مواضيع اليوم

دخان.. ودخان (قصة قصيرة)

nasser damaj

2009-05-10 05:58:00

0

قصة قصيرة بقلم: خليل إبراهيم الفزيع

 

دخان.. ودخان

 

رشـفت من فنجـان الشـاي الـذي بدأت تتسـرب إليه برودة الربيع.. رشـفة أشـعرتها بالارتـياح.. عـادت إلى الانغماس في تصحيح دفاتر تلميذاتها.. تململت في جلسـتها.. ســارعـت إلى إقفـال باب غرفتها.. توجهت إلى دولاب ملابسـها.. دست يدها بين الملابس المتراكمة دون ترتيب ثم استخرجت علبة سجائر انتزعت منها واحـدة وأعـادت العلـبة إلى مكانهـا.. عندمـا اسـتقرت على مكتبهـا اسـتخرجـت من أحـد أدراجـه علبة كبريت.. أشـعلت السيجارة.. أخـذت منها نفسا عميقا.. تناولـت من الدرج ذاته مبخـرة وضـعت بها بعض الفحم الصناعي السريع الاشتعال.. أسعلته حتى استحـال جمرا.. وضعـت فوقـه قطعـا مـن العـود الـذي بدأت رائحـته النفـاذة تبدد رائحـة دخان السيجارة، انكبت على تصحيح دفاتر تلميذاتها، ونفسها مفعمة بالكآبة والحزن، بينما راح صوت مطربتها المفضلة يردد:

( خذ من عمري.. عمري كله إلا ثواني أشوفك فيها ).

بدأت التفكير فيما حدث قبل قليل عندما ولج باب غرفتها فجأة، وكانت قد نسيت إغلاقه من الداخل.. وبخها كثيرا لأنها تصرفت في جزء من راتبها لشراء بعض احتياجاتها الخاصة.. حدق في وجهها متأملا بعمق.. محاولا قراءة ما يدور في رأسها من أفكار.. أحست بنظراته تخـترق كيانها.. شعرت بالضـيق فأشـاحت بوجهها عنه.. تتحاشى نظراته التي تكاد تمزق أستار أسرارها الدفينة، ومشاعرها المطمورة في أعماق نفسها المعذبة، لم تشعر حياله يوما بغير الاحترام المقترن بالخـوف الشديد من بطشه وجبروته، لكنها الآن في حـيرة مـن أمـرها.. تتنازعها مشـاعر التمـرد والرفض بعد أن لاقت ما لاقـت من تعنته وعناده، حـتى باتت نفسها تحدثها بمواجهته، وإن كانت تعلم مقدما بأنها مواجهة خاسرة.. خرج من غرفتها غاضبا، وصفق الباب بقوة وهو يتمتم بكلمات لم تتبينها، وإن كانت تدرك أنها ليست سوى شتائم موجهة لها ولأخواتها ولأمها. 

تنفست سلوى بعمق بعد خروجه.. تمتمت بصوت منخفض كأنما تحدث نفسها:

ـ إلى متى هذا القهر يا ربي؟

حاولت تصحيح دفاتر تلميذاتها.. ولم تنجح محاولتها.

كثيرا ما تحدثت إلى أمها عن إصرار أبيها على بقائها في ( خانة ) العوانس رغم أن معظم من تقدموا لها من ذوي الدين والخلق، لكنه يصر على رفضهم لا لسبب سوى أنه يريد الاستيلاء على راتبها الشهري، رغم وعودها بالتنازل عنه إذا وافق على زواجها الذي تأخر أكثر مما يجب.. هاهي تدلف إلى بوابة الأربعين دون أن يرتوي جسدها برحيق اللذة، أو ينهل من نعيم الزواج.. لكن حديثها مع أمها لم يجد نفعا، لأنها غير قادرة على مواجهته أو الاعتراض على قراراته، وهي الزوجة التي تتلقى على الدوام طيشه ونزواته بصمت العاجز، وصبر المؤمن.

 إنها واحدة من أربع بنات شاء الله أن تكون أكبرهن سنا، والـدها الـذي بدد مبلغا ضخما حصل عليه كمكافأة لنهاية الخدمة من شركة النفط التي أمضى في خدمتها أكثر من أربعين عاما قبل أن يتقاعد وهو في سن الستين، والدهـا هـذا لا يزال في نهمـه للمـال كما هو دائما.. إثر تقاعده انغمس في الأسفار إلى بلدان جنوب شرق آسيا، وهـناك حـاول تأسيس بعض المشاريع التجارية التي كانت نتيجتها الفشل الذريع.. عاد إلى الديار لا ليعيش بهدوء مستمدا من راتبه التقـاعدي ما يعينه على إعالة أسرته.. ولكن ليتسلط على راتـب ابنته ومكافآت بناته الثلاث اللـواتي مـا زلـن في مرحلة الدراسة الجامعية، وبين فترة   وأخرى يشده الحنين إلى السفر.. فلا يتردد كلما عقد رفاقه العزم على ذلك.. يغيب الأسابيع والشهور دون  أن يفكر في الاتصال بأسرته، ليسأل عن أحوالهن أو يطمئنهن على حاله.. تاركا زوجته وبناته الأربع في رعاية سائق آسيوي.

