنسبة لقطاع غزة والذي يشكل حوالي 1.3% من أرض فلسطين فهو عبارة عن شريط ساحلي ضيق يقع جنوب غرب فلسطين بطول لا يتجاوز 46 كم وعرض يتراوح بين 6-10 كم، ومساحة لا تتجاوز 360 كم2، فقد خضع لإشراف الإدارة المصرية.
إن للشعب الفلسطيني بعد النكبة، وعلى الرغم مما تعرّض له من قتل وتشريد وتنكيل، وعلى الرغم من غياب اسم فلسطين عن خارطة العالم الجغرافية لتحل مكانه أسماء إسرائيل والضفة الغربية، وقطاع غزة، وعلى الرغم من أن أغلبية الشعب الفلسطيني أصبحت أردنية الجنسية، فإن الهوية الوطنية الفلسطينية عند الشعب الفلسطيني لم تنطفئ، بل ظلت متوقدة كالجمر تحت الرماد. ولقد ظل هذا الرماد يغطي هذا الجمر المتوقد حتى مطلع الستينات عندما تأسست منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964، لتعيد من جديد إلى الساحتين العربية والدولية الشعب الفلسطيني، ليلعب دوره الوطني والقومي والعالمي في التصدي للعدوان الصهيوني ولاستعادة حقوقه المشروعة في فلسطين.
وقد عبر ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية عن الدور المهم للمنظمة في بعث الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني. فقد نصت على سبيل المثال لا الحصر، المادة الرابعة من هذا الميثاق على أن: «الشخصية الفلسطينية صفة أصيلة لأزمة وهي تنتقل من الآباء إلى الأبناء وأن الاحتلال الصهيوني، وتشتت الشعب العربي الفلسطيني نتيجة النكبات التي حلت به لا يفقدانه شخصيته وانتماءه الفلسطيني ولا ينفيانها». ونصت المادة السابعة من هذا الميثاق أيضاً على أن: «الانتماء الفلسطيني والارتباط المادي والروحي والتاريخي بفلسطين حقائق ثابتة، وإن تنشئة الفرد الفلسطيني تنشئة عربية ثورية واتخاذ كافة وسائل التوعية والتثقيف، لتعريف الفلسطيني بوطنه تعريفاً روحياً ومادياً عميقاً وتأهيله للنضال والكفاح المسلح والتضحية بماله وحياته لاسترداد وطنه حتى التحرير واجب قومي». أما المادة الثانية عشرة من الميثاق، فقد نصت أن: «الشعب العربي الفلسطيني يؤمن بالوحدة العربية، ولكي يؤدي دوره في تحققها يجب عليه في هذه المرحلة من كفاحه الوطني أن يحافظ على شخصيته الفلسطينية ومقوماتها، وأن ينمي الوعي بوجودها وأن يناهض أيا من المشروعات التي من شانها إذابتها أو إضعافها».
الكارثة ومترتباتها
لم يقبل الشعب الفلسطيني ولا الأمة العربية بوجود دولة لليهود باسم إسرائيل على أرض فلسطين، رغم الانتصار الذي حققته في حرب 1948. وبقي مبدأ تحرير الأرض الفلسطينية التي احتلت سنة 1948، واستعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه الشرعية مبدأ أساسياً في سياسات الدول العربية جميعها. كذلك كان الأمر بالنسبة إلى الأحزاب والمؤسسات والتنظيمات الشعبية. كذلك، بقي هذا المبدأ حقيقة راسخة في عقل الإنسان العربي ووجدانه بصورة عامة، والإنسان الفلسطيني على وجه الخصوص. ولقد بذلت الدول العربية جهوداً كبيرةً لتهيئة نفسها من أجل مواجهة إسرائيل، واستعادة الأرض المغتصبة، والكرامة المهدورة ومهما كانت التضحيات. بالطبع، إن إسرائيل كانت تدرك هذا الأمر وتستعدله بالسر والعلن. لذلك وعندما أحست أن القوة العسكرية العربية، وبصورة خاصة القوة العسكرية المصرية، قد وصلت إلى مرحلة من التقدم يمكن أن تكون في المستقبل القريب بداية لتهديد وجودها واستمرارها، قامت وبمهارة وكفاية باستدراج الأمة العربية، وقبل أن تستكمل استعداداتها، إلى حرب جديدة وهي حرب حزيران 1967 والتي عرفت أيضاً بحرب الأيام الستة. لقد هزمت الأمة العربية بهذه الحرب بسرعة مذهلة، وكانت هذه الهزيمة بسرعتها ونتائجها كارثة مهينة لا تقاس بها، ولا بأي شكل من الأشكال، الحرب التي أدت إلى نكبة سنة 1948. وكانت نتائج هذه الهزيمة أن احتل اليهود بقية أرض فلسطين، وعلى رأسها مدينة القدس العربية، كما احتلوا سيناء مصر وجولان سورية، وبعض الأراضي الأردنية واللبنانية. يحلو للبعض أن يطلق على هزيمة الجيوش العربية في حرب 1967 نكسة أو نكبة. إن احتلال إسرائيل لمدينة القدس العربية أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين كارثة لا بل كارثة كبرى. ورغم هذه الهزيمة المهينة، فقد أصرت الدول العربية مجتمعة على رفضها ورفض الاعتراف بنتائجها. ففي مؤتمر القمة العربي الذي عقد في الخرطوم، في أعقاب تلك الحرب في 29/8/67، قرر قادة الدول العربية قراراً خطيراً خلاصته أن لا تفاوض مع إسرائيل ولا اعتراف بها ولا صلح معها. وتعرف هذه اللاءات الثلاث بالأدب السياسي المتعلق بقضية فلسطيني بلاءات الخرطوم.
ولقد استمر واقع لا حرب ولا سلام هو الواقع السائد بين الدول العربية وإسرائيل حتى سنة 1973. ففي تشرين الأول، والذي صادف شهر رمضان المبارك من تلك السنة، شنت كل من القوات المصرية والقوات السورية هجوماً مفاجئاً عاماً على إسرائيل. ولقد دعم هذا الهجوم في وقت لاحق بقوات أردنية وقوات عراقية. لقد أطلق على هذه الحرب اسم حرب رمضان أوحرب تشرين. ولأن هذه الحرب كانت وفق خطط محددة واستعدادات جيدة، فقد حقق الجيش المصري والجيش السوري نصراً عسكرياً أولياً كبيراً. ففي بداية الحرب استعاد الجيش السوري، ببطولة وتضحية، الجولان ووصلت قواته شواطئ بحيرة طبريا. أما الجيش المصري فقد اجتاز قناة السويس ببسالة وبكفاية، وتقدم في سيناء. إن المعلومات المتوفرة تؤكد أن الجبهة الإسرائيلية في سيناء أوشكت على الانهيار والتسليم، وإعلان ذلك لولا الدعم العسكري السريع المباشر الذي وفرته الولايات المتحدة الأميركية من قواعدها في أوروبا للجيش الإسرائيلي. ونتيجة هذا الدعم الكبير تغيرت بصورة جذرية نتيجة هذه الحرب.
كانت حرب رمضان رداً عظيماً على كارثة حزيران، وكان لها نتائج مهمة جداً في الصراع العربي الإسرائيلي. فمن جهة وصل العرب إلى قناعة بأنهم قادرون على إلحاق الهزيمة بإسرائيل إذا ما وحدوا صفوفهم، ونسقوا جهودهم، وحشدوا إمكاناتهم، وحكم قراراتهم التخطيط العلمي والاستعداد الكافي. وقد أثبتت هذه الحرب أيضاً، أن مقولة «إسرائيل دولة لا تهزم» مقولة زائفة. من جهة ثانية تأكد العرب أيضاً أن تحقيق النصر على إسرائيل في الوقت الحاضر أمر يكاد يكون مستحيلاً في إطار العلاقات الإستراتيجية الخاصة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، فالولايات المتحدة لن تسمح بأي شكل من الأشكال أن تهزم إسرائيل، ولو تطلب ذلك تدخلها في الحرب إلى جانبها علناً كما حدث في هذه الحرب، وذلك لأن هزيمة إسرائيل في أي حرب مع العرب يعني نهايتها. وهذا الأمر ليس سراً، فقد أعلنته حكومة الولايات المتحدة في أكثر من مناسبة. وهنالك اتفاقيات إستراتيجية للتعاون العسكري والأمني بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. فلو كانت هذه الدول موحدة في سياساتها قولاً وفعلاً لما أقدمت الولايات المتحدة الأميركية على عقد هذه الاتفاقيات، ولما تمادت في دعمها لإسرائيل حرصاً على مصالحها الكثيرة والخطيرة مع الدول العربية.
