دارفور.... القبائل والجغرافية والتاريخ
(الحلقة الثانية)
تاريخ سلطنة دارفور الأولى
(1445م – 1875م)
ملخص الحلقة الأولى:
تناولت الحلقة الأولى ملخصا عن جغرافية إقليم دارفور وقبائله ....
...........................
وفي هذه الحلقة والحلقات التالية نتطرق إلى أهم لمحطات في تاريخ سلطنة دارفور (الأولى) التي تم تأسيسها على يد السلطان سليمان بن أحمد سفيان العباسي .... علما بأن هذه السلطنة وبعد زوالها على يد تاجر الرقيق السوداني الشهير الزبير باشا رحمة عام 1875م ؛ نجح أحد أحفاد السلطان محمد الفضل وهو السلطان علي دينار بإعادة تأسيسها عقب سقوط الدولة المهدية لتستمر خلال الفترة ما بين عامي 1898م – 1916م .
سلطنة دارفور (الأولى) التي سادت إقليم دارفور الحالي ما بين عامي 1445م – 1875م تعتبر من المحطات التاريخية السودانية الرئيسية في العصر الحديث لسبب ما أنتجته من ثقافة خاصة بها وإشعاع حضاري ومثل وقيم وتقاليد وقناعات فاضلة تأسست على قاعدة راسخة من الشريعة الإسلامية والثقافة العربية وخصائص أخرى من شجاعة ونكران ذات وفروسية وكرم ونخوة وعدل كانت ولا تزال مضرب الأمثال ، وأصبحت نبراسا في طريق الخلف من بعدهم .... وحيث يجدر الذكر أن سلطنة دارفور قد أعيد إحياؤها مرة أخرى عام 1898م على يد السلطان علي دينار أحد أحفاد سلاطينها السابقين ولكنها لم تعمر طويلا حيث أسقطها الإحتلال البريطاني عام 1916م بعد إنتصارهم وإستشهاد السلطان علي دينار في موقعة "برنجيبة" عام 1916م.
ومن ضمن ما يحكى عن نشأة وتأسيس سلطنة دارفور الأولى أن أحد أمراء العباسيين الشباب وإسمه "أحمد سفيان" وفد إلى جبل مرة جريحا إثر خلاف بينه وبين شقيقه بسبب إمرأة كادت لهما وفرقت بينهما أثناء رحلتهما من بغداد إلى تونس هربا من مطاردة المغول لفلول العباسيين إثر سقوط بغداد في أيديهم عام 1421م.
وقد كان جبل مرة في ذلك الزمان يقطنه عديد من قبائل الفور ولكل قبيلة منهم ملك خاص بهم .... ومن ضمن هؤلاء الملوك كان الملك "شاو دور شيت" وهو الذي تصادف ونزل عنده الأمير العباسي الوسيم "أحمد سفيان".
حتى لحظة وفادة الأمير العباسي "أحمد سفيان" إلى ديار الملك "شاو دور شيت" كان الملوك والشعوب في جبل مَرّة من أصل أفريقي نقي قدموا إلى هذه المنطقة الغنية بالموارد المائية والزراعية وأستوطنوها منذ قديم الزمان . ولا يعرف على وجه التحديد من كان يستوطن هذه المنطقة قبلهم طوال تاريخ البشرية الضارب في القدم.
قرية في جبل مرة وسط المزارع والبساتين
وقبل الخوض أكثر فإنه يجدر الإشارة إلى أن مسمى "جبل مرّة" قد يكون فيه بعض التشويش من ناحية إنطباع البعض عن تضاريس الجبال وأحجارها وقممها وسفوحها وشعابها .... ولكن الواقع أن مسمى "جبل" إنما هو على سبيل التشبيه أكثر منه وصف لتضاريس جغرافية ، لأن جبل مرة هو في حقيقته (منطقة) أكثر منه جبلا ... وهو في معظمه سهول طينية ورملية خصبة التربية تمتد مسافة 300 كيلومتر ومساحته الإجمالية في حدود 12,800 كيلومتر مربع (إثنا عشر ألف وثمانمائة كيلومتر مربع) .... وتتراوح مناخاته ما بين جليدي في أعلى قممه المتعددة (10,000 قدم فوق سطح البحر) وبحر أبيض متوسط ومعتدل. وكذلك تتعدد مساقط المياه العذبة والأنهار الصغيرة التي تجري في ضلوعه وجوانبه ويتدرج إرتفاعه من الأرض بطريقة إنسيابية ماهلة وعلى نحو يجعلك أنت السائح أو الزائر له تتساءل بين كل مسافة وأخرى عند توقفك للزاد والراحة وسط قراه المأهولة بالسكان بقولك : أين جبل مرة ؟ فيضحك الأهالي الطيبين الكرماء من سؤالك هذا ويقولون لك أنت الآن في قلب الجبل.
