خيرات البحـريـن
مصعب المشرف
القرار المفاجيء الذي إتخذته حكومة الولاية الشمالية دون سابق إنذار بإلغاء الترخيص الإستثماري الممنوح لمملكة البحرين . وسحب الأرض (100 ألف فدان) التي خصصت لمشاريع خيرات البحرين الإستثمارية . جاء هذا القرار عجولاً غير مدروس . وواضح أنه تم تحت ضغوط تتعرض لها الولاية الشمالية خاصة من جانب بعض القلة النادرة من النشطاء في وسائط المعلوماتية الذين لا تعرف توجهاتهم ومقاصدهم الحقيقية . وبعض الصحفيين الذين يعانون من فوبيا أراضي الفشقة وحلايب وشلاتين السودانية المحتلة وفائض مياه النيل المُهدرة . فأصبحوا يثيرون الشكوك والعداء للإستثمارات في الأراضي السودانية أينما جاءت وحيثما حلّت.
ولكن الوضع الإستراتيجي لأرض مشروع خيرات البحرين يختلف إختلافاً جذريا بالمقارنة مع أراضي الفشقة وحلايب وشلاتين وغيرها.
البحرين لم تحتل قواتها أراضي سودانية وأعلنت ضمها إليها ؛ كما فعلت أثيوبيا في الفشقة ومصر في حلايب وشلاتين.
والبحرين ليست جارة ملاصقة للسودان . ولا تعاني من إنفجار سكاني حتى نقارنها بمصر وأثيوبيا. ونخشى من تمددها الجغرافي داخل حدودنا بمثل ما نخشى من تمدد بعض دول الجوار وأطماعهم الإستيطانية داخل أراضينا. وتدخلهم في شئوننا عبر القبائل الحدودية المشتركة صاحبة البالين والثنائية الإنتماء والولاءات.
هذا فضلاً عن أن البحرين تعتبر من دول الرفاهية العربية والعالمية . وصاحبة يــد عليا ويتمتع شعبها بالنعيم المقيم . ولم يجرب الناس ولم يوثق التاريخ أطماع لها في أراضي وثروات الغير .
وعليه . فإنه وفي هذا الجانب الأمني الإستراتيجي لا داعي هنا إلى إستنساخ الفوبيات من مخاطر الإستثمارات الأثيوبية والمصرية وإنزلاقاتها الإستيطانية التي تؤرق الشعب السوداني لخشية من تآكل أرضه ونزع ثرواته مستقبلاً بسببها.
الملفت أنه وبعد 30 عام من إزالة نظام عمر البشير وتمكين حزبه الشمولي الذي إتخذ من الدين ستاراً بدعم من عواصم الأصولية العالمية . فإن أكثر ما برز من ذيول هذا النظام البائد هو تلك الظاهرة الملفتة من الإستعجال التي إنتابت عامة الشعب . وعلى نحو جعلهم يطالبون حكومة حمدوك بإصلاح دمار 30 عام من حكم الكيزان في 3 شهور لا غير.
وهكذا لازم الإستعجال والطبخ على نار حامية كل قرار ، خوفاً من إنقلاب الأوضاع . والعودة مرّة أخرى إلى متلازمة خراب سوبا على يد العسكر ودمار حروب المليشيات.
الإستثمار في الجانب الزراعي يتطلب صبر أيوبً وأموال سليمان عليهما السلام . ويتطلب نفساً طويلا ورؤوس أموال متدفقة تنفق الكثير في مجال البنية الأساسية من تهيئة الأرض والتخطيط الزراعي . وإستدعاء بيوت خبرة في مجال دراسة التربة وهندسة قنوات الري ، وقياس متوسط سرعة الرياح وإتجاهاتها ، وشق وتعبيد الطرق . وتوفير الطاقة الكهربائية والوقود والمعدات والآلات ، وإجراء التجارب الحقلية في مجال إنبات المحاصيل .. إلخ.
وجميع تلك العمليات تحتاج إلى توفير تمويل مستقر على مدى سنوات قادمة .
ولعلنا نستدعي هنا فشل العديد من المشاريع الزراعية المموّلة من المغتربين ورؤوس أموال الداخل . والذي كان سوء دراسة الجدوى وإنقطاع التمويل في منتصف الطريق هو أهم أسباب هذا الفشل.
وحتما لا يدرك البعض لدينا الكثير عن قدرات البحرين المالية . وخبراتها الطويلة النادرة في إدارة الإستثمارات وجذب الأموال . ولكن على هؤلاء إدراك هذه الحقيقة إن كانوا لا يعلمون.
وحبذا لو بادر وفد برئاسة والي الشمالية إلى زيارة مملكة البحرين والجلوس إلى رجال أعمالها وبيوتاتها التجارية حتى تتضح لديهم الصورة . ويطلعوا كذلك على مدى ما تتمتع به مملكة البحرين من نظام إقتصادي حديث وتجاري مكتمل الأركان وبضمانات عالية الشفافية.
ومملكة البحرين في الأساس ليست بحاجة ماسة إلى الإستيراد من السودان. فأسواقها حافلة بالمنتجات من كافة بلدان العالم ، وبأسعار ربما تكون أرخص مما لو أستثمرت واستوردت بها من السودان . ولكن يبقى إستثمارها وشراكتها مع الولاية الشمالية جزءاً من التطلعات العربية في تحقيق الطموحات بالسوق العربية المشتركة وضمانة للأمن الغذائي الإستراتيجي الذي تتوافق على الأخذ به الشعوب العربية جميعها. وترجمة لتعهدات ووعود السودان بلعب دور بارز في تحقيق هذا الأمن الغذائي ؛ لما يتوفر لديه من أراضي شاسعة ومياه وخبرات زراعية متراكمة منذ الأزل.
ومما لاشك فيه أن مشروع خيرات البحرين سيكون واسطة للتعامل والإحتكاك وتبادل الخبرات. ومدخلاً وإمتداداً ومنفعة عظيمة للسودان من حيث إكتساب الخبرات التجارية والمالية والعلاقات الواسعة البحرينية المشهود لهم بها على مستوى الخليج العربي وآسيا والبلدان الأوروبية الغربية.
وعن خبرات رجال أعمال وتجار البحرين وإتصالاتهم والسمعة التجارية الممتازة ، والنزاهة التي يتمتعون بها في منطقة الخليج ودول العالم الأخرى حدّث ولا حرج .
وجميع تلك المميزات يردفها نظام مصرفي قوي غاية في الديناميكية والشفافية ، والكفاءة والوفرة المالية.
وربما لو كان المسئولون في حكومة الولاية الشمالية يدركون عن مملكة البحريني ما ينبغي إدراكه ومعرفته من معلومات ؛ لحرصوا وتمكسوا بمشروع خيرات البحرين في أراضي الولاية وعضُّوا عليه بالنواجذ.
والإيجابيات والفرض الواعدة التي ستعود للولاية الشمالية من مشروع خيرات البحرين لن تتوقف عند حدود مكاسب وعائدات إستثمارية فحسب .
دخول خيرات البحرين كرديف وشريك مستثمر في الولاية الشمالية سيغني سلطات وتجار ومزارعي وأصحاب الثروات الحيوانية في هذه الولاية عن نصب وتعب البحث عن أسواق تصدير خارجية لمنتجاتهم وثرواتهم. وتوفر عليهم مشاق السفر إلى الخرطوم للبحث عن شركاء للتمويل والتصدير . ولن تمضي سنوات حتى تصبح عاصمة الولاية الشمالية قُطب رحَى ومركزا من مراكز الترويج والتواصل التجاري والمالي المباشر مع الأسواق الخارجية الثرية ذات المقدرة الشرائية العالية وبالعملات الحُـرّة.
وبوجه عام ينبغي على كل حادب على النهوض بإقتصاد ولايته في السودان الإيمان اليقين والعمل الثابت لإستقطاب خبرات وشراكات تتمتع بسمعة عالمية لفتح أسواق التصدير أمام منتجاتها الزراعية والغابية والحيوانية .. إلخ فالمسألة ليست فقط قدرة على الإنتاج وتوافر ثروات وموارد طبيعية هي في الواقع بئر معطلة وقصر مشيد ، ولكن تسويق هذا الإنتاج وفتح أبواب التصدير أمامه هو مربط الفرس ولب المشكلة والعقبة الكأداء التي يعاني منها السودان الآن.
وفي حالة الإستعانة بعملاق تجاري ومالي شقيق مثل مملكة البحرين ودول أخرى تتمتع بقنوات إتصال وثقة إقليمية وعالمية . وقادرة على تقديم ضمانات للغير سيتغير الحال وبما يدفع لإزدهار إقتصادي يحلم به كل سوداني عاشق لتراب أرضه وشعبه.
والمتوقع إذن عند إنطلاق مشروع خيرات البحرين وبداية تصدير منتجاته من القمح وزهرة عباد الشمس والذرة الشامية والأعلاف أن تنفتح وتتعدد وسائل الإتصال وخطوط المواصلات البرية والبحرية والجوية ووتبرتها جيئة وذهاباً ما بين البحرين والولاية الشمالية والخليج العربي...
هذا الإتفتاح في مجال الإتصال والمواصلات وإزدياد وتيرته لابد أن يصطحب معه منتجات سودانية أخرى أهمها الخراف والأبقار والدواجن والخضروات والفاكهة.