هذه الأمور وغيرها، دفعت بعض القيادات العربية التي كانت تدعو للحل السلمي للصراع العربي الإسرائيلي ومحوره القضية الفلسطينية، أن ترفع صوتها بجرأة وصراحة. وقد حظيت أصوات هذه القيادات بدعم وتأييد من جهات دولية مختلفة، وأكدت هذه الجهات أن استمرار الصراع العربي الإسرائيلي القائم، ليس خطراً على السلام في منطقة الشرق الأوسط، بل خطراً على السلام العالمي. وفي سياق التفكير في إيجاد حل سلمي عادل ودائم وشامل للصراع العربي الإسرائيلي، تطورت بعد حرب رمضان وخلال العقدين التاليين لها عدة أمور أسهمت وبدرجة كبيرة في هذا الاتجاه بصورة عامة، وفي المفاوضات المتعددة الأطراف والثنائية بين الدول العربية المعنية مباشرة بالصراع العربي الإسرائيلي من جهة وإسرائيل من جهة أخرى. ولعل أهم هذه الأمور وحسب تسلسلها التاريخي ما يلي:
1- الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني: أسست منظمة التحرير الفلسطينية، وكما هو معروف، بقرار من مؤتمر القمة العربية في الإسكندرية سنة 1964، لتعيد إلى الساحة العربية والساحة الدولية الشعب الفلسطيني بشخصية وطنية مستقلة، ليلعب دوره الوطني، وفي الإطار القومي العربي في الإسهام في تحرير الأرض الفلسطينية التي احتلت سنة 1948. إن احتلال إسرائيل لبقية أجزاء فلسطين، بالإضافة إلى احتلالها لأراض من الدول العربية الأخرى المجاورة، أعطى هذه المنظمة موقعاً خاصاً فلسطينياً وعربياً ودولياً، كما لعب هذا الموقع دوراً مهماً في تطوير إمكاناتها السياسية والعسكرية، وجعلها أحد الأطراف العربية الرئيسية والمهمة وبالتالي المسؤولة عن كل أمر من أمور القضية الفلسطينية. وعندما قرر مؤتمر القمة العربي في الرباط سنة 1974، اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، تعمق وبدرجة كبيرة جداً واقع المنظمة ومركزها فلسطينياً وعربياً ودولياً، وأصبحت الدولة المعنوية للشعب الفلسطيني. ولقد أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية في هذا الواقع، صاحبة الكلمة الأساسية في موضوع القضية الفلسطينية. وفي هذا الإطار أصبح القرار الأساسي بالنسبة للقضية الفلسطينية فلسطينياً أولاً بعد أن كان عربياً يسهم الفلسطينيون في اتخاذه. هذا الواقع الذي وصلت إليه المنظمة مكنها من اتخاذ عدة قرارات أساسية ومهمة وخطيرة تتعلق بالقضية الفلسطينية، ما كان يجرؤ في السابق أي طرف عربي على اتخاذها. إن اتفاق أوسلو الذي تم في 19/8/1993، وتوقيع إعلان المبادئ بين المنظمة وإسرائيل في واشنطن في 14/9/1993 أمثلة على ذلك.
من جهة أخرى، ولكي لا يفسر ما قامت به منظمة التحرير الفلسطينية تفسيراً خاطئاً، يجب أن يوضح أن اعتراف المنظمة بإسرائيل وتوقيع إعلان المبادئ معها في واشنطن، وما استتبع ذلك من أمور فرضتها ظروف وطنية فلسطينية قاهرة وظروف قومية عربية ملحة وظروف دولية صعبة. إن إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومنع إسرائيل من الاستيلاء على مزيد من الأرض الفلسطينية، ومنعها من تهجير المزيد من الشعب الفلسطيني خارج فلسطين، ما هي إلا بعض الأسباب التي دفعت المنظمة للاعتراف وللتوقيع، وهي بذاتها أسباب خطيرة ومهمة ولا يمكن إنكارها أو المزايدة على المنظمة بما قامت به.
2- زيارة الرئيس محمد أنور السادات رئيس جمهورية مصر العربية للقدس المحتلة: يمكن اعتبار زيارة الرئيس السادات للقدس المحتلة في شهر تشرين الثاني 1977، وما تلا هذه الزيارة من مفاوضات نتج عنها اعتراف مصر بإسرائيل، وتوقيع معاهدة صلح منفرد معها في 27/3/1979، من أهم وأخطر الأحداث لا بل وأخطر الأحداث في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي منذ بدايته. إن جمهورية مصر العربية أكبر وأقوى وأعظم دولة عربية، وهي ليست كبيرة وقوية وعظيمة بمساحتها وعدد سكانها وحجم قواتها المسلحة فحسب، بل بمكانتها وثقلها الديني والفكري والثقافي والسياسي في الوطن العربي وفي العالم الإسلامي. من هذا المنطلق فإن هذه الزيارة هزت أركان الصمود العربي أمام التحدي الصهيوني، ومهدت لإزالة جميع الخطوط الحمراء التي كان الاقتراب من أي منها وليس تجاوزها يعتبر خيانة عظمى لا تغتفر على المستوى الوطني والقومي والإسلامي. وباختصار يمكن القول أن جميع تداعيات الموقف العربي الموحد وتفككه بالنسبة للصراع العربي الإسرائيلي كانت زيارة الرئيس المصري مقدمة له وحافزة عليه، وخاصة ما يتعلق بالموقف الفلسطيني والموقف الأردني. في هذا الصدد يقول الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك في مقابلة صحفية في 21/12/1993: أنه لو لم تفتح مصر عملية السلام عام 1977 ما كان لإسرائيل أن تصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين ولا مع الأردنيين ولا أن تجلس مع السوريين.
3- اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بإسرائيل: منذ بداية قضية فلسطين وتطورها إلى صراع عربي إسرائيلي، رفض الشعب الفلسطيني بصورة خاصة والأمة العربية بصورة عامة أي اعتراف بشبر لليهود على أرض فلسطين، رغم عروض المشاريع المغرية بمعايير الحاضر، والتي قدمت لهم منذ بداية العشرينات من هذا القرن. لقد رفض الشعب الفلسطيني بشجاعة وإخلاص وأمانة، أن يساوم على أرض فلسطين، وقدم في سبيل رفضه تضحيات كثيرة وكبيرة جداً من تشرد وشهداء ومعاناة، لم يقدمها أي شعب في العالم. من جهة أخرى، وكما ذكر، أن منظمة التحرير الفلسطينية قد أسست من أجل مشاركة الدول العربية في استعادة الأرض التي احتلتها إسرائيل سنة 1948، إلا أن التآمر الدولي والهزائم المتتالية التي لحقت بأمتنا العربية، والتفكك والتمزق الذي أصاب صفوفها انعكس على هذه المنظمة، وفرض عليها، ولتخفيف آلام شعبها وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، الاعتراف بدولة إسرائيل مقابل وعود لا تزال غير مؤكدة بإعطائها الأرض الفلسطينية التي احتلت سنة 1967، لإقامة الدولة الفلسطينية عليها وعاصمتها القدس العربية. ومع أن القيادة الفلسطينية قد أجبرت على الاعتراف بإسرائيل، فإن الظروف الفلسطينية والعربية والدولية هي التي فرضت هذا الاعتراف، وبالتالي فإن جميع القيادات العربية والإسلامية تتحمل هذه المسؤولية، وبالتالي فإن جميع القيادات العربية مشاركة في قرار الاعتراف هذا.
وعلى مستوى مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي، فإن اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، أعطى الضوء الأخضر للأنظمة والدول العربية للشروع بدون غضاضة أو حرج للاعتراف بإسرائيل والتفاوض معها تمهيداً للصلح وعقد المعاهدات. إن قضية فلسطين هي أصل الصراع العربي الإسرائيلي وجوهره وإن قضايا إسرائيل مع الدول العربية ما هي إلا فروع ثانوية من هذا الصراع. فإذا ما توصل أصحاب الأصل والجوهر إلى تسوية، من خلال مفاوضات تم الوصول إلى عقد معاهدة، فليس أمام المعنيين بالفروع إلا الاعتراف والمفاوضة تمهيداً للصلح وعقد المعاهدات. هذا هو المنطق القطري السائد الآن وليس المنطق القومي العربي الذي كان سائداً منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي حتى سنة 1974، عندما قرر القادة العرب في مؤتمرهم بالرباط اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. إن فلسفة هذا القرار، كما تفهم، هو تقزيم هذه القضية القومية في أساسها وتحويلها إلى قضية قطرية، وتحميل كل دولة عربية معنية بالصراع العربي الإسرائيلي مباشرة مسؤولية البعد المتعلق بها. ومن هذا المنطلق تحميل منظمة التحرير الفلسطينية وهي الدولة المعنوية للشعب الفلسطيني مسؤولية البعد الفلسطيني في هذا الصراع، وهذا البعد هو الأساس والمحور. لقد عجزت حتى الآن جميع الدول العربية عن معالجة قضية فلسطين علاجاً ترضي به الأمة العربية وتقتنع به، وإن إلقاء مسؤولية معالجتها على الشعب الفلسطيني ظلم لهذا الشعب العربي الأبي وللأمة العربية على السواء.
4- انهيار الاتحاد السوفياتي: بعد الحرب العالمية الثانية استقطبت دول العالم، وكما هو معروف، دولتان عظيمتان رئيستان هما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي. ونتيجة مصالح وتطورات وظروف عربية وإسرائيلية ودولية أصبحت الولايات المتحدة الأميركية بالنسبة للقضية الفلسطينية السند الرئيسي لإسرائيل. وكرد فعل لذلك أصبح الاتحاد السوفياتي بصورة عامة السند الرئيسي للدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وهنا يجب أن نذكر أن الدول العربية، وخاصة سورية ومصر والعراق، قد تكون ارتكبت خطأً فادحاً وكبيراً، عندما دفعت، ومن حيث لا تشعر، بالولايات المتحدة الأميركية، لتكون خصماً للعرب فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. والمعلومات الحالية تفيد أن إسرائيل لعبت دوراً هاماً في هذا الأمر. وتحالف بعض الدول العربية الرئيسية وهي مصر والعراق وسورية في الصراع العربي الإسرائيلي مع الاتحاد السوفياتي كان في صالح إسرائيل، إذ جعل الولايات المتحدة الأميركية تقف في صفها بجرأة وعلانية. فعندما تعرضت مصر وسورية للهزيمة في حرب 1967 لم يتقدم حليفهما لنجدتهما مثلما فعلت الولايات المتحدة الأميركية عندما تعرضت حليفتها إسرائيل لاحتمال الهزيمة في حرب 1973.