واحد من مساقط الماء التي تنبع من قلب الجبل
..................
وبالعودة إلى موضوع الأمير العباسي "أحمد سفيان" فإنه حين وفد إلى الجبل وحل ضيفا على الملك "دور شيت" تم إكرام وفادته وأعجب به الملك لما رأى فيه من وسامة وكرم أصل وتوسم في آرائه وحديثه عقل ورزانة وحصافة وثقافة الأمراء وأبناء الملوك عامة ، لاسيما في مجال الإدارة وموهبة تدبير شئون الدولة . وشيئا فشيئا قربه إليه وجعله من خاصته . ثم وثق فيه فعينه مسئولا عن شئون قصره ، فقام بواجبه خير قيام وأسس نظما إدارية ومحاسبية لإدارة القصر وحصر أموال الملك وثروته وإجراءات ضبط الصادر والوارد للمخازن وغير ذلك من أمور الصيانة ونحوها ، فزاد إعجاب الملك دورشيت به . وكان هذا الملك محبوبا لدى رعيته لعدله وحكمته ومسايسته لهم بالرفق واللين ، ولم يكن له من الذرية سوى بنت واحدة فزوجها للأمير "أحمد سفيان" العباسي ورفعه هذا الزواج إلى مرتبة الأمراء في مملكة درو شيت . فعهد إليه الملك من فوره بتنظيم وإدارة كافة شئون المملكة . فقام بذلك على أفضل وجه وعزز من تجارتها وإتصالاتها داخل منطقة جبل مرة وخارجه . فتسامع به كثير من التجار العرب وبعض من تبقى من العباسيين في مصر والحجاز وتونس . فوفدوا إليه في منطقة جبل مرة وأقاموا وتزاوجوا من فتيات ونساء القبيلة ، فكان في ذلك التمازج العرقي والتفاعل الحضاري الأثر الهام في الإضافة وطرح أفكار وقيم ومثل وقناعات تنويرية جديدة أدت إلى نماء إقتصاد مملكة هذه القبيلة وعلو شأنها وقوتها العسكرية تبعا لذلك.
ومما بذكر أن الأمير أحمد سفيان قد رزق من بنت الملك دور شيت بولد واحد أطلق عليه إسم "سليمان" ففرح به جده الملك دور شيت فرحا شديدا ووجد فيه قرة عين وعوضا عن حرمانه من الأولاد الذكور ......
نشأ الأمير سليمان عربيا من خلال علاقته وتأثره بأبيه . فحفظ منه ومن العرب الوافدين القرآن الكريم وأصول اللغة العربية وعلومها وتاريخ أجداده لأبيه . كما تعلم وتأثر وتشرب من خلال إلتصافه بجده الملك وأخواله الفور كل عادات وتقاليد القبيلة والشجاعة والصبر والكرم ومسلك ملوك وأمراء قبائل الفور وخبراتهم القيادية والسياسية.
ثم أن الإرادة إقتضت أن يتوفى الأمير أحمد سفيان خلال فترة حياة والد زوجته الملك دورشيت فإزداد الأمير سليمان إلتصاقا بجده وأخواله . وبات واضحا أنه يجري إعداده لخلافة جده على عرش مملكة قبيلته ، وهو ما تم بعد وفاة جده حيث بايعه الأعيان والأمراء ملكا على القبيلة بإسم الملك "سليمان الأول" ......
وذكر نعوم شقير في مؤلفه "تاريخ السودان" أن الملك سليمان حين تولى الحكم لم يكن في المملكة وممالك جبال مرة الأخرى مسجد واحد ولم يكونوا يؤدون صلاة الجماعة أو الجمعة ... ومن ثم فقد كان من أهم إنجازات الملك سليمان في هذا الجانب العقائدي بناء المساجد وإقامة شعائر صلاة الجماعة والجمعة . واستعان في ذلك بإستجلاب أشهر علماء الدين وأساتذة اللغة العربية من كافة مناطق السودان الشمالية الأخرى وعينهم في مناصب القيادات الدينية ، وأمرهم بتنظيم الأمور الشرعية وإمامة الصلوات وإلقاء خطب الجمعة والدروس والمواعظ الدينية وتدريس اللغة العربية ..... وهو الأمر الذي أسهم كثيرا في تلقيح الثقافة المحلية لقبائل الفور فيما بعد وإثرائها باللغة العربية وإنتشار وتغلغل الإسلام الوسطي وفق الكتاب والسنة النبوية المطهرة بعيدا عن التنطع والإنغلاق.
