مواضيع اليوم

خمس وثلاثون عاما على استشهاد غسان كنفاني

إدريس الهبري

2009-02-24 13:02:53

0

سيرة
كان غسّان كنفاني مثقفاً عضوياً حسب التحديد الغرامشي. روائي وقاص وصحافي ومسرحي وتشكيلي، ومناضل سخّر حياته لقضيته. ولد في عكا في فلسطين عام 1936. وإثر نكبة 1948 غادر إلى جنوب لبنان فدمشق حيث حاز الإعدادية والتحق بسلك التعليم في وكالة الغوث. هاجر إلى الكويت حيث عمل مدرّساً للرياضة والفنون الجميلة وكتب أولى قصصه القصيرة «القميص المسروق» التي نال عليها جائزة محلية في وقت ظهرت عليه بوادر مرض السكري. في عام 1960 انتقل إلى بيروت ليعمل في مجلة «الحرية». تزوّج عام 1961 ورزق بفايز وليلى.ترجمت أعماله إلى 17 لغة، وأبرزها في الرواية: «رجال في الشمس» (1963)، «ما تبقى لكم» (1966)، «أم سعد» (1969)، «عائد إلى حيفا» (1970). وفي القصّة والمسرح: «موت سرير رقم 12» (1961)، «أرض البرتقال الحزين» (1963)، «عن الرجال والبنادق» (1968)، «عالم ليس لنا» (1970) «القبّعة والنبي» (1973). وترك العديد من المقالات السياسية والنقدية «الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال» (1968)، «في الأدب الصهيوني» (1967)... اغتاله الموساد في 8 تموز (يوليو) 1972 بتفجير سيارته في منطقة الحازمية.
تعالوا إذن نرنو بعشق القراء المهووسين بنصوص أدبية روائية أضحت من روائع الأدب العالمي في مجال القصة والرواية...تعالوا نطل على غسان بعيون عاشقة...


-1-
غسان كنفاني: لماذا لم ندقَّ (حتى الآن) جدران الخزّان؟
٣٥ عاماً على استشهاد صاحب «رجال في الشمس»
بيار أبي صعب