بعبارة أخرى أن دعم الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل كان يتميز مادياً وسياسياً ومعنوياً عن دعم الاتحاد السوفياتي للعرب، ويصل إلى درجة مشاركتها في القتال إذا ما تعرض أمنها للخطر أو وجودها للزوال. أما دعم الاتحاد السوفياتي للعرب فكان محدوداً، إلا أنه كان عاملاً مهماً في صمود العرب وعدم رضوخهم، وبالتالي عدم استسلامهم لإرادة إسرائيل. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي سنة 1991 فقد العرب ما يمكن أن يطلق عليه السند الرئيسي في صمودهم وتصديهم لإسرائيل، والمصدر الأساسي في تسلحهم بأسلحة مناظرة، إلى حد، ما للأسلحة التي تزود بها الولايات المتحدة الأميركية إسرائيل. وبدون أدنى شك فقد لعب انهيار الاتحاد السوفياتي دوراً مهماً جداً في دفع العرب في اتجاه المسيرة السلمية مع إسرائيل ووفق شروط وقواعد لا تتلاءم كما يجب مع مبادئهم وأهدافهم.
5- تدمير القوة العراقية: العراق هو العمق الاستراتيجي وبجميع أبعاده العسكرية والسياسية والاقتصادية لسورية والأردن في الصراع العربي الإسرائيلي. والعراق وفي جميع عهوده، كان وفياً صادقاً لأمته العربية وكان السند والعون لسورية والأردن في جميع الحروب العربية الإسرائيلية. وفي هذه الحروب قدم تضحيات بشرية ومادية كبيرة تسجل له بكل الفخر والاعتزاز والامتنان. ولقد استطاع العراق في السنوات القليلة الماضية أن يحقق تقدماً كبيراً وواعداً في المجالات العلمية والعسكرية والاقتصادية كان من الممكن أن تجعل منه دولة عظمى في المنطقة تناظر إسرائيل في قوتها، وتسهم في تطوير الواقع العربي وفي معالجة قضاياه وخاصة القضية الفلسطينية ومن واقع القوة والاقتدار. لقد استطاع أعداء العرب، وبمشاركة بعض القادة العرب، تدمير هذه القوة العربية الواعدة.
بالطبع سوف يستعيد العراق قوته العسكرية والاقتصادية والعلمية كاملة طال الزمان أم قصر، ولكن غياب قوة العراق في الوقت الحاضر، أفقد سورية والأردن وفلسطين سنداً مهماً يحسب حسابه في مسيرة السلام العربية الإسرائيلية.
الواقع القائم
عند البحث عن الواقع القائم، قد يكون من المناسب أن يذكر، أنه وحتى الكارثة التي حلّت بالأمة العربية بهزيمتها في حرب حزيران 1967، كان يتهم شعبياً بالخيانة العظمى كل من يجرؤ أن يطرح بأي شكل من الأشكال، فكرة المفاوضة مع إسرائيل أو الصلح أو السلام معها. فعلى سبيل المثال، وقبل حرب حزيران 1967 وبالذات في سنة 1956، صرّح الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لصحفي هندي ما مفاده أن المفاوضة والصلح والسلام مع إسرائيل ممكن، إذا ما نفذت إسرائيل جميع قرارات هيئة الأمم المتحدة المتعلقة بفلسطين. لقد كذّب تصريح الرئيس الراحل عبد الناصر مع صحته، بعد يومين من صدوره. وقد جاء هذا التكذيب لأن جريدة الرأي، الناطقة باسم حركة القوميين العرب، والتي كانت تصدر آنذاك بدمشق، جعلت عنوانها الرئيسي في اليوم التالي لنشر التصريح الآنف الذكر: «سوف تقطع يد كل من يمد يده للمفاوضة أو للصلح أو للسلام مع إسرائيل».
لقد لعب ظهور المقاومة الفلسطينية وبصورة علنية وبقوة بعد هزيمة حرب حزيران، دوراً مهماً في وقف الانهيار الاستسلامي للدول العربية بعد هذه الحرب. لا أحد ينكر أن المقاومة الفلسطينية لعبت دوراً مهماً جداً في التصدي للعدوان الصهيوني بعد حرب حزيران، كما لعبت دوراً مهماً في إعادة بناء الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني. لكن وللأسف الشديد، لم تستمر المقاومة الفلسطينية في لعب دورها النضالي البطولي في هذا التصدي للعدوان الصهيوني لأسباب كثيرة لعل من أهمها ثلاثة:
1- تشرذم المقاومة الفلسطينية إلى فصائل كثيرة متعددة ومتنافسة. لقد وصل عدد فصائل المقاومة في وقت من الأوقات إلى أكثر من ثلاثين فصيلاً. ولقد تطورت صراعات حادة بين بعض هذه الفصائل، وكان بعض هذه الصراعات صراعات دموية. وهنا يمكن القول أنه لو توحدت فصائل المقاومة الفلسطينية في جبهة واحدة موحدة، للعبت دوراً مهماً في التصدي للعدوان الاستيطاني الصهيوني لا يقل عن الدور الذي لعبته جبهة التحرير الوطني الجزائرية في تحرير الجزائر من الاحتلال الاستيطاني الفرنسي.
2- انضمام عناصر طارئة إلى المقاومة الفلسطينية، كان إيمانها بالمقاومة لا يتعدى اللباس المرقط الذي يلبسونه. وقد انضمت هذه العناصر لأسباب كثيرة، ولتحقيق أهداف خاصة بها حزبية أو شخصية أو انتهازية. هذا وقد لعبت هذه العناصر الطارئة على المقاومة، دوراً كبيراً في الإساءة للمقاومة الفلسطينية ودورها الوطني النضالي الأصيل.
3- تطور خلافات، وصلت إلى صراعات مسلحة، بين بعض فصائل المقاومة الفلسطينية والدول التي توجد فيها. وقد تطورت هذه الخلافات لأسباب كثيرة لعل أهمها غياب خطة تنظم عمل المقاومة وتواجدها. فوجود مثل هذه الخطة بين المقاومة الفلسطينية والدولة السورية على سبيل المثال حال دون تطور خلافات بينهما. كما ساهمت في ذلك أيضاً الخلافات التي كانت تبرز بين فصائل المقاومة نفسها. هذا ولقد نتج عن خلافات المقاومة الفلسطينية مع الدولة الأردنية والدولة اللبنانية أنها أخرجت بالقوة من هاتين الدولتين.
4- هذا، ولا يمكن إنكار أن لإسرائيل، ومن خلال عملائها لعبت دوراً مهماً في تأجيج الخلافات بين فصائل المقاومة الفلسطينية من جهة وبين هذه الفصائل وأنظمة الدول التي كانت توجد فيها من جهة أخرى.
إن المحطة ذات الأهمية الخاصة في الصراع العربي الإسرائيلي بعد حرب حزيران 1967 كانت حرب 1973. ومع أن هذه الحرب لم تحقق أهدافها العسكرية المقررة، بسبب التدخل العسكري الأميركي فيها لصالح إسرائيل، إلا أنها حققت انتصاراً مادياً معنوياً عربياً مهماُ، أعاد إلى العرب كرامتهم وثقتهم بأنفسهم. كما أن هذه الحرب، وكما ذكر، قد أسقطت الوهم الشائع القائل أن إسرائيل دولة لا تهزم وأن جيشها جيش لا يقهر. لقد هزمت إسرائيل في هذه الحرب، وتقول بعض الوثائق أنها كادت أن تستسلم لولا الإسناد العسكري الأميركي الذي خف لنجدتها ومن ثم إنقاذها.
بالمقابل، إن لاءات الخرطوم التاريخية الثلاث، والمقاومة الفلسطينية البطلة، وحرب 1973 المجيدة لم تلغ توجهات التيار المتنامي للسلام مع إسرائيل في الوطن العربي. ولعل أكبر اختراق عربي نحو السلام في تاريخ قضية فلسطين هو، وكما ذكر، قيام الرئيس المصري محمد أنور السادات بزيارة إسرائيل في 19/11/1977، وإعلانه استعداده للسلام والصلح مع إسرائيل. وكما هو معروف، كانت هذه الزيارة تمهيداً ومقدمة لمعاهدة السلام التي وقعت في 26/3/1977 بين جمهورية مصر العربية ودولة إسرائيل.
إن جمهورية مصر العربية، ودون منازع أهم دولة إسلامية، وهي ليست أكبر وأقوى دولة عربية فحسب، بل هي القيادة الدينية والفكرية والسياسية والثقافية للأمة العربية. من هذا المنطلق، فإن إبرامها معاهدة سلام مع إسرائيل كانت محطة مهمة جداً في الصراع العربي الإسرائيلي، وبالتالي في التاريخ المصري والعربي والإسلامي. إن توقيع هذه المعاهدة، يعني فيما يعني، قبول أكبر وأهم قوة عربية بالتخلي عن جزء لا يتجزأ من أرض عربية إسلامية لجهة أجنبية. وهذا الجزء لا يناظر أي جزء من أجزاء الوطن العربي والعالم الإسلامي، بل إنه جزء مقدس، مروية ترابه بدماء العرب والمسلمين الزكية.