وبعد أن فرغ السلطان سليمان الأول من ضبط شئون مملكته وتنظيمها على الوجه الأفضل ؛ بدأ في التخطيط لتنفيذ المرحلة التالية من طموحاته وهي إخضاع كافة ممالك ومشايخ قبائل الفور الأخرى في جبل مرة تحت إدارة حكم مركزي واحد يكون هو سلطانا على رأسه.
بدأ السلطان سليمان الأول بالأقربين وهم القبائل المسلمة من الفور القاطنين في جبل مرة . ثم إلتفت بعد ذلك إلى إخضاع وضم القبائل الأخرى من غير الفور المقيمة حول حبل مرة ..... والطريف أنه إستعان في هذه المهمة بالتحالف مع عرب البادية . وكان هؤلاء إلى جانب قدراتهم القتالية وقناعاتهم الجهادية والإستشهادية التي إكتسبوها خلال الفتوحات الإسلامية في الشام وشمال أفريقيا قبل إستقرارهم في السودان قد خبروا المنطقة وتضاريسها وطرقها وبواديها لسبب تحركهم الدائم بغرض رعي ثرواتهم من الإبل والماشية ..... فتم بمساعدة هؤلاء البدو الرعاة الأعراب وعلى وقع سنابك خيولهم العربية الأصيلة التي يجيدون (حتى يومنا هذا) القتال من فوقها وعلى جوانبها ومن خلفها وأسفلها ؛ توسيع رقعة ومساحة مملكة دارفور الوليدة بزعامة سليمان الأول من 12,800 كلم مربع إلى 500,000 كيلومتر مربع أو بما يعادل 40 مرة في بضع سنوات تقاس في حساب التاريخ الإنساني الطويل بفترة زمنية هي أقل من لمح البصر ....
إقليم دارفور الذي يمثل حاليا خمس مساحة السودان ... وتبلغ نسبة العرب فيه 40% من سكانه أو ما يعادل 3 مليون نسمة
وبوجه عام فقد ساهم هذا الحراك القتالي الجهادي وفق التحالف بين الفور وبدو العرب في التداخل العرقي وإمتزاج الدماء بين الطرفين عن طريق التزاوج والمصاهرة على النحو الذي نراه الآن . ولا مندوحة كذلك من الإشارة إلى الميل الفطري لسلاطين الفور ذوي الأصول العربية نحو التحالف مع قبائل يرون أنها تماثلهم في الأصل العربي.
ويوثق المؤرخ نعوم شقير في مؤلفه "تاريخ السودان" الذي وصفه المحقق والمؤرخ السوداني بروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم بأنه الأكثر شفافية من بين ما كتب عن تاريخ السودان ؛ يوثق القبائل التي خضعت لسلطنة الفور خلال عهد مؤسسها السلطان سليمان الأول كالآتي:
"ومن جملة الذين خضعوا للسلطان سليمان الأول وبقوا إلى عهد خراب السلطنة 27 ملكا ؛ سبعة من المجوس والباقون مسلمون من شبه السود .... أما سلاطين المجوس فهم سلاطين كاره / دنقو / فنقرو / بنه / بايه / فوقي / شالا ..... وكل هؤلاء في بلاد فرتيت إلى الجنوب الغربي من دارفور.
وأما ملوك المسلمين فهم : البرقد / التنجر / كبقة / الميمة / المسبعات في الشرق من جبل مرة . المراريت / العورة / سميار / المساليت / القِـمر / تامة / الجبلاويين / أب درق / جوجة / أسمور في الغرب والشمال الغربي/ . زغاوة كبا والميدوب في الشمال والشمال الشرقي / البيقو / الداجو / رنقا في الحنوب والجنوب الغربي.
وأما القبائل العربية الرعوية الذين جمع كلمتهم واستنصر بهم فكان أهمهم : الهبانية / الرزيقات / المسيرية / التعايشة / بني هلبة / المعالية في الجنوب (جنوب دارفور) / الماهرية / المحاميد / بنو حسين في غرب دارفور".
(يتبع حلقات أخرى إنشاء الله)
التعليقات (0)