قال لي أبي : إنّ محمد صالح الشنقيطي رئيس الجمعية التشريعية في السودان عام 1954م زارَ السعودية ضمن وفد سوداني رسمي في الستّينات وذلك خلال مناسبة سياسيّة معقودة في الرياض،وبعد انتهاء أيام الاجتماعات الرسميّة وصلَ الوفد للمدينة المنورة كعادة جميع مسئولي الدول العربية والإسلامية لمّا يزورون المملكة ..
واستغلّ السيد محمد صالح الفرصة تلك ليلتقي بمجموعة منتخبة فاضلة من "الشناقطة" بالمدينة المنورة الذين أصبحوا سعوديّين ويحملون جنسية هذا البلد المبارك مثلَ غيرهم من أهل الحجاز الذين تنحدر أصولهم من كافة أصقاع الدنيا شرقها وغربها وشمالها وجنوبها ..
احتفَلَ "الشناقطة" بضيفهم الكبير الذي ينتمي إليهم نسباً وقرابةً وينتمي للسودان جنسيةً ومواطنة وسياسةً وأكرموه غاية الإكرام وبجّلوه واحترموه ورأوا فيه فخراً لهم أنّ واحداً من بني جنسهم وصَلَ لهذه المكانة العالية في بلدٍ ليست هي بلد آبائه وأجداده ولكنّه مِنْ صدق مواطنتِه وولائه وعلمه انتُخِبَ فيهم نقيباً ..
ودارَ حواراً بين الضيف وجُلسائِه الذين راحوا يسردونَ له ما ينعَمُ به "الشناقطة" من راحةٍ وخير كثير في المدينة ومكة في ظل حكمٍ سعودي وارفِ الظلال،وسألَهم الضيفُ عن أحوال شبابهم حيثُ كانَ الذين يتولَونَ الحديث معه والإجابة على استفساراته شيوخاً وأكابر عُمرٍ حينَها ..
قالوا لهُ مُنتَشينَ فرَحاً : بحمد الله تعالى ليسَ فينا سارقٌ ولا شاربُ خمرٍ ولا قاطع طريقٌ ولا غاصبُ حقّ أحدٍ ولا صاحبُ مشكلة مع الحكومة،ولا دخلَ لنا في السياسة ولا الأمور الغريبة،وجميعُنا من بيتِه لعمله ومن مسجده لسوقِه،والأبناءُ يقرءون القرآن ويبتعدون عن رفقاءَ من غير جنسهم سوى بالسلام الذي هو واجبٌ ديني ..
ظنّ الجالسونَ بأنّهم قد أهدوا للضيف معلوماتٍ تُثْلِجُ الصدر وتريحُ الخاطر ولم يتوقّعوا بأنّ كل جملةٍ يقولونها يزدادُ وجهُ الضيفِ حزناً وألماً بسب ما يسمع،ولكنّهم أيضاً لم يتخيّلوا بأنّ كلامَهم هو السبب وقالوا لأنفسهم لعلّهُ حُزنُ الفرح أو تعبُ الطريقُ أو شوقُ الغياب ..
لمّا انتهوا قالَ السيد محمد صالح الشنقيطي للجميع "لا زلتم إذَن غُرباء" ولا تعتقدوا أنكم بما تقولون أدخلتُم السرور على قلبي وإنما أثبتم لي بأن كل من في هذا البلد من "الشناقطة" لا يزالُ غريباً ولا يصلُحُ لأن يكونَ مسئولاً في هذا الوطن ولستم بمواطنينَ رغم حَمْلكم لجنسيّة هذه البلاد ..
والعيبُ فيكم وليسَ في الدولة ولا المشتركينَ معكم في السكنى والمصير،وطالما لا يوجدُ منكم أحدٌ في السجن ولم يراجع شابّ منكم محكمة وهو مطلوب في قضية زوراً أو صدقاً فالوضعُ يُشعرُ بالاستفهام والاستقصاء،حيثُ إنّ الشبابَ مظنّةُ التهوّر والإتيان بالغريب والمحاولات والتنافس في كلّ العالم،وحينَ يتأكدُ الشاب بأن لا أحدَ سيقفُ معه في أية مشكلة لن يفكر في تقدّم ولا عراكٍ مدني مؤسّساتي ..
ولا تفرحوا بهذا الموت والغياب فليس مدحاً ولا ميزة،إذ لو كنتم مواطنين حقّاً لتسابق شبابكم لدخول مضمار الخدمة المدنية والعسكرية ولبذلَ كل منهم وسعه في سبيل أن يبرُزَ ويظهرَ ويخدم،ومن المعلوم بأنّ تلك الصراعات تولّدُ مشكلات،وحينَ لا تكونُ مشكلاتٌ فلا صراعات ولا حراكاً ولا تقدّماً بل هي الغربة الإقصاء ..
انتهى كلامُ الضيفُ وانصرفَ راشداً وانصرفُ مُضيّفوه حيارى مستغربين ولم يقدّروا عُمقَ تفكيره ولا بُعدَ تحليله لمظاهر وجدَ فيها مواتاً واستكانة لرغد العيش دونَ التطلّع لخدمة وطنٍ آوى ونَصَرَ وأعْطَى وحَضَن ..
إنّ السيد محمد صالح الشنقيطي يا بُني ضرَبَ بحصوله على مقعدٍ في أول برلمان سوداني مثالاً واضحاً على أن الانتماء ليس لذكريات الأجداد والآباء فقط ولكنّ الانتماء الحقيقي يكونُ لبلدٍ تجذّرَتْ فيه عروقُ القلب وتأصّلَتْ فيه نباتاتُ الإقامة وبه العيشُ والاستقرار،فعمِلَ هو بهذا حتى سُمّيَ باسمه شارعٌ في أم درمان لا يزالُ إلى اليوم يُدعى شارعَ الشنقيطي ..
فاعلم يا بُني : بأنّ من يعيشُ في مكانٍ لا بدّ أن يُعطي لذلك المكان ما يستحقّه من الواجبات والأمانات والتضحيات،وليست المواطنة برفع الشعارات ولا كتابة القصائد الخالية من الأفعال ولا بالبكاء على الأطلال،إنما المواطنة شعور بأنّ للكيان الكبير والمجتمع العظيم استحقاقٌ أن تُخرجَ ما في نفسك من خبرة وتعليم ومهارات في مجالاتٍ تُحسنها لغيرِكَ حتى تعودَ الفائدة لك ولذريتك من بعدك ..
التعليقات (0)