غادر عكا طفلاً مع النكبة، وعاش بين دمشق والكويت وبيروت حيث اسشتهد قبل اندلاع الحرب الأهليّة. خلال عمره المقتضب، حارب على جبهات كثيرة، وترك إنتاجاً غزيراً، وأسس للرواية الفلسطينية الحديثة. من هو حقاً هذا الأديب والفنان والصحافي والمناضل الفلسطيني الشهير الذي قتلته إسرائيل في وضحالنهار، قبل... ٣٥ عاماً؟
صيف بيروت لم يتغيّر منذ ذلك الوقت. حرارة تموز نفسها. وفي مواجهة التلّة الصغيرة في الحازميّة، يمتد البحر كسولاً كعادته. كانت بيروت مسرح روايات الـ SAS البوليسية، ودرّة الشرق، عاصمة الحداثة والبيكيني والميني جوب والجيرك وعمر خورشيد و«ملاهي» الزيتونة، وجواسيس السان جورج. مختبر الأفكار، وموئل الخوارج. «نعيم» الازدهار الاقتصادي، وبؤرة الغليان السياسي ومعارك الحريّة.غسان كنفاني جاءها أول الستينات. الصحافي اللامع الذي شغل الناس بتعليقات «أبو العزّ»، وانتهر ذات يوم عبد الكريم قاسم، أول أيام ثورة الـ ٥٨ في العراق... أقنعه جورج حبش بالانتقال إلى بيروت، فاعتمر الكوفيّة والعقال، ودخل أرض «العسل والبخور» بجواز سفر عماني يحمل اسم هاشم فايز. هنا شهد تكريس مشروعه الأدبي، وانخرط في العمل الصحافي والسياسي... حصل على الجنسيّة اللبنانية، وأسس عائلته مع آني الصبية الدنماركيّة التي قصدت ذات يوم بيروت للتعرف عن كثب إلى القضيّة الفلسطينية، فتزوّجت من تلك القضية. بيروت أواخر الستينات حالة خاصة. كان في الوقت متسع للحلم والحب، والتجريب والنضال. من تلك السنوات بقي لنا الرسائل النارية التي تبادلها غسان كنفاني مع غادة السمّان، حورية الأوساط الثقافية آنذاك. رئيس القسم الثقافي في مجلّة «الحريّة»، صار رئيس تحرير جريدة «المحرر». ذات يوم من العام ١٩٦٧، قرأ مسرحيّة «العصفور الأحدب»، فهلل احتفالاً بالنص: «كلمات الماغوط مسلّحة بالمخالب (...) قادرة على تحقيق إيقاع عذب ومفاجئ». وفي «عين الحلوة» اكتشف فناناً فذاً ينشر رسومه على جدران المخيّم. فدعاه إلى العمل معه. وصار الشاب الموهوب ناجي العلي، أحد أشهر فناني الكاريكاتور العرب في النصف الثاني من القرن العشرين.صيف بيروت صباح الثامن من يوليو ١٩٧٢، يشبه صيفها هذا الصباح. لكن كل شيء تغيّر. الثورات والحروب والهزائم مرت من هنا، والموت نفسه ما زال يحوم في الجوار. صعد كنفاني إلى سيارته، قربه جلست لميس ابنة أخته فايزة رفيقة السنوات الصعبة. أدار المحرّك، فانفجرت السيارة بهما. عدنان الأخ الأكبر سجّل في كتابه «غسان كنفاني: صفحات كانت مطوية»: «إنها الابتسامة نفسها التي تعوّد أن يرسمها في مناسبات مهمة ومفصلية، رأيتها واضحة على أطراف شفتيه وعينيه المسدلتين على صورة حلم ساخر». لقد قتل «الموساد» غسان كنفاني. دولة تقتل كاتباً. اليوم يبدو السيناريو عادياً للأسف. بعد أيام من الجريمة وجهت آني كنفاني رسالة مفتوحة إلى رئيس الوزراء صائب سلام: «هاملت ابن بلادي، كان يردد: ثمة رائحة عطنة في مملكة الدنمارك. أما أنا فأخشى أن تكون الرائحة العطنة انتقلت إلى هنا...».