على سبيل المثال فإن البحرين تستورد حالياً لحوم حية ومذبوحة من أثيوبيا وكينيا والصومال وأستراليا بالدولار وليس المقايضة.
وعليه بإمكان السودان المنافسة مع هذه الدول في الأسواق البحرينية عبر مشروع خيرات البحرين. التي ستفتح خطوطاً ملاحية وبرية وجوية للنقل التجاري ما بين السودان ومملكة البحرين
هذه الصادرات وزيادة من محاصيل ومنتجات أخرى ستتحرك جنباً إلى جنب مع منتجات خيرات البحرين نحو الموانيء من منطقة الدبّة في الولاية الشمالية . وستجلب إليها أيضاً منتجات شبيهة من مناطق وولايات السودان المختلفة في كردفان ودارفور ونهر النيل .. وبذلك تصبح الولاية الشمالية "سـوقاً" ومركز تجمع لكل أهل السودان وتجارتهم شبيه بسوق مدينة الأبَيِّض وسوق أُمْ رُوّابَة على اقل تقدير. ويرفع مستوى معيشة إنسان المنطقة.
وغني عن القول أن إتساع أسواق الولاية الشمالية أو حتى سوق الدَبّـة وحده وتحوله إلى سوق عالمي للتصدير ؛ سيؤدي إلى إنعاش المدينة ، وتشغيل الكثير من العمالة المساعدة من مشرفين وعمال مهرة وغير مهرة وسائقي شاحنات وحافلات . وسيعود إلى الولاية كثير من شبابها الذي هاجر منها إلى ولايات السودان الأخرى بحثاً عن الرزق.
الفرص التي سيتيحها مشروع خيرات البحرين لا تعد ولا تحصى . وتظل البحرين بما ذكرت وما لم أذكر من إيجابيات وشفافية هي المثال الأوفى للإستثمارت العربية في السودان.
إهتمام البحرين بتنمية المجتمع المجاور لمشروع خيرات لا جدال فيه . فمملكة البحرين ومنذ سنوات طوال ؛ كانت ولا تزال تحرز المرتبة الأولى في مجال "التنمية البشرية" على مستوى العالم . وهي بلا منازع الماسة الزرقاء على تاج الخليج العربي ، وواحة وارفة وجنة من جنات السماوات الموعودة في الأرض.
إن على البعض ممن لم يختبروا الحياة في الهجرة والإغتراب . الوعي والإدراك بأن التعامل مع الأشقاء يتطلب أن تسبقه شعرة معاوية والمحبة والصبر ، والثقة والجنوح إلى التعاون . وقد كان العرب في شبه الجزيرة والخليج سباقون إلى ترجمة هذه المعاني والمفاهيم العربية الأصيلة . وحيث دائما ما تسبقهم عواطفهم في التعامل مع أبناء السودان الذين يقيمون بينهم للعمل.
وعلى الرغم من البعد الجغرافي بينها والسودان إلا أن حكومتها وشعبها يعاملون المغترب السوداني لديهم بأكثر مما يمكن وصفه من الرقي والحضارة والعاطفة في التعامل والتواصل الحميم وحسن الضيافة.
ومملكة البحرين مهد لحضارات إنسانية موغلة في التاريخ على رأسها حضارة دلمون . وهي عاصمة من عواصم الثقافة والفنون العربية . وإلى البحرين ينتمي شاعر المعلقات طرفة بن العبد الملقب بـ (صنّاجة العرب) والتي يقول مطلعها:
لخولة أطلالٌ بِبُرقةَ ثهْمَدِ
تلوحُ كباقي الوشم في ظاهِر اليدِ
ولربما لا يعلم البعض في السودان أن مملكة البحرين قد سبق ومنحت السودان أرضاً شاسعة مجاناً لإقامة مقر السفارة السودانية ومسكن السفير فيها. وأن وزير خارجيتها كان من أوائل كبار الزوار الذين شاركوا بالحضور الشخصي في إحتفال توقيع الوثيقة الدستورية بعد ثورة ديسمبر المجيدة .
التحلي بالصبر وعدم الإستعجال ينبغي أن يكون سيد الموقف يا حكومة الولاية الشمالية.
ولا ننسى أن جائحة الكورونا قد تسببت في تجميد وتأجيل الكثير من المشاريع طويلة الأمد . واليوم أعلنت كوريا الجنوبية رابع اقوى إقتصاديات العالم رفع الفائدة ، وأرجعت ذلك إلى تأثيرات وذيول الكورونا.
وعليه فإنه وفي ظل ظروف إقتصادية كهذه ينبغي أن تكون الولاية الشمالية أحرص في الحفاظ على علاقاتها ووعودها الإستثمارية مع مملكة البحرين.
التعليقات (0)