ومع أن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية قد قوبلت بعدم الرضا والرفض من قبل أغلبية العرب والمسلمين دولاً وشعوباً، إلا أنها كانت مقدمة وحجة لأطراف عربية أخرى ذات علاقة خاصة بالصراع العربي الإسرائيلي للتحرك نحو السلام مع إسرائيل. ولعل أهم هذه التحركات هو الاتفاق الذي عرف باتفاق أوسلو، والذي وقع بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة إسرائيل. وفي هذا الاتفاق اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، بدولة إسرائيل في حدود سنة 1967، مقابل اعتراف إسرائيل بالمنظمة. وقد تطور عن اتفاق أوسلو قيام سلطة وطنية فلسطينية وحكومة فلسطينية تتولى مسؤولية الإدارة العامة في الضفة الغربية وتحت سيطرة إسرائيل. أما قطاع غزة فتتولى إدارته حكومة خاصة به. هذا مع العلم أن هذا القطاع محاصر من قبل إسرائيل برياً وبحرياً وجوياً. إن اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بإسرائيل من خلال اتفاق أوسلو يعني، بالنسبة للإنسان العربي والمسلم، تنازل أصحاب الحق الشرعي المباشر بفلسطين عن جزء من فلسطين لغاصبين لهذا الجزء بدون وجه حق.
ويأتي بالأهمية التالية لأهمية الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي في أوسلو، الاتفاق الأردني الإسرائيلي، والذي تبلور بالمعاهدة الأردنية الإسرائيلية التي وقّعت بتاريخ 26/10/1994. وتأتي هذه الأهمية من أن الأردن أرضاً وشعباً هو توأم فلسطين أرضاً وشعباً، وبالتالي فإن كل ما سوف يتعرض له الشعب الفلسطيني سينعكس على الشعب الأردني والعكس صحيح.
كان التصور العربي أن إسرائيل، وبتوقيعها اتفاقات سلام مع منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وجمهورية مصر العربية أكبر وأقوى وأهم دولة عربية والمملكة الأردنية الهاشمية، سوف تستجيب لأهم بعد في هذا السلام، وهو الانسحاب الكامل من الضفة الغربية وقطاع غزة لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس العربية.
إن إسرائيل لم تستجب للتصور العربي الآنف الذكر. فإسرائيل لا تزال تسيطر على الضفة الغربية والقدس العربية، ولا تزال تحاصر قطاع غزة. وإسرائيل لا تزال تؤكد أن القدس هي عاصمتها الأبدية. وإسرائيل لا تزال تستولي على الأراضي في الضفة الغربية والقدس العربية، ولا تزال تبني المستوطنات. خلاصة القول أن إسرائيل بأعمالها ومواقفها المعلنة وغير المعلنة، تبدو أنها غير معنية بالسلام العربي الإسرائيلي ولا تسعى له. وأن محور هذا السلام، وكما هو معروف، هو السلام الفلسطيني الإسرائيلي. من جهة أخرى، إن موقف إسرائيل من السلام بعد كل التنازلات العربية الآنفة الذكر، يوحي أن إسرائيل لا تزال ملتزمة التزاماً كاملاً بتحقيق هدف الحركة الصهيونية الذي يسعى لإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين كاملة، ودفع جميع سكانها الأصليين خارجها. إن هذا الهدف سوف يتحقق، بدون أدنى شك، ما لم تتطور إرادة فلسطينية واحدة مدعومة بإرادة عربية واحدة تتصدى لمثل هذا العدوان.
من هذه المنطلقات وغيرها، ولمنع استشراء العدوان الصهيوني، يتوجب على المواطن العربي بصورة عامة، والمواطن الأردني والفلسطيني بصورة خاصة أن يعي ويدرك وعلى الدوام أن دولة إسرائيل قامت على أسس باطلة وقواعد زائفة، وعليه أن يدرك ويعي ويعرف أيضاً أن عوامل كثيرة ساهمت في قيام هذه الدولة. وعليه أن يدرك ويعي أن معالجة هذه العوامل هي الخطوة الأولى في مواجهة العدوان الصهيوني. وأهم هذه العوامل خمسة هي:
الأول: الجهل بالحركة الصهيونية، من حيث فلسفتها ومبادئها وأهدافها ووسائلها وأساليبها عند المواطن العربي، وعند الأغلبية الساحقة من قياداته وخاصة السياسية. وبسبب هذا الجهل، وباستثناءات قليلة، لم يدرك العرب، مواطنون وقيادات، خطورة الحركة الصهيونية عليهم وعلى أوطانهم، وبالتالي لم يستعدوا الاستعداد المناسب للتصدي لها. لعل الصدمة الموجعة التي تلقاها العرب شعوباً وقيادات بسبب الهزيمة التي لحقت بهم في سنة 1948، كانت أول إنذار جدّي لهم بخطورة الحركة الصهيونية. لكن وللأسف الشديد، فإن أثر هذه الصدمة لم يكن كافياً لإزالة هذا الجهل، وبالتالي الاستعداد الكافي لمواجهة الحركة الصهيونية والتصدي لأهدافها العدوانية. ولعل أكبر دليل على ذلك الهزيمة المخزية التي لحقت بالعرب مرة ثانية في حرب 1967، هذه الهزيمة والتي تتجاوز هزيمة 1948 مذلة وهواناً هي أكبر دليل على ذلك. إن حرب 1973 كانت مؤشراً لبدايات أولية لتطور الوعي بالصهيونية وبالقوى التي تقف خلفها.
المواطنون العرب، شعوباً وقيادات، يجب أن يدركوا بوعي وخلق ومسؤولية أن الحركة الصهيونية قوة مؤثرة في العالم، وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية، وأنها تزداد قوة كلما زادت درجة التفكك والتمزق في الوطن العربي.
من جهة ثانية لقد التزمت الحركة الصهيونية بتحقيق هدف محدد وهو إقامة دولة لليهود على أرض فلسطين كاملة وإجلاء جميع سكانها الأصليين عنها. وقد عملت هذه الدولة وما تزال تعمل على تحقيق هذا الهدف، بخطة محددة وبالتدريج، مستخدمة كل الوسائل والأدوات الممكنة لذلك، ومراعية بذلك الظروف الدولية والإقليمية. إن الصهيونية ستحقق، كما ذكر، هدفها الاستراتيجي بإقامة دولة يهودية على كامل أرض فلسطين إذا لم تلتزم الدول العربية بإستراتيجية مقابلة تمنع تحقيق هذا الهدف. إن متطلبات هذه الإستراتيجية كثيرة لعل من أهم هذه المتطلبات توعية المواطن العربي بفلسفة الحركة الصهيونية ومبادئها وأهدافها ووسائلها وأساليبها، وبالتالي أخطارها على الوطن العربي. ومع أن مسؤولية التوعية الآنفة الذكر تقع على عاتق كثير من مؤسسات الدولة، إلا أن الجانب الأكبر من هذه المسؤولية يقع على المؤسسة التربوية وبصورة خاصة على برامج التربية السياسية التي تقدمها مدارسها وكلياتها وجامعاتها.
الثاني: الانقسامات في صفوف الشعب الفلسطيني : منذ بداية الترجمة العملية للفكرة الصهيونية لإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين وحتى الآن، لعبت ولا زالت تلعب الانقسامات المتنوعة في صفوف الشعب الفلسطيني دوراً مهماً في مساعدة العدوان الصهيوني على تحقيق أهدافه. وللأسف الشديد كانت أسباب هذا الانقسام، وفي كثير من الأحيان شخصية وليست فكرية أو مبدئية. هذا وبدلاً من أن يوحد الشعب الفلسطيني صفوفه ويجمد خلافاته لمواجهته العدوان الصهيوني، انقسم على نفسه ومزق صفوفه. إن المصلحة الوطنية للشعب الفلسطيني والمصلحة القومية للأمة العربية أن يوحد الشعب الفلسطيني صفوفه، وأن يؤجل اختلافاته بأشكالها المختلفة إلى ما بعد قيام الدولة الفلسطينية. إن التجربة الجزائرية، في التاريخ العربي المعاصر، وكما ذكر، خير مثال يمكن للشعب الفلسطيني الاقتداء له. فلقد استطاعت جبهة التحرير الوطني الجزائرية أن توحد جميع المنظمات والشخصيات الوطنية المطالبة بتحرير الجزائر في إطارها. وبهذا التوحيد استطاعت هذه الجبهة أن تحرر الجزائر من فرنسا وتحقق استقلالها. إن التربية السياسية يجب أن تؤكد في برامجها أهمية وحدة الشعب الفلسطيني، وبالتالي أهمية وحدة صفوفه وبالتالي وحدة إرادته.
الثالث: الانقسام العربي: الانقسام العربي كالانقسام الفلسطيني لعب وما يزال يلعب، دوراً رئيسياً في الهزائم المتكررة والكوارث المفجعة التي ألحقها العدوان الصهيوني بالأمة العربية. إن احتلال إسرائيل لمدينة القدس العربية، سيظل، وإلى أن يتم تحريرها، سبة ووصمة عار في جبين جميع الدول العربية، وعلى رأسها أنظمتها الحاكمة. هذا ويمكن القول، أن السبب الرئيسي للانقسام بين الدول العربية يعود بصورة رئيسية إلى أن أغلب أنظمة هذه الدول أنظمة غير ديمقراطية. إن كل المؤشرات تدل على أن جميع أنظمة الدول العربية تتجه في الوقت الحاضر نحو الديمقراطية. والانقسام بين الدول العربية سوف ينتهي عندما تصبح الديمقراطية هي أسلوب الحكم فيها. وعندما ينتهي الانقسام بين الدول العربية سوف تتطور الإرادة العربية الواحدة، وسوف تلعب هذه الإرادة دوراً حاسماً في تسوية قضية فلسطين تسوية عادلة شاملة دائمة. إن دور التربية السياسية يكمن في تعميق مفهوم الديمقراطية وترسيخ مبادئها وأخلاقياتها والمساهمة الواعية في ممارساتها ومؤسساتها مساهمة مهمة جداً في بناء المجتمعات العربية الديمقراطية وبالتالي في وحدتها.
