الحلقة (3)
يهمنا أن نؤكد في بداية هذه الحلقة أن دارفور ظلت في التخطيط البعيد المدى لمحمد علي باشا جزءا لا يتجزءا من السودان الذي يسعى لإخضاعه وضمه لمصر الولاية العثمانية ذات سلطة الحكم الذاتي ، ففي فبراير 1841م أصدر الباب العالى فى الإستانة (إستانبول) فرماناً بجعل مصر وراثية فى أسرة محمد على , ونص الفرمان على ان تكون مصر جزء من الدولة العثمانية تسرى فيها القوانين والفرمانات والمعاهدات التى تبرمها الدولة العثمانية وأن يجرى كل ما شئ فيها باسم السلطان العثمانى وأن تدفع مصر جزية سنوية يحددها السلطان وأن تشمل سلطة محمد علي : ولايات النوبة ودارفور وسنار وكردفان وجميع توابعها وملحقاتها الخارجية عن حدود مصر ولكن بغير حق الإرث الذي ظل قاصرا فقط على حدود مصر القديمة ، وكان هذا الفرمان قبل قيام الزبير باحتلال الفاشر بـ 33 عاما
تجارة الزبير رحمة في بحر الغزال بلاد جور:
كانت المنتجات التي تتم المتاجرة فيها هي : العاج ، قرن الخرتيت ، ريش النعام ، المطاط أ الحديد ، النحاس ، والمنتجات الأخرى( THE STORY OF AL ZUBIR PASHA - BY H.C. JAKSON -SUDAN CIVIL SERVICE -1913- PAGE 8))
ونمت مكانة الزبير عند أبو عموري بسبب نجاح الزبير في التصدي لغارات الأهالي في 1857م مما أدى لقيام أبو عموري بتحويل الزبير من موظف إلى شريك ، وتجمع التجار حول زريبة أبو عموري طلبا للحماية من الزبير ضد الغارات ، وفي 15 أكتوبر 1858م عاد الزبير للخرطوم ومعه 1000 جنيه نصيبه من أرباح التجارة مع أبو عموري ، واشترى قاربا واستأجر عددا من الرجال ثم عاد إلى بحر الغزال يملأه الطموح للإستقلال بتجارته بعيدا عن ابو عموري ، وكانت خطته الوصول إلى أعماق لم يصلها تاجر قبله ، وهكذا توجه جنوبا حتى وصل مشرع الرق حيث استأجر حمالين من السكان المحليين وتوجه جنوبا حتى وصل بلاد قولو
بلاد جور وقولو التي تنقل فيها الزبير رحمة الجميعابي
وفي بلاد قولو واصل شراء العاج وريش النعام وغيرها من المنتجات القيمة لهذه البلاد ، ومن الضروري هنا أن نلاحظ ورود إسم المطاط ضمن المنتجات ، وهذا يعني أن شجرة المطاط كانت في ذلك الحين موجودة في جنوب السودان ، وهذه المعلومة خطيرة جدا ، وقد أكد رومولو جيسي الذي عمل لاحقا مع غردون في كتابه 7 سنوات في السودان أن المطاط كان موجودا شمالا حتى كركوج ، وخطورة هذه المعلومة أن المطاط كان من المنتجات التي لعبت دورا في تحفيز الحملات الإستعمارية لاحقا في مناطق البحيرات بعد 33 عاما من تاريخ ذهاب الزبير رحمة لجنوب السودان حين تم إختراع الإطارات البلاسيتيكية عام 1891م وإرتفعت أسعار المطاط إرتفاعا كبيرا في السوق العالمية الأمر الذي أدى لأسوأ أنواع الإستعمار والإستعباد في التاريخ وهو استعمار تأسيس دولة الكنغو الحرة التي كانت أكبر زريبة في تاريخ البشرية وقتل فيها ما لا يقل عن 10 ملايين من البشر الأفارقة وتم التمهيد لهذه المستعمرة بالقضاء على خط المقاومة الأقوى وهو الوجود الإسلامي والعربي في شرق الكنغو بقياد تيبو تيب (حمد المرجبي) الشبيه في سيرته بالزبير رحمة من خلال وصمه بتجارة الرقيق لتبرير الغزو والقضاء على الوجود العربي والإسلامي في أدغال البحيرات ، وسنأتي لهذه التفاصيل في حينها.
