دارفور.... القبائل والجغرافية والتاريخ
(الحلقة الأولى)
للوهلة الأولى يختلط الأمر على البعض أو تظل الحقائق مشوشة فيما يتعلق بالتواجد البشري وجغرافية وتاريخ إقليم دارفور السوداني .. وهذه محاولة لتسليط بعض الضوء على جغرافية وقبائل المنطقة بالإضافة إلى تاريخها على نحو مبسط القصد منه المعلومة العامة عن مصادر تاريخية موثقة هي كتاب (تاريخ السودان) لمؤلفه "نعوم شقير" . وكتاب (السيف النار) لمؤلفه النمساوي "سلاطين باشا" حاكم دارفور خلال عهد التركية السابقة وخلال الثورة المهدية (1881 -1885).
دارفور هو إسم مركب يعني (ديار قبائل الفور) .ويتكون من كلمتين (دار) بمعنى ديار و (فور) وهو إسم أقدم القبائل المعروفة خلال التاريخ الحديث التي إستوطنت منطقة جبل مرة وما حولها قبل فترة تاريخية سابقة لتاريخ إستيطان القبائل العربية والأفريقية التي نزحت إليه من مناطق أخرى وحيث الأرض لله يورثها لمن يشاء ......
وحين قلت (قبائل) الفور فإنني كنت أعني ما أقول، ولم تأتي الكلمة إعتباطا هكذا أو من فراغ ...... لأن الفور حتى عام 1445م لم يكونوا قبيلة واحدة تحت حكم ملك أو سلطان واحد ، وإنما كانوا قبائل متفرقة بمسميات شتى إلى أن توحدوا في مملكة واحدة على يد السلطان ( سليمان الأول ) ذو الأصل العربي ... وهو ما سنأتي لتفصيله لاحقا.
ولكن ومن ناحية أخرى يجب الحذر عند إستخدام مسمى "دارفور" وذلك من واقع أن قبائل الفور لا تنتشر بكثافة في كل أجزاء هذا الإقليم الشاسع الأرجاء . أو أنها القبيلة الوحيدة أو ذات الأغلبية الطاغية في الإقليم . وإنما يتركز وجودها في منطقة شمال دارفور ووسطها وتحديدا في وحول جبل مرة ..... ويشاركها التمركز في هذه الرقعة الجغرافية الغنية بالموارد المائية والنباتية والشجرية قبائل الزغاوة ..... في حين تشكل قبائل "البقارة" العربية غالبية سكان منطقة جنوب دارفور الوافرة الأمطار والتي تصلح لرعي الماشية ... أو تلك شبه الصحراوية في شرق دارفور التي تصلح لرعي الإبل.
وقد حاولت الحكومة من ضمن حلولها لإيجاد نوع من الإستقرار في الإقليم تقسيمه إداريا إلى ثلاثة أقسام:
1- شمال دارفور.
2- غرب دارفور.
3- جنوب دارفور.
ولكن الطريف أن تناقض المصالح وتوازيها معا هو الذي يحدد طبيعة التحالفات والصراع والمهادنة في الإقليم منذ أكثر من 1000 عام . وذلك أن غالبية قبائل الفور والمجوس والوثنيين يمتهنون الزراعة في حين يمتهن معظم أبناء قبيلة الزغاوة التجارة . وبالتالي لا يوجد تضارب مصالح إقتصادية بين هذه الأطراف بوجه عام ؛ بل على العكس من ذلك فإن بعضهم يكمل نشاطة الإقتصادي حاجة الآخر ......
وتبقى المعضلة في أن العرب من أهل دارفور يمتهن معظمهم الرعي مثل ما كان عليه حالهم في شبه الجزيرة العربية وإلى حين هجرتهم إلى هذا الإقليم خلال عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وكذلك من خلال تواتر الهجرات لاحقا بعد زوال الدولة العباسية ووفود آخرين من تونس (مجموعة أبو زيد الهلالي) و من الأندلس والمغرب....
وخلال سنوات طويلة كان السلام يعم الإقليم لسبب توافر الأمطار وقلة عدد السكان ؛ فكانت الوفرة سببا في سيادة الأمن والسلام والإستقرار كما هي عليه الأحوال في سيرة وطبيعة البشر الأمر الذي شكل تجمع إقتصادي مدني يرفد بعضه بعضا في هذه الرقعة الجغرافية المتعددة المناخات المتسعة الأرجاء.