الرابع: الدعم الأميركي: من المعروف أن بريطانيا زرعت بذرة العدوان الصهيوني على أرض فلسطين بوعد بلفور، وبريطانيا هي التي رعت هذه البذرة حتى أصبحت قوة مؤثرة قادرة على تحقيق أهدافها بالاستيلاء على فلسطين ظلماً وعدواناً ودون وجه حق. وبعد قيام إسرائيل على أرض فلسطين، تولت الولايات المتحدة الأميركية ولا تزال تتولى مهمة دعم ومساندة هذا العدوان المغتصب سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. هذا ويمكن القول أن إسرائيل تقوم بجميع أعمالها العدوانية من قتل وتدمير وتشريد للشعب الفلسطيني وبناء مستوطنات على أرضه بالدعم الأميركي المالي والسياسي والعسكري. ولعل خير مؤشر على ذلك موقف حكومة الولايات المتحدة الأميركية من قضايا الشعب الفلسطيني في مجلس الأمن.
إن الدعم الأميركي للعدوان الصهيوني ما كان ليكون بهذه الدرجة الظالمة وبهذه الصورة البشعة لو كان هنالك إرادة عربية واحدة لتحسب الحكومة الأميركية حسابها. ولعل خير مثال على دعم الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل عسكرياً هو الدور الذي سبق ذكره والذي لعبته في حرب 1973. فعندما أوشكت إسرائيل على الاستسلام في هذه الحرب، بعد اختراق القوات المصرية الباسلة لقناة السويس، واندفاعها في سيناء نحو فلسطين تدخلت الولايات المتحدة الأميركية لنجدتها بالرجال والسلاح والذخيرة. وفي هذا الصدد يقال أن الجسر الجوي الذي أقامته أمريكا لنقل الرجال والسلام والذخيرة من أوروبا إلى سيناء مصر كان أكبر جسر جوي أقيم في التاريخ. لقد وقفت الدول العربية متفرجة على تدمير القوات المصرية بسبب غياب وحدة إرادتها. إن دور التربية السياسية يعمق مفهوم الوحدة العربية في عقول ووجدان الإنسان العربي في جميع الدول العربية. إن كرامة الإنسان العربي في جميع الدول العربية واحترامه في عالمنا المعاصر، لا يمكن أن يتحقق إلا بوحدة الإرادة العربية. كما أن تطور الوطن العربي وتقدمه وبالتالي ازدهاره يعتمد على هذه الوحدة.
الخامس: القوة العسكرية الإسرائيلية : منذ بدأت الحركة الصهيونية في تنفيذ مخططها العدواني لإنشاء دولة لليهود على أرض فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت في تطوير قوة عسكرية لتنفيذ هذا المخطط. وبتخطيط محكم، وبمساعدة بريطانيا، استطاع اليهود في فلسطين بناء قوة عسكرية تحت شعار مزعوم هو حماية المستعمرات اليهودية من اعتداءات العرب. ولقد طوروا هذه القوة بالرجال والسلاح وأصبحت ذات فعالية كبيرة. علاوة على ذلك، لقد استفاد اليهود من ظروف الحرب العالمية الثانية استفادة كبيرة جداً، في مجال التدريب والتسليح، فجندوا في صفوف جيوش الحلفاء عشرات الآلاف من اليهود، الذين توفر لهم تدريب وإعداد عسكري متميز، وتسليح جيد في الحرب الآنفة الذكر. وهؤلاء الذين تدربوا وشكلوا فيما بعد نواة القوات الإسرائيلية. وعندما بدأت الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1948، كان حجم القوات الإسرائيلية الآنفة الذكر يساوي حوالي ثلاثة أضعاف حجم القوات العربية التي شاركت في هذه الحرب. وهذا التفوق العسكري الإسرائيلي في التدريب والتسليح هو الذي أوقع الهزيمة في الجيوش العربية في هذه الحرب.
واستمرار التفوق العسكري الإسرائيلي على الجيوش العربية مجتمعه بدعم أمريكي كما ذكر آنفاً، هو الذي أوقع الهزيمة بهذه الجيوش في حرب 1967. واستمرار هذا التفوق في الوقت الحاضر يقف خلف رفض إسرائيل للالتزام بقرارات الشرعية الدولية وتحقيق السلام الشامل والعادل والدائم.
من جهة أخرى، يساهم وبدرجة كبيرة جداً في التفوق العسكري الإسرائيلي الآنف الذكر الدعم الأميركي له. فالولايات المتحدة الأميركية لا تدعم القوات المسلحة الإسرائيلية في التسليح السخي والمتميز فقط بل توفر لها الدعم العملي، وهناك اتفاقيات أمريكية إسرائيلية تنظمه. فإذا ما تعرّضت القوات المسلحة الإسرائيلية للهزيمة، تندفع الولايات المتحدة الأميركية لمساعدتها بالسلاح والرجال. إن الانحياز الأميركي غير العادل لإسرائيل، والدعم العسكري غير المحدود لها جعل إسرائيل تتمادى في عدوانها.
المستقبل المتوقع
قبل الحديث عن المستقبل المتوقع للصراع العربي الإسرائيلي، ومحوره قضية فلسطين، قد يكون من الضروري جداً التعرف وبصورة عامة على قناعات الأمة العربية والشعب الفلسطيني حول هذا الصراع وأسلوب التعامل معه.
من هذا المنطلق يمكن القول، أن قناعات الأمة العربية والشعب الفلسطيني تتوزع بالنسبة، للصراع العربي الإسرائيلي وبصورة عامة، إلى مجموعتين رئيسيتين. الأولى، وهي المجموعة التي تعتقد أن الحرب، والحرب فقط، هي الوسيلة الوحيدة لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وهي تلتزم إلى حد كبير بمقولة الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر: «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة». أما المجموعة الثانية، فتعتقد أن السلام، والسلام فقط، هو الوسيلة الوحيدة لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي. ولكل مجموعة من المجموعتين الآنفتي الذكر منطقها ومبرراتها.
تعتقد المجموعة الأولى، مجموعة الحرب، أن إسرائيل قامت على أسس غير شرعية باطلة. وأنها لم تغتصب أرضاً عربية بدون وجه حق فحسب، بل قتلت الآلاف من سكانها الفلسطينيين ومن العرب ظلماً وعدواناً، كما شردت مئات الآلاف من الشعب الفلسطيني، ودمرت مئات البيوت لهم وأزالت من الوجود أكثر من خمسمائة قرية واستولت على مساحات من الأرض الفلسطينية بدون حق، وأقامت عليها المستوطنات. من هذه المعطيات وغيرها لا بد من إزالة دولة إسرائيل من المنطقة، ولا بد من دفع جميع سكانها للعودة إلى الدول التي جاءوا منها. وعلاوة على ذلك، تعتقد هذه المجموعة أن العوامل التي ساعدت إسرائيل على ما قامت وتقوم به من قتل وتشريد وتدمير وبناء مستوطنات تتلاشى. فالانقسام العربي والفلسطيني، الذي ساهم وبدرجة كبيرة إسرائيل في جميع أعمالها العدوانية في طريقه إلى الزوال بتطور الوعي العربي وبتعمق المسيرة الديمقراطية في الوطن العربي. كما أن الدعم الأميركي لإسرائيل مادياً ومعنوياً والذي، وكما ذكر، ساعد ويساعد إسرائيل في استمرار عدوانها، لن يستمر بتطور إرادة عربية واحدة تفرض على الولايات المتحدة الأميركية احترام إرادتها. وبالنسبة لتفوق إسرائيل على العرب عسكرياً فإن هذا التفوق لن يستمر، فسوق السلاح العالمي، وخاصة السوق السوداء، يوفر الآن جميع أنواع الأسلحة لا بل ويوفر أسلحة الدمار الشامل لمن يشاء من دول وجماعات.
أما المجموعة الثانية، مجموعة السلام، فتعتقد أنه رغم ما سببه العدوان الصهيوني الغاشم من قتل للآلاف من الشعب الفلسطيني والأمة العربية، ومن تشريد لمئات الآلاف من سكان فلسطين الآمنيين، ومن تدمير لبيوتهم، والمحو من الوجود المئات من قراهم، والاستيلاء على أرضهم بدون وجه حق وبناء المستوطنات عليها، رغم كل هذه المآسي والآلام والأحزان التي سببها العدوان الصهيوني فإن المفاوضات هي الوسيلة الوحيدة لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي لتحقيق السلام الشامل والعادل والدائم. وعلاوة على ذلك، فإن هذه المجموعة تعتقد أن تحقيق سلام شامل وعادل ودائم للصراع العربي الإسرائيلي، سوف يعود على العرب واليهود بالفائدة والتقدم والتطور والازدهار. وتعتقد هذه المجموعة أن السلام العادل والشامل يقوم على أساس التزام إسرائيل بتنفيذ جميع قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بقضية فلسطين، ومنها وعلى وجه الخصوص قيام الدولة الفلسطينية على جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة وعاصمتها القدس العربية. كما تعتقد هذه المجموعة أن قيادات إسرائيل الفكرية والسياسية والعسكرية، وهي قيادات، لا أحد ينكر على أنها قيادات واعية ومثقفة، يجب أن تدرك أن مواقفها المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي ليس في صالحها حتى على المدى القريب، وأن هذه المواقف إذا ما استمرت سوف تقودهم إلى التهلكة وتقود إسرائيل إلى الدمار. يضاف إلى ذلك أن هذه المجموعة تعتقد أن هذه القيادات تدرك، دون أدنى شك، أن إسرائيل جزيرة صغيرة، لا يتجاوز عدد سكانها كثيراً على خمسة ملايين نسمة، وأن هذه الجزيرة في وسط بحر عربي يتجاوز عدد سكانه الثلاثمائة وخمسين مليون نسمة. فضلاً عن كون هذه الجزيرة محاطة في بحر إسلامي يتجاوز عدد سكانه بليون وربع بليون نسمة.