هجّر كنفاني طفلاً يوم من مدينته عكا الخائفة «من هدير البحر». عايش النكبة وما تلاها. ولم يبق له سوى أن يشهد. كل أدبه من مسرح وقصّة ورواية، ومقالات ودراسات، وكل فنّه أيضاً، حلقات في مشروع واحد: محاولة لسرد الكارثة، ودعوة إلى التمرّد. اليوم، قد تبدو الكلمات باهتة، مستهلكة، لشد ما عبث بها الزمن. لكنها لم تكن كذلك يوم كتب غسان كنفاني، «رجال في الشمس» (1963) التي «طبعت بطابعها الأدب الفلسطيني ما قبل الرصاصة الأولى»، بتعبير الشاعر أحمد دحبور. ثلاثة فلسطينين عند شط العرب، يحاولون التسلل إلى الكويت. عجوز وشاب وطفل، سيموتون في خزان الصهريج الفارغ... سيقتلهم القيظ عند نقطة المرور. فيرمي أبو خيزران جثثهم بعد أن ينظفها من الفلوس. ويتساءل: «لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟»! «دق جدران الخزان» صار مصطلحاً شائعاً. إنه دعوة إلى الصراخ، وإلى قلب الأمور. بعدها كتب كنفاني «ما تبقّى لكم» (١٩٦٦) التي تبشّر بـ«العمل الفدائي»!في كل كتاباته وإبداعاته، من مجموعة «أرض البرتقال الحزين» (١٩٦٣) إلى رواية «أم سعد» (١٩٦٩)، وظف كنفاني تجربته المعيشة، مشاهدات ذلك الولد «المتأمل الهادئ»، كما وصفه أبوه المحامي الذي كان من ثوار الساعة الأولى. تلميذ الفرير في يافا ذاق التشرد والأيام الصعبة. باع أكياس الورق في أسواق الشام، عمل «عرضحالجياً» يحرر الاستدعاءات على آلة كاتبة مستأجرة عند أبواب المحكمة في دمشق... صحّح البروفات في أقبية المطابع... قبل أن يعلّم الرسم في مدارس اللاجئين في دمشق ملتحقاً بجامعتها لدراسة الأدب العربي. في ٦ آذار (مارس) ١٩٥٥ كتب والده في مذكراته: «تأكدت اليوم أن غسان منتسب إلى حركة القوميين العرب، ويعمل في جريدة «الرأي» الناطقة باسمهم». كان من رموز «الجبهة الشعبية»، وفي الوقت نفسه صمم العديد من ملصقاتها التي يعتبرها الدارسون محطة أساسية في التاريخ «الغرافيكي» العربي. هل ننسى أن كنفاني فنان تشكيلي أيضاً؟ لقد ترك مجموعة زيتيات تعود إلى مرحلته الكويتية (١٩٥٦ـــــ ١٩٦٠)، قبل أن ينصرف نهائياً إلى الكتابة والصحافة والسياسة... ولعل كنفاني أول من عرّف الجمهور العربي الواسع بشعراء مثل محمود درويش توفيق زياد وسميح القاسم، في دراسته «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة».«عائد إلى حيفا» (١٩٧٠) آخر الروايات التي صدرت في حياته، تعود إلى تلك اللحظة الحاسمة في وعي جيله. يروي كنفاني قصة لاجئ الذي يعود إلى حيفا برفقة زوجته، بعد سقوط الضفة والقطاع، بحثاً عن ابنهما الرضيع الذي تركته أمّه لحظة الهروب في الـ 48... لكن الولد كبر في «بلاد أخرى»، وصار جندياً اسرائيلياً! يلتقي نص كنفاني بالإسرائيلي، كما يلاحظ الناقد فيصل درّاج، يعطيه شكلاً وملامح لغة. يحرره من الأسطورة والصورة الغيبية. لكن الكتاب يخفي أيضاً حنيناً سرياً إلى غسان الطفل الذي بقي هناك في بيت جدّه، قرب المستشفى الوطني في عكّا.رحل الشاهد النموذجي، والحلم في أوجه. مات ذات يوم صيفيّ في بيروت، في عزّ الفورة الثقافية والأدبية والسياسية للمدينة. كان «رائداً» حتى في طريقة اغتياله. بعد استشهاد غسان كنفاني صار بوسع الحرب اللبنانية أن تبدأ، فاتحة مذابح جديدة... نذيرة النكبات والانهيارات اللاحقة.
مسيرة غسان كنفاني في الصحافة، تكاد توازي حضوره الإبداعي وتفوقه غزارة. لفت الأنظار في الكويت بتعليق كان يوقّعه «أبو العز»، وكان نشر مقالاته الأولى في «الرأي» في دمشق. كتب في الأدب والنقد، لكن مقالاته السياسية هي التي أثارت الاهتمام الأكبر. وفي 1960، في بيروت بدأ مسؤولاً للقسم الثقافي في مجلة «الحرية» القريبة من «حركة القوميين العرب». ترأس تحرير جريدة «المحرر»، وأشرف على الملحق الأسبوعي الذي كانت تصدره باسم «فلسطين». ترأس تحرير «الأنوار» بعد النكسة، وحتى عام 1969 تاريخ اشتراكه في تأسيس مجلة «الهدف» لسان حال «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وكان صاحبها ورئيس تحريرها حتى اغتياله.