ولكن بمضي المئات من السنوات وتعرض بعض مناطق الإقليم بين الفترة والأخرى للجفاف نشأ نوع من تضارب المصالح. لاسيما بين المزارعين الأفارقة و الرعاة العرب لسبب تعدي قطعان الماشية وكذلك الإبل على المزارع بين الحين والآخر في فصل الصيف......
وقد كان لسنوات الجفاف بسبب عدم هطول الأمطار بالوفرة المعقولة منذ عام 1983م وحتى تاريخه الأثر البالغ في ندرة المراعي والماء وفي إضطراب موازين التوافقات الإجتماعية السلمية فزاد الاحتكاك بين الرعاة والمزارعين وإرتفعت حالات التوتر ثم الاشتباكات الدموية بين الطرفين..... ونشأت كذلك ظاهرة عصابات السطو المسلح على الشاحنات التجارية والمركبات السفرية والقرى النائية بهدف السرقة وفرض الأتاوات على السكان المدنيين . وحيث ساعد إتساع رقعة الإقليم وتصفية الرئيس الأسبق جعفر نميري لحكم المشايخ والسلاطين أوما كان يطلق عليه الإنجليز مسمى (الإدارة الأهلية) وإحلال ما يسمى بالإدارة المحلية محله ... كل هذا أدى لتفكك النسيج الاجتماعي للقبائل وإستغلال النفوذ والفساد الإداري والمالي واللامبالاة من جانب ضباط الحكومات المحلية ، الذين تفرغوا لسرقة ونهب كل ما يقع تحت أيديهم من أراضي وثورات غابية وميزانيات وأصول حكومية منقولة وثابتة وإعانات بشتى الحيل والمعاذير والسبل والوسائل ؛ فتردت الخدمات وإنهارت كافة السلطات الإدارية من شرطة وأجهزة رقابة ومحاسبة ، ولم يعد هناك من مُسْمِعٍ سوى الكلاشنكوف والإبتزاز والقتل والحرق والتهديد به كسبيل للحصول على الحق والباطل معا . أولضمان إيصال أصوات الشكاوى إلى من في أذنه وقر في إدارة الإقليم والحكومة المركزية بالخرطوم.
وبحسب تقرير لمنظمة الفاو فإن إقليم دارفور الذي يتصل شمالا بالحدود الليبية وجنوبا بجنوب السودان حالياً (دولة السودان الجديد فيما بعد إنشاء الله) ينقسم إلى (6) أقاليم نباتية تعتمد شكل كامل على مياه الأمطار وفرة أو ندرة ..... وهي كالآتي:
1) صحراء قاحلة في أقصى شمال الإقليم.
2) كثبان رملية ونباتات غير معمرة إلى الجنوب من اقصى شماله.
3) إقليم نباتي شبه صحراوي قليل الأمطار.
4) غابات من شجر السنط والهشاب وأعشاب دغلية كثيفة متوسطة الأمطار.
5) مناطق غابية
6) مناطق غابية ذوات أشجار ونباتات متعددة الأنواع.
وعن الديانة فإن الأغلبية الكاسحة مسلمة تتراوح ما بين وسطية ويمينية محافظة يتعايش معهم نسبة ضيئلة من أتباع المجوسية.
ومن ثم فإن التوصيف الأمثل لسكان دارفور يمكن إدراجه ضمن ثلاث مجموعات عرقية ودينية هي:
1) المجوس والوثنيين:
وهم قلة يصل عدد قبائلهم إلى 10 قبائل متنوعة . ومعظم هؤلاء يسكنون ما يسمى ببلاد الفرتيت الكائنة جنوب غرب دارفور...... ومن ضمن هؤلاء من دخل طوعا في الإسلام ومنهم من إستغلت البعثات التبشيرية والصليبية أوضاعه المعيشية والأمنية خلال الأزمات المتعددة فدخل في المسيحية .....
2) المسلمين الأفارقة :
وهم قبائل متعددة يصل عددها إلي أكثر من عشرين . وهؤلاء يسكنون في الوسط وجبل مرة وحوله . وأشهرهم قبائل الفور في جبل مرة و التنجر في شرق جبل مرة و المساليت في الغرب والشمال الغربي والزغاوة في الشمال والشمال الشرقي ثم الداجو في الجنوب والجنوب الغربي.