في إطار هذا الواقع، إن تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، والتوصل إلى سلام شامل وعادل ودائم وحسب جميع قرارات الشرعية الدولية، لا يمكن أن يتحقق ما لم تتطور إرادة عربية واحدة تملك قوة عسكرية مؤهلة تأهيلاً عالياً ومسلحة تسليحاً جيداً قادرة على فرض هذه القرارات بالقوة. من جهة، إن أي تسوية في غياب مثل هذه الإرادة والقوة هي في حقيقتها شكل من أشكال الاستسلام لإرادة العدوان الصهيوني من جهة أخرى.
خلاصة القول، إن واقع الأمة العربية الحالي، والذي يتسم بالضعف والتمزق والفساد والسيطرة الأجنبية على إرادة كثير من دولها، لن يستمر، واستمراره مخالف لنواميس الطبيعة والحياة. كذلك لن يستمر استجداء الدول العربية الدول الكبرى وغيرها من دول العالم، ومنذ أكثر من ستة عقود، لتساعدها على استعادة حقوقها المشروعة المغتصبة في فلسطين، هذه الحقوق المعترف بها بقرارات الشرعية الدولية.
إن حتمية التاريخ، بأبعادها السياسية والعسكرية والديموغرافية وغيرها، لن تسمح لهذا الواقع أن يستمر لأمة بحجم الأمة العربية وإن حتمية التاريخ لا بد وأن تفرض، فيما تفرض، تطور إرادة عربية واحدة قادرة على استعادة هذه الحقوق الشرعية المغتصبة. فالتغيرات التي تشهدها الدول العربية في الوقت الحاضر من ثورات وانتفاضات، ما هي إلا إرهاصات لتغيير هذا الواقع، وبالتالي لتطور هذه الإرادة. وهذه الإرادة ستحظى بدون أدنى شك وبحكم قوتها الديموغرافية والاقتصادية والعسكرية باحترام دول العالم، وستحظى بدعم هذه الدول لاستعادة حقوقها الآنفة الذكر، وحسب قرارات الشرعية الدولية، بالحرب أو بالسلام مهما طال الزمن ومهما بلغت التضحيات.
هذه الإرادة العربية الواحدة، المعززة بمكانة وبقدرة اقتصادية عالمية كبيرة وبقوة عسكرية حاسمة، ستفرض تنفيذ جميع قرارات الشرعية الدولية الآنفة الذكر والمتعلقة بقضية فلسطين، وستفرض أيضاً، إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي بحل شامل وعادل ودائم وإلى الأبد. هذا وقد يتحقق كل ذلك دون اللجوء إلى الحرب والعنف والقتال. كما سوف يتطور عن تنفيذ القرارات الآنفة الذكر دولة عربية فلسطينية مستقلة على أرض فلسطين في إطار الحدود التي رسمتها هذه القرارات وعاصمتها القدس العربية.
ومع أن حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً وشاملاً ودائماً، وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وبموجب تنفيذ جميع قرارات الشرعية الدولية، لن يزيل من نفوسنا وعقولنا كعرب وفلسطينيين، المآسي والأحزان والآلام التي لحقت بنا، كما سوف لا يعيد هذا الحل الروح إلى عشرات الآلاف من الشهداء الفلسطينيين والعرب الذين ذهبوا ضحية العدوان الصهيوني الظالم، كما سوف لا يعيد بناء القرى الفلسطينية التي أزيلت من الوجود، ولا الجوامع والبيوت التي هدمت، ولا مئات الآلاف الذين هجروا. إن إيجابية هذا الحل العادل والشامل والدائم هي أنه سوف يوفر لأجيال الأمة العربية والفلسطينية القادمة الأمن والسلام والاستقرار، ليعيدوا بناء ما دمّر وإصلاح ما خرّب. وبالنسبة لليهود الذين فرضوا وجودهم علينا في بلادنا، والذين قتلوا ونكلوا وهجروا مئات الآلاف من جدودنا وآبائنا وأبنائنا وإخواننا، وأزالوا من الوجود المئات من قرانا وهدموا العشرات من جوامعنا ودمروا الآلاف من بيوتنا. بالنسبة لهؤلاء اليهود، رغم ما قاموا به، سوف نقبل وجودهم في دولتهم المحددة بقرارات الشرعية الدولية. وبحكم المبادئ النابعة من عقيدتنا السمحة والتي تؤكد فيما تؤكد الحلم والعفو والتسامح لن ندفعهم إلى البحر، ليعودوا إلى البلاد التي جاءوا منها، بل سوف نحترم وجودهم في دولتهم المحددة بقرارات الشرعية الدولية. وننطلق في ذلك من أمرين، الأول، إن نسبة كبيرة منهم قد غرر بها وهجر إلى فلسطين. أما الثاني، فإن أكثر من نصف سكان إسرائيل هم من اليهود العرب.
فلسطين والدولة الأردنية
إن علاقة الدولة الأردنية أرضاً وشعباً ونظاماً، بفلسطين وقضية فلسطين، علاقة خاصة، قد لا تناظرها علاقة أي دولة عربية بهذه القضية. فعلاوة على العلاقة القومية بين الشعب الأردني والشعب الفلسطيني، هنالك علاقة خاصة بين هذين الشعبين الشقيقين طورتها عوامل جغرافية وتاريخية وديموغرافية وسياسية. هذا ويمكن القول أنه، ومنذ نشأة الدولة الأردنية كانت قضية فلسطين بعداً رئيسياً محورياً هاماً من أبعاد سياستها، كما كانت هذه القضية تشعل حيزاً مهماً في عقل ووجدان الشعب الأردني. ومن هذا الواقع، دعم الشعب الأردني شقيقه الشعب الفلسطيني في نضاله وتصديه البطولي للعدوان الصهيوني. ولقد عمق هذه العلاقة أيضاً لجوء نسبة كبيرة من أبناء الشعب الفلسطيني إلى الدولة الأردنية، واندماجهم مع الشعب الأردني في جميع مناحي الحياة ومشاربها، فتوحدت وبدرجة كبيرة المشاعر والآمال والتطلعات.
جذور العلاقة
يشكل القطر الأردني والقطر الفلسطيني، من الناحية الجغرافية، القسم الجنوبي، من كل واحد مترابط ومتكامل يعرف في الأدب الجغرافي السياسي باسم بلاد الشام، كما يعرف هذا الكل باسم سورية الكبرى أو باسم سورية الطبيعية. أما القسم الشمالي من هذا الكل المترابط فيتكون من القطر السوري والقطر اللبناني. وباستثناء فترة الاحتلال الصليبي المحدودة لساحل بلاد الشام الجنوبي، ومنذ ما يزيد على ألف سنة، وحتى بداية العقد الثالث من القرن العشرين وبالتحديد مع بداية الانتداب البريطاني على جنوب بلاد الشام والانتداب الفرنسي على شمالها، لم تقم أي حدود سياسية تمزق أرض بلاد الشام وتفرّق بين سكانها، أي أنه لم تقم حدود تفصل بين القطر الأردني والقطر الفلسطيني.
لأهداف إدارية محضة، قسّمت بلاد الشام خلال مراحل التاريخ بأشكال مختلفة. ففي العهد البيزنطي، كانت بلاد الشام مقسمة إدارياً إلى أقسام أربعة، كل قسم منها، وبصورة عامة، عبارة عن شريحة عرضية تمتد من ساحل البحر الأبيض المتوسط غرباً حتى تخوم بادية الشام شرقاً. وكان القسم الأول ابتداءً من الجنوب، جند فلسطين وقصبته القدس ويتشكل، في معطيات الجغرافية السياسية المعاصرة وبصورة عامة، من جنوب القطر الأردني وجنوب القطر الفلسطيني. والقسم الثاني جند الأردن وقصبته طبريا ويتشكل في معطيات الجغرافية السياسية المعاصرة من شمال القطر الأردني وشمال القطر الفلسطيني وجنوب القطر السوري وجنوب القطر اللبناني، والقسم الثالث جند دمشق وقصبته دمشق ويتشكل في معطيات الجغرافية السياسية المعاصرة من جنوب القطر السوري ووسط القطر اللبناني، والقسم الرابع جند حمص وقصبته حمص ويتشكل في معطيات الجغرافية السياسية المعاصرة من وسط القطر السوري وشمال القطر اللبناني. وفي العهد الأموي أضاف الخليفة يزيد بن معاوية إلى أجناد بلاد الشام جنداً خامساً أطلق عليه اسم جند قسرين وحاضرته حلب ولقد استمر هذا التقسيم، وبصورة عامة، بعد الفتح الإسلامي لبلاد الشام وخلال العهد الراشدي والعهد الأموي والعهد العباسي.
