خير سلف و ؟؟؟... خلف.
يمثل الماضي ارثا حضاريا في كل المجتمعات، ولا يستقيم للحاضر أي معنى بدون ذلك الارث الذي يعبر عن الذاكرة الجماعية، ويدون الطفرات التي عرفها التاريخ الانساني في كل الجماعات البشرية السابقة. وبذلك فالمغزى الأول لتسجيل الأحداث الماضية هو استخلاص الدروس والعبر، و الاستفادة من التجارب السابقة بسلبياتها وايجابياتها من أجل التطور والرقي. غير أن الأمر في العالم الاسلامي يكاد يكون حالة شاذة بين سائر أمم الدنيا. ومفهوم " السلف الصالح " في هذا المقام " ماركة اسلامية مسجلة ".
ان نعت السابقين بصفة " الصالحين "، يؤشر الى حقيقة لا يمكن انكارها هي أن الأولين كانوا أفضل حالا من اللاحقين. وهذا يعني أيضا أن صفة الصلاح مثلت نوعا من " الكمال "(بمعناه النسبي وليس المطلق) الذي لا يمكن أن يتوفر لأحد غير أولئك السابقين الذين عاشوا مرحلة البعثة الاسلامية وبداية التوسع الاسلامي، أو ما يسمى في الأدبيات التاريخية والفقهية ب "صدر الاسلام ". أما ما تلا تلك الحقبة من تاريخ المسلمين فليست سوى محاولات لاستلهام ماجاء في الآثار عن أعمال السلف الصالح، لكن دون أن يكون ذلك صلاحا بمعناه الحرفي الذي ظل وقفا وحكرا على مجموعة من المسلمين المميزين باسم " الصحابة ". وهذا يظهر بجلاء في التراتبية التي يرددها المسلمون في أدعيتهم التعبدية، حيث يدعو الانسان ربه أن يحشره مع السابقين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم باحسان...فالتابعون اذن ليسوا في مستوى كمال معلميهم... مما يجعل السيرورة التاريخية في المجتمع الاسلامي تتلخص في استنساخ تجارب السابقين. وفي كل مرة تبدو النسخة الجديدة باهتة عن التي قبلها. و اذا كانت نتائج هذه القاعدة مقبولة على المستوى السلوكي والأخلاقي في اطار الاستفادة من محاسن المتقدمين في العبادات والمعاملات كأمثلة يقتدى بها، فان اسقاطاتها الاجتماعية تضفي المشروعية على تأخر الأمة وتراجعها حقبة بعد أخرى لأن سقف الطموحات محدود، مادام الكمال المنشود قد سبق اليه الأولون، ولم يبق للخلف غير تقليد خطوات السلف.
وعندما بدأ المسلمون يناقشون واقعهم بالمقارنة مع الشعوب الأخرى، طرحوا السؤال بصيغة: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟. وكان بديهيا جدا أن تكون الاجابة الأكثر تداولا بين عامة الناس تقول: ان التخلي عن منهج السلف الصالح كان سببا في هذا التخلف. وتحليل هذه الاجابة يظهر بجلاء أن الأفق الذي تنشده أمة الاسلام يوجد في الماضي وليس في المستقبل. وأصبح استدعاء هذا الماضي بمثابة بلسم لمداواة جراح الحاضر. وهكذا نحصل على كل الأجوبة الممكنة بناء على هذه المرجعية في مواقف السلف الصالح. مما يحول دون اجتهاد حقيقي( رغم أن الاجتهاد مصدر أساسي في التشريع الاسلامي). وتقابل كل دعوة الى قراءة جديدة للنص الديني بما يتناسب مع روح العصر برفض شديد من طرف الذين ينصبون أنفسهم حراسا للشريعة، وذلك تحت ذريعة أن الاسلام " صالح لكل زمان ومكان " والاسلام المقصود هنا طبعا هو منهج السلف الصالح. لذلك مازالت القراءة الدينية لكل مايجري في العالم من أحداث ووقائع تستقي أفكارها من ينابيع العصر الوسيط... والحال أن منطق التاريخ يسير في اتجاه تطوري. اذ لا نجد في الحضارة الغربية التي قطعت أشواطا بعيدة في الرقي والتقدم والازدهار أية مرجعية ماضوية، فمنذ أن أحكم العقل الغربي قبضته على سر النجاح وشروط التطور المعرفي انطلق قدما الى الأمام، وباتت كل لحظة تضيف تراكمات جديدة في سلم الرقي الانساني. فالانسان الغربي يستشرف المستقبل انطلاقا من الحاضر وليس عبر التقهقر الى الماضي.
ان نجاح تجربة الأولين في مرحلة تاريخية معينة لا يعني بالضرورة نجاحها في عصرنا اليوم، لذلك فالالتفات الى ذلك الماضي من شأنه أن يضيع مزيدا من الوقت والفرص، ويبقي على نفس الوضع المتردي، وبالعلم والفكر النقدي وحدهما يمكن تجاوز مسألة التخلف. ولا خير في أمة كان سلفها أفضل حالا من خلفها.
محمد مغوتي.21/03/2010.
التعليقات (0)