-2-
«عائد إلى حيفا» على المسرح الإسرائيلي؟
حيفا ـــ فراس الخطيب

كان فلسطينيو الداخل أوّل من عرض أعمالاً مسرحيّة لكنفاني. في عام 1977، أعدَّ رياض مصاروة الذي يُعتبر من أول مُمسرحي روايات كنفاني، عرض «رجال في الشمس» على خشبة مسرح «الصداقة» في الناصرة. إلا أنّ الرقابة منعت المسرحية بعد العرض الثالث. وعلى رغم مرور 30 عاماً على هذه الحادثة، لا يزال مصاروة يتساءل ما إذا كانت الرقابة الإسرائيلية «خافت حينها من وعي متجدّد يتميز بالنقد الذاتي»، مشيراً إلى أنّ «كنفاني تحلّى بالجرأة أكثر من غيره في تلك الحقبة التاريخيّة الحرجة. وما زلنا نحتاج إلى هذه الجرأة بالذات في هذا الزمن الفلسطيني الرديء».شكّلت «رجال في الشمس» قفزةً جديدةً في المسرح الفلسطيني السياسي الملتزم، ما فرض وجود غسان كنفاني وروايته في الوسط اليهودي، عندما أخرج فؤاد عوض المسرحية نفسها كتمرين في «جامعة تل أبيب» عام 1980. كما أخرجها منير بكري في كلية «سمينار هكيبوتسيم» ثم في «جامعة حيفا» عام 2001.استمر المسرح الفلسطيني في اكتشاف عالم غسّان كنفاني. وفي الناصرة، أعدّ رياض مصاروة الرواية غير المكتملة «الأعمى والأطرش» وفيها انتقد غسان كنفاني الفلسطيني الذي يتعلّق بالوهم والغيبيات. واللافت أنّ الرواية نفسها أُعدّت وأُخرجت في الوقت عينه في الناصرة ورام الله عام 1986. وفي بداية التسعينيات، أخرج سامح حجازي مسرحية «الشيء» على خشبة «المسرح الوطني الفلسطيني» في القدس، كما أخرج كامل الباشا «القنديل الصغير» في المسرح نفسه. وفي أواخر التسعينيات، أعدَّ عادل أبو ريا، مدير مسرح الجوال في مدينة سخنين في الداخل مسرحية «عائد إلى حيفا» وأخرجها أديب جهشان. يقول أبو ريا: «فلسطينيو 48 يحبّون غسان كنفاني، يشعرون بأنه قريب. وقضية «عائد إلى حيفا» هي قضية عن الجميع أثيرت بلغة المسرح»، مشدداً على أنّ المسرح «سيعيد قريباً «عائد إلى حيفا»».واليوم، تسري أحاديث بأنّ مسرح «الكاميري» الذي يعدّ أحد أكبر المسارح الإسرائيلية ينوي إنتاج «عائد إلى حيفا» بتوقيع الإسرائيلي سيناي بيتير. وأشار مصاروة إلى أنّ كنفاني «استوعب التحولات التاريخية، وأن سلوك شخصياته لا يمكن أن يُفهم إلا ضمن هذه التحولات، فهي لا تدور في فراغ تاريخي، بل هي جزء من تاريخ أو بالأحرى هي التاريخ نفسه».