ومن بلاد قولو توجه الزبير لبلاد نيام نيام ، و بلاد نيام نيام تعتبر في عنصرها البشري إمتدادا لمنطقة حوض نهر الكونغو بالرغم من وقوعها جغرافيا في حوض النيل .
رحلة الزبير من بلاد قولو إلى بلاد نيام نيام
وفي بلد دار السلطان تيكما فوجئ الزبير بغزارة كميات العاج ، وتزوج الزبير رانبو الإبنة الكبرى للسلطان تيكما ووصفها الزبير بأنها كانت فائقة الجمال وجهها كالقمر وشفاهها أحلى من العسل
وفتح هذا الزواج أمام الزبير رحمة مستودعات العاج وسن الخرتيت ببلاد السلطان تيكما على مصراعيها . وفي مارس 1863م إستأذن الزبير من السلطان تيكما للسفر للخرطوم.
في هذه الأثناء في مصر في 17 يناير 1863م توفي الوالي سعيد باشا وتولى الحكم إسماعيل باشا بن إبراهيم بن محمد علي
الخديوي إسماعيل باشا
ولاحقا سيحصل الوالي الجديد على درجة الخديوي بعد بذل الأموال في عاصمة الخلافة وهي درجة أتاحت له إستقلالية أكبر في إدراة شئون الولاية المصرية ، وهي إستقلالية دفعت مصر ثمنها غاليا والسودان كذلك حيث افتتح عهده بالديون والصرف البذخي والتوسع في توظيف الأوروبيين وجعلهم رؤساء وقادة حملاته التوسعية جنوبا.
في نفس العام 1863م في يوليو عاد الزبير من رحلته للخرطوم إلى مقره بعد أن ضاع في بحيرة في بلاد النوير لاقى فيها أهوال الجوع ومات عدد من رفاقه في تلك الرحلة المهولة الشاقة ثم عاد للخرطوم مرة أخرى ووصلها في سبتمبر 1863م وتضاعفت ارباحه وزاد عدد تابعية واشترى كميات كبيرة من السلاح والذخيرة ، وعاد لبلاد نيام نيام في يوليو 1864م وبدأ في تكوين جيشه الخاص في الوقت الذي كان فيه الخديوي إسماعيل في مصر في 1864م يعقد اتفاق قرضه الربوي الأول بفائدة 7% في رحلة إغراق مصر بالديون
كيف قام الزبير بتكوين جيشه في بلاد نيام نيام ؟
وفقا لرواية الزبير فقد استفاد الزبير من قانون العقوبات الصارم لدى القبائل في تلك المناطق في تكوين جيشه ، وروايته كالتالي :
(THE STORY OF AL ZUBIR PASHA - BY H.C. JAKSON -SUDAN CIVIL SERVICE -1913- PAGE 25)
واضطر الزبير لدخول حروب مع زعماء القبائل الذين شعروا بالغيرة والخوف من تناي جيشه وثروته وفقا لرواية الزبير ، ورويدا رويدا أدت حروب الزبير إلى إخضاع القبائل وتحوله من التجارة إلى الملك ( تاريخ السودان – نعوم شقير ص265) وامتدت سلطة الزبير شمالا حتى بحر العرب
خارطة توضح موقع بلاد نيام نيام (الزاندي) وموقع دولة الزبير رحمة الجميعابي.
وبتحول الزبير رحمة إلى صاحب ملك ورجل دولة بدأت حيثيات صدامه بالرزيقات في التشكل ، وهي الصدامات التي ستؤدي لاحقا للصدام مع سلطان دارفور وذلك حين احتاج الزبير لتأمين طرق التجارة الأقصر من دولته للشمال مرورا بشكا في جنوب دارفور حيث كانت السلطة لقبيلة الرزيقات
وفي الحلقة القادمة نستعرض كيف أغرق الخديوي إسماعيل مصر في الديون مما ترتب عليه وضع الشعب تحت وطأة الضرائب الفاحشة وكيف فقدت مصر سيادتها تدريجيا في الوقت الذي كان فيه الخلاف بين الزبير رحمة وزعماء الرزيقات ومن خلفهم سلطان دارفور آخذا في التصاعد
ونواصل إن شاء الله تعالى
كمال حامد
الحلقة السابقة - الحلقة التالية
التعليقات (0)