أخيرا استقبلوه ووعودا باعوه. دخلها بمبادرة وتشجيع على حل. لم يتجرأ على تقديم كامل المبادرة ووجد في انتظاره الحل. نعم وجده وبه اقتنع!!!. هكذا أعلن. ورجع كعادته متفائلا يُسوّق وعودا, ويقرأ على سامعيه مزاميرا, ويُعّوم مفاوضيه بعد أن اسقط العالم شرعيتهم. برأ الرجل ذمته وذمة مرسليه. وخدم أمته وجامعته.
يا للجامعة العربية ويا لأمنيها. ويا لمن هم وراء الجامعة وأمينها. أخرسهم هول المآسي السورية سبعة شهور قبل أن يبادروا. ليتهم لم يبادروا. ليتهم لم يتنادوا, بعد فوات الأوان, "لإيجاد مخرج للازمة القائمة". مآس ودماء لم تخجلهم من أنفسهم, ولم تحرك فيهم ما يسمى النخوة العربية, بعد ما تحركت النخوة غير العربية عند غير العرب, وعند كل أحرار العالم خارج الوطن العربي منذ إطلاق الرصاصة الأولى على الشهيد الأول. مآس لا يرونها إلا أزمة عابرة ، غيمة صيف, تداعوا للإيجاد مخرج منها, ومخارجهم غير سليمة و غير سالكة.
أراد الحكام العرب أن يستتروا خلف الجامعة وخلف أمينها, وكأنّ للجامعة ولأمنائها العامين والمساعدين وكل موظفي الدرجة الأولى فيها, عبر تاريخها وتاريخهم, موقفا مستقلا, وسطوة مخيفة, ودورا حاسما في اتخاذ القرارات وفي حل المعضلات. ليس على الحكام العرب من عتب.
العتب كل العتب على الشعوب العربية الصامتة صمت من لا يرى ولا يسمع, وكأنّ الدم السوري دم مباح لا يهم أحدا, بمن فيهم من ناصر الشعب السوري ثوراتهم الحديثة . كان يمكن لحراك الشوارع العربية أن تسارع في إيقاف نزيف الدماء السورية, أو تخفف منها, أن تحاصر الطغاة. ولكن !!!, يا حيف. لم تعبر الشعوب عن أخوتها وإنسانيتها تجاه شعب عريق حضاري معطاء حامل, عبر تاريخه, الآم وآمال الآمة العربية بكل مكوناتها. هذا هو يوم التعبير لكل صاحب ضمير. وإلا فليصمت الصامتون إلى الأبد ولا يزواد على شعب سوريا أحد.
لم ير الأمين العام حتما اللافتات التي يرفعها المتظاهرون السوريون في كل مظاهراتهم المتزامنة مع عودته الميمونة الثانية, وعليها شعارات وعبارات منها : لا أهلا ولا سهلا بأمين الجامعة العربية. يُمرّر الأمين من الشوارع التي لا ازعجاج فيها, ويستضاف في استراحات مريحة حيث يخيم الصمت والأمن المفروض بدبابة ومدفع. فلا يرى أية تظاهرات احتجاجية, ولا أية دبابة في الشوارع, ولا أي جندي أو رجل أمن أو شبيح. ولا يسمع عن مقتل 27 شهيدا في حمص وغيرها من المدن في اليوم نفسه الذي يبحث فيه مع محاوريه عن حوار وآليات حوار. يريحه أن لا يرى ولا يسمع, حتى يكون مرتاح الضمير حين يتحدث وحين يشهد, وحين ينقل الشهادة, فالشهادة أمانة.
نبيل العربي كمواطن مصري هو, ككل ضيف وزائر, عزيز إن جاء ضيفا وزائرا أهله في سوريا, ولكنه كموظف لجامعة عربية تريد نقل مبادرة عبره, وفيها ما فيها, فلا يمكنه أن يلقى ترحيبا وحفاوة, ولا حُبّا وودا, ولا شكرا وتقديرا.