-3-
الأيقونة أم الأسير العاشق؟
خليل صويلح

ستظل صرخة أبي الخيزران في خاتمة رواية «رجال في الشمس» «لماذا لم تدقوا الخزّان» مجازاً عنيفاً، اختزل فيه غسان كنفاني التراجيديا الفلسطينية. فالصهريج الذي كان يعبر الصحراء لم يكن إلا مقبرة الفلسطيني وخاتمته المأساوية. وسيعيد توفيق صالح في فيلمه «المخدوعون» المأخوذ عن الرواية عينها، المشهد نفسه بألق بصري أخّاذ. ولتكتمل المأساة بأصولها الشكسبيرية، ستحضر أيضاً صورة حرس الحدود الكويتي وهم يعابثون أبا الخيزران قبل أن يختموا أوراقه لعبور الحدود، مطالبين إياه بأن يروي لهم حكايته مع الراقصة كوكب، فيما كانت جثث الفلسطينيين تختنق داخل الخزّان المغلق. لا دليل للفلسطيني في رمال الحدود يوصله إلى ملاذ آمن. هذا ما أشار إليه كنفاني باكراً ليذهب إلى شؤون أخرى، ويتحوّل إلى خبر أول في إذاعة «بي بي سي».اليوم، نفتّش عن صورة غسان كنفاني الأخرى. صورة الفتى الذي لجأ إلى دمشق وعمل كاتب عرائض أمام باب قصر العدل ثم صورة معلّم الرسم في مدرسة وكالة الغوث والمُهاجر إلى الكويت في ترحال غجري ليعود إلى دمشق مثقلاً بمرض السكري وأبر الأنسولين. وهناك صورته في «ملهى الكروان» الدمشقي، واكتشافه حياة الليل في عبثية مطلقة تليق بـ«فوكنر الفلسطيني».هل كان ضرورياً أن يكون كنفاني أيقونة فلسطينية؟ وإلا ما تفسير تكرار صورة المناضل؟ لنقل إنّها واحدة من مراياه المتعدّدة والمتشظية. لكن لماذا نحجب صورة الكائن الهش والعاشق والحكواتي؟ هكذا سأحاول أن أنبش وهج رسائله إلى غادة السمان، لا بوصفها فضيحةً معلنةً، كما أرادها حملة السيوف، بل من باب أنّ هذه الرسائل نصوص عشق متوحّشة. فالمناضل الجيد عاشق جيد بالضرورة. كنفاني كما تكشف عنه سطوره في الرسائل يكتب نصاً متوهّجاً من دون أقنعة. ولعله في مثل هذه الاعترافات تكمن خصوصية كنفاني، فهي إضافة أصيلة إلى نصه الآخر، النص الثوري والمقاوم. لماذا إذاً يحتجّ الآخرون حين تضيق العبارة إلى حدود الألم والشهوة وشهقات الانتظار «يكبر غيابك في صدري بصورة تستعصي على العلاج. ويخفق قلبي كلّما دقّ جرس الهاتف في هذه الغرفة العالية». الرسائل نصوص نادرة كم نحتاج إليها في مكتبة فقيرة، بعيداً من نصاعة الزيف الأدبي الذي تغرق به رفوف المكتبة العربية والفلسطينية، بعدما ضاقت بالصراخ والديناميت الفاسد. هكذا سينتبه، في زمن آخر، شاعر مثل محمود درويش إلى أمثولة غسان كنفاني في أهمية النص الشخصي، فيكتب «جدارية» و«سرير الغريبة» و«كزهر اللوز أو أبعد». لقد آن الأوان ليكتب الفلسطيني نصّه المؤجل أو كما يقول محمود درويش نفسه «ليس الفلسطيني مهنة أو شعاراً، إنه كائن بشري يحب الحياة وينخطف بزهر اللوز». لنستعيد إذاً صورة غسان كنفاني المنخطف بزهر اللوز لا الأيقونة وحسب!

-4-
كنفاني، جبرا، حبيبي: قراءة من داخل الخزّان
نجوان درويش

تبرز مكانة غسان كنفاني في كونه السارد الفلسطيني لمرحلة التهجير واللجوء، وتشكُّل سؤال المقاومة الفلسطينية الذي تجاوز خطاب التفجع والبكاء وانتظار الإغاثة. فكنفاني هو أيضاً كاتب تجربته الشخصية التي تماهت مع التجربة الجمعية إلى درجة يصعب فصل الواحدة عن الأخرى. وهو يشكّل حالةً استثنائيةً في اقترابه المباشر من حرارة التجربة وكتابتها، من دون أن تحترق أجنحة الفنّ في كتابته. ولهذا بقي النموذج الكنفاني ـــ على بساطته ــــ خارج متناول المقلّدين، يصعب تكراره من دون السقوط في الخطابة.الروائي والقاصّ الذي سجّل التجربة الفلسطينية بحرارة، وعن كثب، بين 1948 و1972، بقيت رواياته العلامة الأبرز في إنتاجه. عمرٌ «أنفقه» بين الكتابة والعمل السياسي، تمّ قصفه مبكراً قبل أن يبلغ الذروة الأدبيّة. إذ يصعب تخيّل ما كان سينجزه لو بقي حياً حتى اليوم مثلاً، وبلغ الحادية والسبعين، أي السنّ التي أتيحت لروائيين فلسطينيين كجبرا إبراهيم جبرا (1920ـــــ1994) وإميل حبيبي (1921ـــــ1996) ممن شاركوه في تقديم السردية الفلسطينية المعاصرة. شاركه جبرا في سردية التهجير والمنفى (منفى المثقف والمقترن بالحظ في حالة جبرا)، بينما اختصّ حبيبي أكثر بسردية البقاء في الوطن المحتل: تلك السردية الساخرة المريرة كما تجلّت في «المتشائل». ويمكننا اليوم أن ننظر إلى علاقة التناص، أو بمقاربة أبسط التحاور، بين عنوان أشهر روايات كنفاني «عائد إلى حيفا»، والعبارة التي طلب حبيبي أن تنقش على شاهدة قبره: «باق في حيفا». كأننا بـ«المتشائل» يرد هنا على زميله، ويذكّر معاصريه بأنه، خلافاً للآخرين، بقي في فلسطين التاريخيّة التي تغيّرت هويتها، وعاش التجربة السياسية الصاخبة، والملتبسة التي نعرف. وإذا نظرنا جيداً، يمكننا أن نلاحظ منطقة مشتركة بين كاتبين اعتدنا أن نراهما عالمين منفصلين: كنفاني صاحب سؤال المقاومة الذي كتب خلال مرحلة الصعود القومي وتشكُّل سؤال المقاومة، وحبيبي مؤرّخ الهزيمة والعزلة القومية والبقاء في الوطن المحتل... هما وجهان للحكاية نفسها. وحين تناول كنفاني مسألة التباس الهوية من خلال شخصية الطفل الذي نسيه أهله عند النزوح من فلسطين عام 1948، فربّته عائلة إسرائيلية وأصبح ـــ من دون أن يعي هويته ـــ جندياً في جيش الاحتلال يحسب نفسه إسرائيلياً! وهي رؤية ربما لم يستسغها كثيراً الرأي العام الفلسطيني والعربي من كنفاني يومها، لكنّها اليوم باتت رؤية لها نصيب من الواقع. ولو تساءلنا عن تأثيرات كنفاني اليوم على كتّاب السرد الفلسطينيين، وخصوصاً الداخل الفلسطيني، لوجدناها أقل بكثير من تأثيرات إميل حبيبي. إذ تبدو تأثيرات هذا الأخير واضحة في الجيل الجديد عبر تلك اللغة الساخرة والقدرة على التعري، وعدم إنكار الهزيمة، بل الجرأة في إعلانها واستمداد القوة من ذلك. فوعي الهزيمة هنا هو شرط تجاوزها، وقوة المهزوم تكمن في صدقه مع نفسه، ودفاعه عن ذاكرته.وفي حين أنّ كتابة حبيبي أكثر تأثيراً من أعمال كنفاني في الجيل الجديد من الروائيين الفلسطينيين، إلا أنّ تأثير كنفاني كرمز يتجاوز بكثير تأثير حبيبي، ليس فقط بسبب منزلته الأيقونية كشهيد وفارس كلمة، بل لأنّ كنفاني هو شخصية مضاءة بفترة الصعود القومي وسؤال المقاومة. وعليه، فهو ملهمٌ في شخصيته ومواقفه وتقدّميته ونقديته وحداثة رؤيته إلى العالم، وفي القيم التي جسّدتها شخصيته. بينما كانت شخصية إميل حبيبي «ضحية» لفترة الهزيمة، ولكونه ينتمي إلى قسم من الشعب الفلسطيني وجد نفسه أقلّية في أرضه، معزولاً عن بقية شعبه وأمته العربية، فُرض عليه أن «يكون» إسرائيلياً بين ليلة وضحاها، وبالتالي تجرّع الهزيمة مزدوجةً، فتجلّت مقاومته لها تراجيديا يومية سجّلها حبيبي في أعماله الأدبيّة. أضف إلى ذلك أنّ مواقف حبيبي السياسية لم تنل القبول والإعجاب الذي حازته أعماله الأدبية، إذ عانى سوء فهم، وفُسرت بعض مواقفه عكس ما كان يشتهي أو يضمر.أخيراً، يبرز دائماً سؤال القيمة الأدبية وتغيّر السياق أو تحوّلاته على قراءة غسان كنفاني، فلسطينياً على الأخص. إذ يُفترض دوماً أنّ السياق تغيّر، وأنّ أدب كنفاني هو أدب سياق. وهي كلها افتراضات لا تبدو دقيقة بشكل كاف لطرحها بهذه الطريقة. (رغم الإقرار بأن «الالتزام» الأدبي بمفهومه الخمسيني والستيني يعاني جملة مركّبات ليست في صالح الكتابة كفنّ). وفي حالة كنفاني يتصاعد هذا النقاش، لكون قراءة كنفاني عانت دوماً من الأدلجة والتنميط. وفي فلسطين، كانت قراءته جزءاً من مقرّرات الجبهة الشعبية على منتسبيها. كما أنّ كنفاني كان أحد أهم منظري «أدب المقاومة» و«شعر المقاومة». ولعله كان أحد نحاتي هذا المصطلح ومروّجيه عربياً. هذا المصطلح الذي تحوّل قالباً لاحقاً، وصار ضرورياً كسره لتحرير الكتابة وإعطاء فعالية أكبر لفكرة المقاومة،.واليوم، لم تنته مرحلة اللجوء بعد، بل إنّ تراجيديتها تأخذ أبعاداً سريالية حين «يلجأ» مثلاً لاجئو مخيم «نهر البارد» في الشمال اللبناني إلى مخيم لبناني آخر، وتعلو المطالب بحقّ «عودتهم» إلى مخيّمهم! الحالة الفلسطينية التي صوّرها كنفاني عقب النكبة ماثلة اليوم وتكاد تتطابق مشاهد من رواياته مع صور الفلسطينيين بعد 60 عاماً على اللجوء الأول... تمر كشريط سريع في مناطق مختلفة من الجغرافيا العربية خصوصاً. في كل مطار، نتذكر «رجال في الشمس»، وعند كل نقطة حدود عربية، هناك شاحنة وخزان وسائق فقد رجولته اسمه «أبو الخيزران» لا ينفك يتغنى بفحولته؛ بينما نحن في «الخزان» (أي «ما تبقى لنا» من فلسطين)، نقرأ غسان ونفكر بالكاتب الشاب الذي توقف عن الكتابة في الـ 36... نتخيّل يده تطير لحظة التفجير. يده التي وجدوها تلبس الساعة المتوقفة عند الساعة 11، على سطح إحدى بنايات بيروت!

-5-
زيارة إلى آني كنفاني
بيسان طي
تذكَّّر يافا... ومات

«الزمن شيء مبهم وغريب» تشعر آني أنّ استشهاد زوجها غسان كنفاني وقع بالأمس، فيما تشعر أحياناً بثقل السنوات التي مرّت: «35 سنة إنه زمن طويل».تذكر آني جيداً ذلك الصباح، يوم السبت 8-7-1972 اجتمع غسان وزوجته وأولاده، وشقيقته فايزة وأولادها، وأم سعد (بطلة قصة «أم سعد»)، عند شرفة منزله في مار تقلا، وكانوا يتناولون وجبة الفطور. دار حديث طويل بين غسان وفايزة، استعادا خلاله سنوات طفولتهما في يافا. هذا آخر ما تحدث به، وكانت لميس ابنة اخته على عجلة من أمرها، تريد أن تذهب إلى بيروت، فخرجا معاً، وبعد دقائق دوى صوت الانفجار المزلزل. تقول آني: «الكل في المنزل أدرك الفاجعة. ركضت أم سعد أولاً ولحقنا بها». مات غسان وكان يشعر بأنّه مهدد: «أعتقد أن الإسرائيليين سيحاولون خطفه، لم يكن يتوقع اغتياله. لذلك اصطحب لميس معه. وقبل وفاته بيوم واحد، أخذ أولاده وأولاد فايزة في نزهة إلى البحر».آني لم تغادر لبنان. الزوجة التي كانت صبية شابت. تركت منزلها في مار تقلا وتعيش حالياً في محلة فردان. على الجدران صور غسان تُشعر الزائر بأن الناظر إليه شاب دائماً، وأنه على قيد الحياة. تقول آني إنّ ثمة أشخاصاً لا نشعر أنهم ماتوا: «عندما يكون هذا الشخص قريباً منّا، وعندما يكون مهماً، إنه هنا من خلال كتبه ومن خلال الناس». وتضيف: «نشعر بوجود لميس من خلال أطفال مؤسسة غسان كنفاني».رغم مرور السنوات ومئات الدراسات والأفلام والمسرحيات التي وضعت عنه، لا يزال الكلام عن غسان كنفاني يحتمل البحث عن جديد، «فغسان ترك 18 كتاباً، وكان علامة متميزة في الأدب العربي، وقد كان صحافياً مميزاً».هذا الذي يبتسم في بعض أشهر صوره، لم يكن يصطنع ضحكته. الكاتب الموهوب والمناضل السياسي العنيد كان يتمتع بروح النكتة، لذلك لم تكن له عداوات شخصية حتى بين مَن كانوا يخالفونه الرأي... أو يناصبونه عداءً سياسياً. «في جنازته مشى المثقفون وعامة الناس، جاؤوا من مختلف التيارات السياسية». أخصامه الذين أنكروا عليه حقّه في الدفاع عن قضيته، «لم ينكروا أبداً موهبته الأدبية». وتتذكّر آني: «كان يحب بشكل خاص كتابات دوستويفسكي وغوركي وهمنغواي». وكان مكتبه في مجلة «الهدف» ملتقى لصحافيين عالميين.استعادة كتاباته وقناعاته السياسية أمر أكثر من ضروري في الوقت الحالي:«كان يؤكد أنّ حلّ القضية الفلسطينية يكون عربياً أو لا يكون. كان قومياً عربياً يعشق جمال عبد الناصر. أدرك أنه لن يعود إلى فلسطين، لكنه كان يشعر بأن «أطفالنا سيعودون إليها». كان يردد هذه الجملة رغم وعيه بأن «المعركة من أجل القضية الفلسطينية قاسية جداً جداً، بل أنها ستكون وحشية».إذا سألت آني «عن الرغبة في الثأر»، تجيب من دون طول تفكير: «قد يكون الثأر على طريقتي، أي الرغبة في التحدي وإكمال ما أراده غسان. لذلك أنشأنا مؤسسة غسان كنفاني الثقافية التي تُعنى بالأطفال، فهو كان يؤمن كثيراً بالصغار».هذه المؤسسة تحيي ذكرى كنفاني كل عام، تقام معارض وأنشطة ثقافية في المخيمات الفلسطينية. لكن الأوضاع الأمنية المتردية في لبنان لن تسمح بإقامة احتفالات ضخمة هذا العام. وتبحث المؤسسة حالياً في برنامج مميز تقيمه العام المقبل في الذكرى 36 لاستشهاد غسان كنفاني الذي توفي عن 36 سنة، هو المولود في عكا عام 1936، والثورة الفلسطينية في أوجها.

-6-
كتيبة من المؤلفين (والفدائيين) في كاتب واحد
حسين بن حمزة
قيل في الـ«هورس شو» إنني ساقط في الخيبة