وخلال حكم الأخشيديين والفاطميين والمماليك والعثمانيين، أخذت بلاد الشام أشكالاً مختلفة من التقسيمات الإدارية، تداخلت فيها أقسامها الجغرافية السياسية المعاصرة مع بعضها البعض. وعند نهاية الحرب العالمية الأولى كانت بلاد الشام تتشكل، بصورة عامة، من ثلاث ولايات عثمانية هي ولاية دمشق وتشمل وبصورة عامة وحسب التقسيمات الجغرافية والسياسية القائمة الآن، من وسط وجنوب القطر السوري ومن القطر الأردني، وولاية بيروت وتشمل القطر الفلسطيني والقطر اللبناني، وولاية حلب وتشمل شمال القطر السوري.
بعد الحرب العالمية الأولى، أخذت بلاد الشام، ولفترة قصيرة جداً، وضعها الوحدوي الطبيعي. ففي 8 آذار سنة 1920، أعلن المؤتمر العربي السوري، والذي عقد في مدينة دمشق قيام المملكة العربية السورية. وفي هذا المؤتمر بايع أعضاؤه، الذين كانوا يمثلون جميع أجزاء بلاد الشام، الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على هذه المملكة. وقد حدد دستور هذه المملكة، فيما حدد من أحكام، بأنها مملكة اتحادية تتشكل من سبعة أقاليم، وكان كل من القطر الأردني والقطر الفلسطيني من أقاليم هذه المملكة السبعة. وكما هو معروف، لقد انهارت هذه المملكة بعد فترة قصيرة من إعلانها، إثر معركة ميسلون في 24/7/1920، واحتلال الجيش الفرنسي مدينة دمشق بعد ذلك بيومين.
ومن ناحية ديموغرافية فيمكن القول، أن سكان بلاد الشام، ومن ضمنهم الشعب الأردني والشعب الفلسطيني، يشكلون شعباً عربياً واحداً، وهذا الشعب العربي يشكل جزءاً من الأمة العربية الواحدة. ولقد تشكل هذا الشعب ديموغرافياً وبصورة رئيسية من مجموعة الأقوام والقبائل التي هاجرت من الجزيرة العربية على مر العصور، ومن الأقوام المختلفة التي وفدت إلى بلاد الشام من خارج الجزيرة العربية واستقرت فيه لأسباب مختلفة. ولقد تبوتقت هذه الأقوام والقبائل مع بعضها البعض وشكلت شعب بلاد الشام. ولقد عمق هذا التبوتق وأعطى هذا الشعب هويته القومية العربية الفتح الإسلامي. فبعد هذا الفتح أصبح الإسلام العقيدة الدينية للأغلبية الساحقة من سكان بلاد الشام، وأصبحت اللغة العربية لغتهم. هذا ولم تتغير هذه الوحدة الديموغرافية لبلاد الشام بعد تمزيقها إلى أقطار أربعة هي القطر الأردني والقطر الفلسطيني والقطر السوري والقطر اللبناني، ومع تطور هويات وطنية لسكان كل قطر من أقطار بلاد الشام. فلقد حافظ كل من الإسلام كفكر وتراث وحضارة وعقيدة للمسلمين، واللغة العربية على هذه الوحدة الديموغرافية. خلاصة القول أن الشعب الأردني والشعب الفلسطيني وعلاوة على ولاتهما للإسلام وانتمائهما للأمة العربية فإنهما يتجانسان ديموغرافياً تجانساً كاملاً.
تطور العلاقة
بدأت علاقة الدولة الأردنية بقضية فلسطين مع البدايات الأولية لتنفيذ الفكرة العدوانية الصهيونية بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، أي مع بداية الانتداب البريطاني على فلسطين. ولقد كانت هذه العلاقة قائمة على المستوى الرسمي وعلى المستوى الشعبي. فعلى المستوى الرسمي كانت قيادة الدولة الأردنية مدركة لخطر المخطط الصهيوني وأهدافه، وكانت تعمل وبكل جهد ممكن للتصدي له. ومنذ بدايات تنفيذ هذا المخطط طرحت القيادة الأردنية عدة مبادرات لإيقاف استفحال هذا الخطر. وعلى المستوى الشعبي لم يبخل الشعب الأردني بأي شيء، في سبيل دعم شقيقه الشعب الفلسطيني في تصديه البطولي للعدوان الصهيوني. فخلال انتفاضات الشعب الفلسطيني وثوراته البطولية كان الشعب الأردني يقف مع شقيقه الشعب الفلسطيني ويدعمه بالمال والسلاح والرجال. هذا ولقد استمر هذا الحال حتى صدور قرار الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بتاريخ 19/11/1947.
وعند بداية الصراع المسلّح بين العرب واليهود، بعد صدور قرار هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، شارك الشعب الأردني الشعب الفلسطيني في هذا الصراع بالمال والسلاح والرجال. ولقد تطوع عدد كبير من الأردنيين في صفوف المقاومة الفلسطينية الباسلة للدفاع عن الأرض الفلسطينية، ونسبة غير قليلة من هؤلاء المتطوعين كانوا من العسكريين الذين استقالوا من الجيش العربي الأردني للمشاركة في المقاومة الفلسطينية.
وعندما قررت الدول العربية إرسال جيوشها للتصدي للعدوان الصهيوني على فلسطين، والحيلولة دون قيام دولة لليهود على أرض فلسطين، شارك الجيش العربي الأردني في هذه الحرب. ولقد استطاع هذا الجيش، رغم صغر حجمه، أن يحافظ على عروبة أكبر جزء من فلسطين وعلى رأسها مدينة القدس العربية. وكما هو معروف الآن، لقد كان اليهود، وكما ذكر، أكثر استعداداً للحرب من حيث عدد المحاربين المدربين ومن حيث السلاح والذخيرة. ولقد استطاع اليهود، وكما هو معروف، أن يسيطروا على أغلبية أرض فلسطين باستثناء ما عرف في وقت لاحق بالضفة الغربية التي سيطر عليها الجيش العربي الأردني وقطاع غزة وجيب العوجة التي سيطر عليهما الجيش المصري.
لعل أهم عامل في تطور علاقة الدولة الأردنية بقضية فلسطين هو وحدة الضفتين. لقد وجدت بعض القيادات الفلسطينية، وكما ذكر، أن خير ضمان لحماية الضفة الغربية وعلى رأسها مدينة القدس العربية من العدوان الصهيوني هو وحدتها مع الدولة الأردنية. ولقد تمت هذه الوحدة وأعطيت الشرعية بالمؤتمرات الشعبية الفلسطينية التي عقدت في أريحا ونابلس وغيرها، ثم بالانتخابات النيابية التي جرت في 20 نيسان 1950، والتي نتج عنها مجلس أمة مشترك نصف أعضائه من الضفة الشرقية والنصف الآخر من الضفة الغربية. وهنا لا بد من ذكر أن بعض فئات الشعب الفلسطيني قد عارضت هذه الوحدة، وأن هذه الوحدة لم تعترف بها حينئذ أية دولة عربية ولأسباب مختلفة.
بعد وحدة الضفتين، أصبح الفلسطينيون الذين أضحوا مواطنين أردنيين في الدولة الأردنية شركاء أساسيين في هذه الدولة، وأصبح لهم دور رئيسي في سياستها وبصورة خاصة فيما يتعلق بقضية فلسطين. ولقد استمر هذا الحال وبصورة عامة حتى سنة 1967. ففي الخامس من حزيران من تلك السنة، وكما ذكر، شنّت إسرائيل حرباً على الأردن وسورية ومصر وهزمت جيوشها في مدة قصيرة جداً. واحتلت بعد انتصارها الضفة الغربية للأردن ودرتها مدينة القدس العربية، وهضبة الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الدولة الأردنية قد دخلت هذه الحرب، وهي تعلم وتدرك وبدرجة كبيرة أن نتيجتها ليس فقط الهزيمة بل الكارثة باحتلال الضفة الغربية وعلى رأسها مدينة القدس العربية. وكان لدخول الدولة الأردنية هذه الحرب وبهذا العلم والإدراك سببان رئيسيان. وهذان السببان كانا غير مقنعين لبعض القيادات السياسية الأردنية. الأول، الحرص على التضامن القومي، فلا يجوز للدولة الأردنية أن تقف (متفرجة) ودول عربية شقيقة لها تخوض حرباً مع عدو مشترك لهما هو إسرائيل. أما الثاني، الخشية من الشارع السياسي الأردني والعربي الذي قد يتهم الدولة الأردنية أنها سبب الهزيمة فيما لو لم يدخل هذه الحرب.
إن قضية فلسطين كانت القضية المحورية الأساسية للدولة الأردنية منذ نشأتها. وبعد وحدة الضفتين أصبحت الدولة الأردنية تعتبر نفسها أنها المسؤول الرئيسي عن هذه القضية بحكم ثلاثة عوامل. الأول، إن الضفة الغربية، وعلى رأسها مدينة القدس العربية، وهي أرض فلسطينية أصبحت، بعد الوحدة الآنفة الذكر، جزءاً من أرض الدولة الأردنية. والثاني أن حوالي نصف سكان الدولة الأردنية بعد وحدة الضفتين أصبح من الشعب الفلسطيني. والثالث أصبح المواطنون الأردنيون من أصل فلسطيني يشاركون مشاركة كاملة في مسؤولية الحكم وإدارة مؤسسات الدولة ومرافقها. فلقد أصبح نصف أعضاء مجلس الأمة، ونصف أعضاء مجلس الوزراء من أصل فلسطيني. كذلك الأمر بالنسبة لمؤسسات الدولة ومرافقها المختلفة.