الشعب السوري معطاء ومضياف يرحب بضيوفه بكرم زائد, وهذا ما هو معروف عنه ومعترف له به. ولكنه لا يرحب أبدا بمن يجيء متنكرا لتضحياته, لشهدائه, ويساوم على قضيتهم, باحثا عن "مخرج". مخرج لمن؟!!!. وفي عودته يعلن في مطار القاهرة: " تم الاتفاق على خطوات للإصلاح" ولم يقل السيد الأمين بين من ومن هذا الاتفاق الإصلاحي, وإذا ما كان الشعب السوري معني أو صاحب علاقة في هذا الشأن. وهذا ما يثبت أن السيد العربي في عالم غير هذا العالم ولا دراية له بما يجري في سوريا وما الإصلاحات التي يطالب بها الشعب السوري الذي لا حساب له في مبادرة السيد المذكور. (ليس عن عبث وصفته لافتات المتظاهرين بـ "نعامة العرب".
لا شك بأنه كممثل لجامعة الدول العربية, وليس للشعوب التي لا تعنيه في شيء, ولا تهمه قضاياها, يهمه فقط إخراج حكام تلك الدول من زنقتهم, ساعة الزنقة, على حساب دماء وحريات وكرامة شعوبهم. وان لم يفعل الأمين وجامعته ذلك فما فائدة وجدوه ووجودها. والجامعة تعبر اليوم عن " رغبتها بمساعدة سوريا (سوريا النظام طبعا) لتجاوز هذه المرحلة التي تمر بها".
ناقش العربي مع القيادة السورية بجدية "المبادئ" الموصلة إلى مخرج من النفق, وليس المخرج من النفاق. ويرتاح لنتائج النقاش وبداية الحوار وآلياته. وكأن الأمين يبرهن مرة أخرى على انه جديد على فن السياسة وخدعها وأساليبها, بكل الموروث عن ميكافيلي والمضاف إليه سوريا. السياسة عند محاوري الأمين العام ليست كما يُدرّس في الجامعات والمعاهد السياسة. لا احد من هؤلاء يفهمها هكذا, ولم يفتح احد منهم طيلة حياته كتابا في علم السياسة وأصولها, وإنما هي عندهم تطبيق عملي غير أخلاقي, الضرب فيه تحت الحزام هو القاعدة والأصل.
لم يتنبه الأمين العام وهو الجديد في الجامعة العربية والطارئ على الممارسات العربية في مجال السياسة, أن محاوريه السوريين يضعون في جيبهم الصغير كل محاوريهم ممن لم يتمرسوا في فنون الخداع والنفاق والانتهازية , وأساليب التجارة, ومنها التجارة بالمبادئ والقيم والشعارات والأخلاق.
يذهب الأمين العام لابسا نفس الوجه الذي كان يلبسه قادما من مقره, نفس وجه الزيارة الأولى, (مع أن فن الخداع يتطلب تغيير الوجوه أو على الأقل تمويهها). وجه لم يدر به للحظة جهة الشعب السوري, حتى لإلقاء السلام مجاملة, والسؤال عن الأحوال, مكتفيا بما قاله له محاوروه وطمأنوه بان سورية بخير, وأوغروا صدره على العصابات المسلحة التي تقتل وتفتك بالعباد وتنشر الإرهاب والفساد, ولا تعطي فرصة لتحقيق الإصلاحات " المنشودة". عصابات تحركها المؤامرة وتضلل المتظاهرين المطالبين بحقوق مهنية. كلمة مؤامرة تضرب على وتر حساس عند الأمين فيخلط بين المتآمرين والمتآمر عليهم, ويخشى أن يتم اعتباره هو نفسه طرف فيها, غير مقاوم وغير ممانع.
الإصلاحات المنشودة, هكذا قالها الدبلوماسي نبيل العربي, دون أن يكلف نفسه إلقاء بعض الضوء عليها, منشودة وكفى, من نشدها وينشدها غير مهم. هل هي التي ينشدها الشعب ويبذل دماء من أجلها؟ أم من يسفك تلك الدماء هو من نشدها وينشدها؟. أم نشدتها وتنشدها الجامعة العربية بألسنة حكام دولها؟.
ماذا تعني الإصلاحات المنشودة للحكام العرب؟.هل نشدوا يوما إصلاحات لشعوبهم بلسانهم الخاص, بالأصالة عن أنفسهم, أو بلسان جامعتهم وموظفيها بالوكالة؟. هل تضمنت, إن كانوا قد فعلوا, بعض ما ينشده الشعب السوري لنفسه: حرية مثلا, ديمقراطية, كرامة إنسانية, عدالة اجتماعية, ديمقراطية, تداول على السلطة ؟... هل يرضيهم سماع مثل هذه الإصلاحات عندهم؟. هل يرضون بتحويل رعاياهم إلى مواطنين؟. هل يمكنهم أن ينزلوا يوما بأنفسهم من معصومين إلى آدميين خطاءين, ويقبلوا بان "كل ابن آدم خطّاء"؟. عندها فقط يمكنهم التبحر في تفسير الإصلاحات المنشودة, ويمكنهم كمتبحرين في علمها النصح بها أو تصديرها للشعب السوري الثائر. ولا نعتقد أن الشعب السوري سيرد عليهم بأقل من القول تعلموا من رأس الذئب المقطوع كما جاء في قصص كليلة ودمنة, ومن قصة أكل الثيران الأسود والأبيض والأحمر كل بدوره. أو من قول عميدهم القذافي ملك ملوك أفريقيا المخلوع متنبئا لهم بان "الدور جاي عليكم كلكم. أي نعم" .
ما يؤسف إن الشعب السوري في الشوارع منذ سبعة شهور متواصلة و تسمعه وتفهمه الدنيا بأكملها, إلا الجامعة العربية وأمينها ومن هم وراء الجامعة من حكام , لم يفهموا هذا الشعب الخلاق, الثائر لنفسه وبنفسه. يحسون قشعريرة التغيير تسري في ظهورهم باردة ومرجفة إن حاولوا الفهم, فيؤجلونه. وتدفعهم غريزة البقاء إلى مقاومة ما يحسونه, والإحساس غريزة في كل المخلوقات, بما فيها غير الناطقة. أما الفهم فهو ملكة لا يتوفر لكل المخلوقات.
كان على الأمين أن يحمل شيئا مفيدا في الوقت المفيد, أو أن لا يحمل شيئا, فيبقى عندها نبيلا في مواقفه. (ولا نظنه كشخص إلا نبيلا ونحترمه بصفته هذه ونقدره) وكان على الجامعة العربية, كمنظمة, أن لا تتخلف عن مواقف المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية التي تساند حقوق الإنسان في كل مكان, بما فيه الإنسان العربي, وان لم تستطع فاضعف الأيمان أن لا تساند الجريمة.
الشعب السوري لم يفوض أحدا على التفاوض باسمه والمشاركة بإيجاد الحلول على حسابه, فهو شعب حاضر في الشوارع, وفيها يعلن بقوة مطالبه معمدة بدمائه, وأصبح حاضرا حضورا قويا في ضمير الإنسانية.
أملنا أن لا يبيع السيد نبيل العربي, الإنسان العربي "المُزكّى" من الثورة المصرية, نفسه لنبيل العربي الموظف الدبلوماسي, المسخر لشغل وظيفة في الجامعة, والمبعوث في مهمة غير نبيلة زكتها الجامعة العربية. أملنا أن يختار الوقوف إلى جانب الشعوب ومطالبها. أمام الدماء المسفوحة من اجل قضايا الحرية والكرامة تسقط كل الاعتبارات الدبلوماسية والسياسية.
أملنا أن يكون الدكتور نبيل العربي أمينا على القيم التي تناضل من اجلها الشعوب العربية , ومنها الشعب السوري, أن يكون مع مسيرة التاريخ ويسجل للجامعة العربية, الستينية (التي شابت على ما شبت عليه ), ولو لمرة واحدة في تاريخها, موقفا نبيلا, وعندها سيرى تغيرا كبيرا فيما يكتب على اللافتات من شعارات يرفعها الثوار, شعارات وعبارات الترحيب ترددها الحناجر الباحثة عن نصير. ترحيب الشعب فخر ومجد للمرحب به, أما ترحيب الأنظمة فمشين و فيه لطخة عار.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)