3) العـــرب :
وهم بالطبع قبائل مسلمة بنسبة 100% يتركز معظمهم في ولاية جنوب دارفور وأشهرهم الهبانية والرزيقات والمسيرية وبنو هلبة والتعايشة والمعالية .... ثم هناك آخرين في شرق دارفور هم الحُمر . وينتشر الزيادية في الشمال في حين يقيم المحاميد وقبائل عربية أخرى في الغرب من الإقليم .... قدم أجدادهم من شبه الجزيرة العربية وتونس والمغرب والأندلس.
ولكن على الرغم من ذلك فإن التداخل السكاني بين قبائل إقليم دارفور الذين يبلغ تعدادهم (7.5 مليون نسمة) حسب الإحصاء المعلن عام 2009م ؛ يتميز هذا التداخل السكاني بعدم العنصرية أو الاستقرارفي منطقة واحدة مغلقة ... ويميل إلى الإختلاط بين كافة قبائله في المدن الصغيرة والكبرى داخل الإقليم وأقاليم الشمال الأخرى ..وكذلك بالتزاوج والمصاهرة فيما بينهم وعلى نحو أدى إلى تقارب التوجهات والمزاج العام والثقافة بين أفراده .كما أدى إلى تحولات دراماتيكية مثيرة بسبب التزاوج المركّب بين افراد قبائله ، وعدم وجود نزعات عنصرية صارمة سائدة مثلما هو الحال بين قبائل الشمال وقبائل جنوب السودان مثلا .
ومن أبرز نتائج التزاوج والتمازج في دارفور لوحظ على سبيل المثال تحول قبيلة المساليت إلى قبيلة مسلمة ؛ وإتخاذ بعض الفور والزغاوة اللغة العربية كلغة تخاطب وثقافة بمحض إرادتهم . وتغلب السحنة والملامح الأفريقية على بعض قبائل البقارة العربية الأصل .. وهكذا بشكل أو بآخر ؛ وبنسب متفاوتة لدى القبائل الأخرى الكثيرة التي يعج بها الإقليم المتعدد الأعراق والثقافات .... وكدليل على مواهب وقدرات الإنفتاح الفطري لدى قبائل إقليم دارفور يرصد التاريخ أن قبائل الفور بعد عام 1445م تتميز بأن العائلة الحاكمة المؤسسة لمملكتها الكبرى كانت عربية الأصل من جهة الأب في حين تنتمي لقبائل الفور من جهة الأم ... كذلك يلاحظ أن معظم أسماء أبناء قبيلة الفور والزغاوة على حد سواء عربية الأصل .. وهناك في حركات التمرد المسلحة الحالية مزيج بشكل أو بآخر بين الفور والزغاوة والعرب والوثنيين داخل كل حركة .....
ومن جهة أخرى ؛ وبنحو عام ؛ ولكي يكون أمر العروبة في أقاليم دارفور واضحا جليا ؛ فإن نسبة العرب من بين سكانه تبلغ (40%) ..... أو بما معناه أنها نسبة لا يستهان بها ولا يمكن بأية حال من الأحوال إغفالها . لاسيما وأن قبائل الفور والزغاوة لن يرضيها تمزيق الإقليم بينهم وبين العرب ، وذلك في حالة إصغاء العموم لنداءات بعض الحمقى أصحاب الأجندة الإسرائيلية بفرض إستفتاء لتقرير المصير.
ومن ثم فإن الذي يجوز التعاضد عليه والتوجه نحوه بالنسبة لدى الجميع من أبناء الشمال هو نبذ فكرة الإنفصال والإتفاق الضمني على أن محور الخلاف القابل للمداولة بين كافة الأطراف إنما هو التهميش وعدم الإهتمام بالأمن وبالتنمية في الإقليم . وأن الذي يجمع أكثر من ذاك الذي يفرق مقارنة بما هو الحال في جنوب السودان الذي لا يشهد تمازجا عرقيا أو وحدة دينية وثقافية وتماثل في القيم والعادات والتقاليد والقناعات والمزاج العام بينه وبين الشمال.
(يتبع إنشاء الله عن تاريخ مملكة الفور)
التعليقات (0)