هذا الواقع لم يستمر طويلاً، ففي النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي بدأ هذا الدور يتقلص عندما بدأت فئات من الشعب الفلسطيني، وخاصة في ديار الشتات، يفكرون في تولي زمام المبادرة والقيادة في قضية فلسطين. ولقد دفع هذه الفئات لهذا التفكير شعورهم بأن قضية فلسطين لم تعد قضية العرب الأولى وخاصة بالنسبة لقادة الأنظمة العربية، وبالتالي فإن واجبهم الوطني يفرض أن يتولوا هم قيادة النضال بأنفسهم من أجل تحرير أرضهم المحتلة، واستعادة حقوقهم المغتصبة. ولقد تطور هذا التفكير إلى عمل، وتبلور هذا العمل بقيام بعض أبناء الشعب الفلسطيني بتأسيس منظمات سرية كان هدفها القيام بأعمال فدائية داخل الأرض الفلسطينية المحتلة تحرم إسرائيل وسكانها من الأمن والاستقرار، وتكون بداية لتطور مقاومة فلسطينية شاملة تتصدى للعدوان الصهيوني. هذا التوجه تطلب، فيما تطلب، أن يعيد الشعب الفلسطيني التخطيط لإعادة بناء هويته الوطنية التي تشتتت، وأن يسعى إلى توحيد صفوفه التي توزعت وبجميع السبل والوسائل الممكنة.
لقد تبلورت الجهود والتوجهات الآنفة الذكر وبدعم من بعض الدول العربية، وبقرار من القمة العربية في سنة 1964، بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. ولقد عمق ورسخ مكانة منظمة التحرير الفلسطينية فلسطينياً وعربياً وعالمياً عاملان. الأول، انضواء جميع فصائل المقاومة الفلسطينية التي تطورت بعد حرب 1967 تحت لوائها. والثاني، قرار القمة العربية الذي صدر في الرباط سنة 1974، والذي اعتبر منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ويمكن القول وبصورة عامة أن منظمة التحرير الفلسطينية أصبحت بعد ذلك الدولة المعنوية للشعب الفلسطيني على أرض فلسطين وفي ديار الشتتات.
من المعروف أن الهدف العام لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1964، كان توحيد وتنظيم الشعب الفلسطيني، من أجل أن يشارك هذا الشعب الدول العربية سياسياً وعسكرياً في تحرير الأرض الفلسطينية التي احتلت سنة 1948. لقد تغيّر هذا الهدف العام بصورة جذرية بعد حرب 1973. فبعد هذه الحرب تعمق الخيار السلمي للصراع العربي الإسرائيلي، وتحددت أهدافه بانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها مدينة القدس العربية. ولقد رسخ هذا التوجه واقعياً عربياً وفلسطينياً من خلال مجموعة تطورات عربية وأردنية وفلسطينية، سبق ذكر أغلبها، لعل من أهمها:
1- زيارة رئيس جمهورية مصر العربية محمد أنور السادات لمدينة القدس بتاريخ 19/11/1977، وإعلانه استعداده للسلام مع إسرائيل.
2- توقيع معاهدة سلام بين جمهورية مصر العربية وإسرائيل بتاريخ 26/3/1979 .
3- إعلان قيادة منظمة التحرير الفلسطينية للدولة الفلسطينية بتاريخ 1988 واعتراف الدولة الأردنية بها سنة 1988.
4- قرار حكومة الدولة الأردنية بفك الارتباط الإداري والمالي بالضفة الغربية سنة 1988.
5- توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل سنة 1990 .
6- توقيع معاهدة السلام بين الدولة الأردنية وإسرائيل سنة 1994.
هذا ويمكن القول وبصورة عامة، أن التطورات الآنفة الذكر وغيرها، ألغت من ناحية نظرية وحدة الضفتين، وبالتالي ألغت دور الدولة الأردنية كشريك أساسي ورئيسي في تسوية قضية فلسطين، وأصبحت هذه القضية وتسويتها وبصورة رئيسية، من اختصاص منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وذراعها السلطة الوطنية الفلسطينية. بالمقابل، ومن ناحية واقعية وقومية ووطنية، أن هنالك عوامل تحتم أن تظل الدولة الأردنية شريك أساسي ورئيسي في قضية فلسطين. ولعل أهم هذه العوامل ثلاثة. الأول، أن الروابط الجغرافية والتاريخية والديموغرافية والسياسية بين الشعب الأردني والشعب الفلسطيني، الآنفة الذكر، روابط عميقة لا يمكن أن يكون لها نظير بين شعوب الأمة العربية الواحدة، وبالتالي لا يمكن تجاوزها. والثاني، أن مواطني الدولة الأردنية من أصل فلسطيني يشكلون نسبة غير قليلة من مواطني هذه الدولة. إن لهؤلاء المواطنين جذور وأصول وأقارب وأملاك ومصالح في فلسطين لا يمكن تجاهلها، أي بعبارة أخرى لهم علاقات لا يمكن تجاوزها. والثالث، أن مستقبل ومصير وأمن واستقرار وتطور الشعب الأردني لا يمكن فصله عن مستقبل ومصير وأمن واستقرار وتطور الشعب الفلسطيني والعكس صحيح جملةً وتفصيلاً.
وعلاوة على كل ذلك، إن الروابط الكثيرة والعميقة التي تجمع بين الشعب الأردني والشعب الفلسطيني، والقطر الأردني والقطر الفلسطيني، والمصير والمستقبل الواحد الذي ينتظرهما، والتحديات الكثيرة التي تواجهما معاً تفرض، وحتى الوصول إلى حل شامل دائم عادل للصراع الفلسطيني، وأساسه قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس العربية، تفرض وضع قواعد وتقاليد تحكم العلاقة بين الشعبين الشقيقين.
بعبارة أخرى، وإلى أن يتحقق الحل الشامل والعادل والدائم لقضية فلسطين، وعلى أساس جميع قرارات الشرعية الدولية، وإلى أن يتحقق قيام الدولة الفلسطينية على أرض فلسطين وعاصمتها القدس العربية، فلا بد من التأكيد على أن مواطني الدولة الأردنية من الشعب الفلسطيني هم مواطنون في الدولة الأردنية ويتساوون تساوياً كاملاً في الحقوق والواجبات مع غيرهم من مواطني هذه الدولة. بالطبع إن هذا الاعتبار يجب أن لا يلغي بأي شكل من الأشكال الالتزام بالأمرين التاليين:
1- أن مواطني الدولة الأردنية من الشعب الفلسطيني هم جزء لا يتجزأ من هذا الشعب، ويشكلون مع أبناء الشعب الفلسطيني المقيمين على أرض فلسطين أو في أرض الشتات شعب واحد هو الشعب العربي الفلسطيني.
2- إن الهوية الوطنية الفلسطينية، التي عملت الصهيونية على تغييبها وساعدتها بوعي أو بدون وعي جهات عربية، حق مقدس للفلسطيني أن ينتمي إليها، وواجب الدول العربية الاعتراف بها واحترامها أسوة بالهويات الوطنية لشعوب الأمة العربية الواحدة.
من جهة أخرى، يجب التذكر دائماً، المبدأ القائل أن مصير ومستقبل وأمن واستقرار الشعب الأردني مرتبط ارتباطاً عضوياً مع مصير مستقبل وأمن واستقرار الشعب الفلسطيني، والعكس صحيح جملةً وتفصيلاً. إن هذا المبدأ قائم قبل قيام الدولة الفلسطينية وبعد قيامها. من هذا المنطلق، ولتعميق هذه العلاقة بين الشعب الأردني والشعب الفلسطيني، فلا بد من وضع قواعد وتقاليد تنظم هذه العلاقة وترسخها. ويقع على المؤسسات الرسمية وغير الرسمية من أحزاب ونقابات وجمعيات وروابط وغيرها مسؤولية مهمة جداً في ترسيخ هذه القواعد والتقاليد.
وأخيراً، وليس آخراً، وبعد قيام الدولة الفلسطينية على أرض فلسطين، وعاصمتها القدس العربية، فلا بد من أن يعطى مواطن الدولة الأردنية من الشعب الفلسطيني حق الاختيار بين أن يكون مواطناً في الدولة الأردنية ويحمل جنسيتها، أو أن يكون مواطناً في الدولة الفلسطينية ويحمل جنسيتها.
خلاصة القول، إن دور التربية السياسية لا يقتصر فقط على تعريف المواطن الأردني والمواطن الفلسطيني بجذور العلاقة بين الشعب الأردني والشعب الفلسطيني، وتطور هذه العلاقة ومستقبلها، مع أهمية ذلك وضرورته. إن لهذا الدور هدف آخر لا يقل أهمية وضرورة. وهذا الهدف يتعلق بتطوير قناعات راسخة واتجاهات عميقة عند المواطن الأردني والمواطن الفلسطيني بأن العلاقة بين الشعب الأردني والشعب الفلسطيني ليست علاقة طارئة مؤقتة بل هي علاقة حياة ومصير. كما يشمل هذا الهدف أيضاً ترسيخ هذه القناعات والاتجاهات في عقول ووجدان الأردنيين والفلسطينيين لتصبح موجهات لسلوكهما العام في جميع مواقف الحياة ومناحيها
التعليقات (0)