أخذت نفسا من سيجارتها.. رشفت قليلا من الشاي الذي فارقته حرارته.. استعادت تفاصيل حديثها مع زميلتها عندما همست متسائلة:

ـ هذه المرة إن لم يوافق.. ماذا ستفعلين؟

ـ لا أدري والله ماذا أفعل.. أخوك محمود رجل به كل الصفات الحسنة، لكن والدي سيرفضه كالعادة.

وتقدم محمود لخطبتها.. ولم يجد ردا غير الرد الذي كان من نصيب كل من سبقوه.

قالت لها زميلتها:

ـ محمود طلب مني أن تجتمعا معا.. هل توافقين؟

ترددت كثيرا قبل أن تجيب؟

ـ كيف؟ وأين؟

ـ سوف أرتب زمان ومكان هذا اللقاء.. المهم موافقتك!

وكان اللقاء.. شـعرت وهي تلتقي رجـلا غريبا لأول مرة أنها أقدمت على مغامرة خطيرة، واستغربت كيف وافقـت بهـذه السـهولة على هـذا اللقاء! هل لأنهـا تثق بزميلتهـا ثقة مطلقـة؟ أم هي رغبتها الجامحة في الزواج؟ أم هو إصرارها على التمرد, والتخلـص مـن الخـوف الـذي يجـتاحهـا وهـي بحضـرة أبيها؟ أم هي نفسها الأمارة بالسوء؟ أم هو إبليس الـذي ترى أنـه يحرضهـا دومـا عـلى المعصية؟ أم هي الأقدار التي تسيرها وفق هواها؟.. لم تشغل نفسـها بالتفكير طويلا.. بل أقبلت على مغامرتها باندفاع شديد. 

في لقائهما الأول تحدثت معه وكأنها تعرفه منذ زمن طويل، مع أن معرفتها به لم تتعد القليل من المكالمات الهاتفية التي أجرتها بتشجيع من أخته التي تعتبرها أعز زميلاتها، وأقربهن إلى قلبها.. موطن أسـرارها.. مرشـدتها إلى كـثير مـن الأمـور التي كانت تجهلها.

أخـذت عـدة أنفـاس متتالية، ثم وضـعت السيجارة فوق منفضة السجائر.. لا زال صوت مطربتها المفضلـة يمـلأ أرجـاء الغـرفة بعـذوبة قاهرة.. تطلعت إلى محتويات الغـرفة مـن خـلال المـرآة الـتي اسـتقرت في مكانهـا مـنذ سـنوات.. نفـس المنظـر ما زال يتكـرر.. لم تجـد يومـا أي دافـع لتغيير أوضــاع غرفتهـا.. أو استبدال أثاثها، لكنهـا شـعرت فجأة بأنه قد آن الأوان لتغيير أوضاع هذه الغرفة، وقلب محتوياتها رأسا على عقب.

منذ اللقاء الأول عاملها دون تحفظ، وكم كانت صدمتها شديدة عندما مد لها يده بعلبة السجائر وهو يقول:

ـ تفضلي.. أختي أخبرتني أنك تدخنين.. لا بأس أنا أدخن أيضا.. لا بد أن تعرفي أنني إنسان عصري.. وأضيق ذرعا بالتقاليد.

ثارت في نفسها آلاف الأسئلة بعد اللقاء الأول.. عن محمود وما يقوله عن التحرر.. وعدم تحفظه في الحديث معها.. والتعامل معها وكأنهما أصدقاء منذ سنوات.. وأشياء أخرى لم تستوعبها منذ اللحظات الأولى، لكنها كشفت لها فيما بعد عن أمور أخرى.

تكرر خروجها من المنزل بحجة زحمة العمل في المدرسة، والنشاط المدرسي المسائي، واحتفالات بعض زميلاتها ببعض المناسبات العائلية.

استمرت اللقاءات حينا بحضور زميلتها. ومعظم الأحيان بغيابهـا، وفي كل الأحيان لم يكن الشيطان غائبا..كما لم تعد تتحدث مع والدتها أو أخواتها عن موضوع الزواج.

عادت سلوى تفكر في حالتها بعد أن أخذت نفسا عميقا من سيجارتها التي أوشكت على النهاية.. نفثت الدخان في الهواء، فتكونت فوق رأسها سحابة دائرية.. خالتها نيرا سيطبق على عنقها.. ويشدد الخناق عليها حتى تلفظ آخر أنفاسها.. تحسست رقبتها.. شعرت باطمئنان مفاجئ بعد أن تأكدت أن رقبتها لا تزال في مكانها.. أطفأت عقب السيجارة.. رشفت آخر قطرة من فنجان الشاي.. انتهى دخان سيجارتها.. لكنها غرقت في دخان روحها الكثيف.. وانغمست في تصحيح دفاتر تلميذاتها.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات