في الغرفة المظلمة ، اغاص وجهه الشاحب بين راحتين ممزقتين ، يفكر بصوت عال . كان كافيا ليعلم اهل البيت بما يدور في خلده .
" اريد ان اكون دخاناً" . بصوت راجف اعتلت هذه الجملة الغريبة اجواء الغرفة القاتمة .
راح يدندن اغنية باللغة الانكليزية ، وكانه يمارس طقساً خاصاً في ادراك الذات . هذا التمني الذي يريده ، لم يكن خيالاً جامحاً يخرج كفكرة عبثية من حنجرته .
الدخان الذي يراه كل يوم في بيئة سكنه ، هو دخان الحطب الذي يصعد من تحت قدر " الطبخة" البدائية من العدس و الارز . و دخان مكب النفايات الذي يجاور بيوت حارته الفقيرة و المنزوية على هامش المدينة المفزعة . و ليس اخيراً ، دخان السجائر الذي يحول البيت الى جو يشبه جو المزارات المليئة بدخان البخور الجاف، خالياً من كل معنى روحي .
دخان " المالبورو" المسيطر على انفاس كل افراد العائلة ، جعل شغفه في ان يصبح دخاناً ، حقيقة ثابتة ، على الاقل في تفكيره الطفلي . على الرغم ان بنيته الجسدية تفوق الثامنة عشرة ربيعاً.
ما زال يفكر و يخطط كيف سيصبح جسده دخاناً.و كيف ستزول كل تفاصيله المادية ، وتتحول الى ذرات هواء كثيفة .
اخرج قلماً ووضع مجموعة من الاوراق البيضاء امامه ، وراح " يشطب" ويكتب ويمحو ... وبعد دقائق ، انتهى من رسم خطته . اخذ يمعن النظر اليها ، اضاء نور الغرفة الخافت ، وثبت نظره في الورقة التي ملأها اشارات و كلمات ورسوم هندسية مختلفة . لا يفهمها سواه .
اخرج من " جارور" سريره المستطيل الشكل ، علبة " المالبورو" الكرتونية المخبأة . اشعل سيجارة و ترك دخانها ينسبل متراقصاً امامه كالخيال .
ابتسم بعفوية ... لم تدم ابتسامته لثوان ، حتى غرقت عيناه في البكاء و راح يجهش باكياً كطفل خائف . امسك ورقة " مخططه" ومزقها بشراسة .
ثم عاد ليمتص من سيجارته ، نفساً عميقاً .. بلع ذرات الدخان وحاول استنشاقها ، فعجز . فشعر بالغثيان ، ما هي الا لحظات حتى احس ان كيانه يتحلل و يذوب و ان ذراتاً كثيفة من الضباب حاصرته . شعر انه انسيابي ولم يعد يشعر بثقل جسده .احس انه دخاناً .. نعم دخاناً كثيفاً .. راح يتحسس انامله فلم يشعر بها و كانه طيف .
خاف من حالته ، راح يصرخ ، يصرخ عالياً . لم يسمعه احد ، بكى وضحك في آن و قهقه حتى الثمالة . شعر انه دخان صامت ، لا يقو على الحركة . شعر انه انتصر .
نسائم خفيفة ، كانت كافية لتعيده رماداً في فجوة ترابية ... كل ما بقي في تلك اللحظة ، بقايا رماد آدمي، و علبة " مالبورو" محترقة ، وشذرات ورقة ممزقة .
اجتمع اهل الحي الفقير ليجدوا طفلهم المنعزل جثة هامدة و محترقة . و لتعلو صرخة في المكان " انتحر و السبب دخان السجائر ".
التعليقات (0)