لم يعش سوى 36 سنة. لكننا إذا نظرنا إلى كتاباته الروائية والقصصية والمسرحية والنقدية، إضافة إلى عمله كباحث وسياسي ومؤرخ وصحافي ورسام، نحسب أننا أمام كتيبة من المؤلفين، وليس كاتباً فرداً. إن غسان كنفاني يترك لنا صورة كاتب واظب على الكتابة طوال حياته التي كان يستشعر ربّما أنها ستكون قصيرة. لا بد أن هذا الرجل تخلّى عن النوم والعطلات والسفر واللهو، ووهب حياته كلها للكتابة وحدها... وإلا كيف يمكن تصديق عدد كتبه، وعدد الأسماء المستعارة التي كتب بها. لا بد أن صاحب «عائد إلى حيفا» وجد وصفة سرية لمضاعفة سنوات عمره من دون أن يتغير عددها، ليتمكن من إنجاز كل هذه الأعمال. بغير «معجزة» كهذه يصعب ردّ حضوره الكثيف والشاسع في الأدب الفلسطيني والعربي إلى شخص واحد عانى ــــ فوق ذلك ــــ من هشاشة الجسد ومرض السكري وداء النقرس ووباء التدخين.في دمشق حيث كان محرراً في «الرأي»، أسّس مع بلال الحسن وفضل النقيب وكمال الخالدي وأحمد خليفة «جمعية الأدب والحياة» التي كانت تشهد نقاشات أدبية وفكرية وسياسية. وفي الكويت كتب أولى قصصه القصيرة «القميص المسروق». واعتباراً من عام 1960، انطلقت تغريبته البيروتية...كانت حياة كنفاني، ككاتب وصحافي، تتحالف مع تراجيدية عمره القصير. إنه أمر أشبه بالمعجزة أن يتولى شخص واحد كل هذه الوظائف، وأن يتمكن من كتابة سبع روايات وخمس مجموعات قصصية وأربع دراسات نقدية وعدة مسرحيات، وأن يسوّد آلاف المقالات والأعمدة والافتتاحيات، وأن يكون في لحظة قتله منكباً على ثلاث روايات معاً. بل إنه، إضافة إلى كل هذا، كتب رواية «من قتل ليلى الحايك» وهي رواية بوليسية غير مكتملة نُشرت على حلقات في إحدى المجلات الفنية. ويُقال إنه كتبها بسبب حاجته إلى بعض المال.كان غسان كنفاني يقول: «ربما الاسم الواحد، كالعمر الواحد، لا يكفي لإخراج كل ما يموج في داخل الإنسان». ألهذا ابتكر الرجل كل تلك الأسماء ليُرضي وحش الكتابة الذي يقيم في أعماقه؟ ألهذا اخترع كتيبة من المؤلفين ليساعدوه على إنجاز أحلامه وطموحاته؟... ولعلّها من سخريات القدر أن تصفه قاتلته غولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل، بـ«الكتيبة» أيضاً. ففي ردّها على سؤال لأحد الصحافيين الغربيين، قالت: «كان أخطر علينا من كتيبة من الفدائيين».أما آخر أفراد الكتيبة التي كانت تعمل داخل غسان كنفاني فهو غسان كنفاني نفسه، لكن في صورة «العاشق» هذه المرة. وهي الصورة المغايرة التي قدمته بها غادة السمان حين نشرت رسائله إليها عام 1992.غسان الذي رحل ككاتب... عاد كعاشق في ذكراه العشرين، ليثير سجالاً من نوع آخر حول شخصيته النضالية وصورته الرمزية ككاتب فلسطيني! لا داعي هنا لاستعادة ذلك الكم من الكتابات البائسة التي رأت في قيام غادة السمّان بنشر رسائله إليها، تشويهاً لصورته كرمز ومناضل. بالنسبة إلى هؤلاء بدا أمراً ممجوجاً وغير أخلاقي أن يتزوج المناضل بغير القضية، فكيف إذا أحب على القضية وعلى زوجته الفعلية؟ لقد أبان صاحب «رجال في الشمس»، وبصرف النظر عن ظروف علاقته بغادة السمان، عن الإنسان الحقيقي والهش الذي في داخله، وكشف أنّ المناضل ليس ماكينة جامدة لإنتاج الأفكار والمواقف، بل هو إنسان قبل كل شيء.تحت الضوء الخافت لعشق أتلف صاحب «ما تبقى لكم»، يمكن أن نستعيد سطوراً فاتنة لم يكترث فيها غسان العاشق بما سيقوله الناس لو قرأوها. لم يهمه سوى أن يكون صادقاً حين كتب لها: «يقولون هذه الأيام في بيروت، وربما في أماكن أخرى، أن علاقتنا هي علاقة من طرف واحد، وأنني ساقط في الخيبة. قيل في الـ«هورس شو» إنني سأتعب ذات يوم من لعق حذائك البعيد. يُقال إنك لا تكترثين بي، وإنك حاولت أن تتخلصي مني... لكنني كنت ملحاحاً كالعلق. يشفقون عليّ أمامي ويسخرون مني ورائي...». ثم كتب في رسالة أخرى: «تستطيعين أن تدرجي اسمي في قائمة التافهين، وتدوسي عليه وأنت تصعدين إلى ما تريدين.. ولكنني أقبل.. إنني أقبل حتى هذه النهاية التعيسة».رغم أعماله وكتاباته الكثيرة، يبدو أن غسان كنفاني وجد وقتاً ليحب أيضاً. تصوروا!
عن موقع
الأخبار
- موقع غسان كنفاني
- موقع آخر خاص بغسان كنفاني



التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !