خلق آدم وذريته عليه السلام في القرآن الكريم
في سورة الحج، قال الله تعالى: "ياأيُّها النَّاسُ إن كنتم في ريبٍ منَ البعثِ فإنَّا خَلقْناكم من تُرابٍ ثمَّ من نُطفةٍ ثمَّ من عَلَقةٍ ثمَّ من مُضغةٍ مُخَلَّقةٍ وغيرِ مُخلَّقةٍ لِنُبيِّن لكم ونُقِرُّ في الأرحام ما نشاءُ إلى أجلٍ مسمَّى ثمَّ نُخْرِجُكُم طِفلاً ثمَّ لِتَبلغوا أشُدَّكم ومنكم من يُتَوفَّى ومنكم مَن يُرَدُّ إلى أَرْذلِ العُمُرِ لكيلا يَعْلَمَ من بعد عِلْمٍ شيئاً وترى الأَرضَ هَامدةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزَّت ورَبَت وأنبتت من كلِّ زوجٍ بهيج (5)".
وفي سورة المؤمنون، قال أيضاً: "ولقد خَلَقْنا الإنسان من سُلالةٍ من طين(12) ثمَّ جعلناه نُطفةً في قرارٍ مَكِين(13) ثمَّ خَلَقْنا النُطفةَ عَلقةً فخَلَقْنا العَلَقةَ مُضغةً فخَلَقْنا المُضغةَ عِظاماً فكسونا العِظام لحماً ثمَّ أنشأناه خَلْقاً آخرَ فتباركَ الله أَحْسَنُ الخَالقين(14) ثمَّ إنَّكم بعدَ ذلك لميِّتون(15) ثمَّ إنَّكم يومَ القيامة تُبعثون(16)".
- نتبيَّن من الآيات الكريمة أن الله تعالى خلق آدم من موادَّ متوافرة في التراب، ثمَّ توالت عملية الخلق لهذا النموذج الإنساني بعد أبي البشرية آدم ـ عليه السلام ـ بواسطة الحيوان المنوي، الَّذي يحمل في مركَّباته كلاً من الصفات والمورِّثات الإنسانية، الَّتي تنتقل من الآباء إلى الأبناء ـ وعلى مرِّ الأجيال ـ لحفظ النوع الإنساني وتكاثره.
- تمرُّ النطفة في رحم الأمِّ بمراحل تكوينية بالغة في الإعجاز إلى أن يأخذ الجنين صورته الإنسانية الكاملة، وقد صوَّر القرآن الكريم تلك المراحل بدقَّة، استطاعت اكتشافات العلم المعاصر أن تتوصل إليها مؤخَّراً، متخلِّفة عما أثبته القرآن الكريم قروناً متطاولة.
- كما يمرُّ الجنين في رحم أمِّه بمراحل مختلفة إلى أن يصبح وليداً، فإنه يعيش حياته الثانية كذلك، ويمرُّ فيها بأطوارٍ تتراوح ما بين طفولة بريئة.. وشباب متوقِّد.. وشيخوخة متردِّية عند بعضهم.. وهكذا إلى أن تنتهي دورة الحياة هذه.
- يُبعث الإنسان يوم القيامة حيّاً بعد موته، كما تحيا البذور بالماء بعد زرعها، وهذا من إعجاز الله تعالى وقدرته على الإحياء بعد الإماتة، وهو الخالق القدير.
- الإنسان ابن هذه الأرض، من ترابها نشأ، وفوقه عاش ومنه تغذَّى، وكلُّ عنصر في جسمه له نظيره في عناصر أمِّه (الأرض)(والله أنْبَتَكم من الأَرضِ نباتاً) نوح آية 17، اللهم إلا ذلك السرَّ اللطيف الَّذي أودعه الله ونفخه فيه وهو الروح، قال تعالى: (..وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوْحِي) الحجر آية 30، وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوي ما تحتويه الأرض من عناصر؛ فهو يتكوَّن من الكربون، والأوكسجين، والهيدروجين، والفوسفور، والكبريت، والآزوت، والكالسيوم، والبوتاسيوم، والصوديوم، والكلور، والمغنزيوم، والحديد، والمنغنيز، والنحاس، واليود، والفلورين، والكوبالت، والزنك، والسلكون، والألمنيوم، وكلُّ هذه العناصر هي العناصر نفسها المكوِّنة للتراب أيضاً، وإن اختلفت نسبها بين الإنسان والتُّراب، ومن إنسان لآخر. كذلك فإن نسبة الماء من جسم الإنسان، تعادل نسبة البحار إلى اليابسة في الكرة الأرضية، وهذا مايؤكد خلق آدم من تراب الأرض. وهكذا فإن التُّراب هو الطَّوْر الأوَّل والإنسان هو الطَّوْر الأخير، وهذه الحقيقة نعرفها من القرآن، ولا نطلب مصداقاً لها من النظريَّات العلمية الَّتي تبحث في نشأة الإنسان، أو نشأة الأحياء.
والقرآن يقرِّر هذه الحقيقة ليجعلها محلاً للتدبُّر في صنع الله والتأمُّل في النُّقلة البعيدة بين التراب والإنسان المنحدر في نشأته من ذلك التراب، وبعض النظريَّات العلمية تحاول إثبات سلَّم معيَّن للنُّشوء والارتقاء لوصل حلقات السلسلة بين الحيوان والإنسان، وفي هذا حطٌّ من قدر الإنسان، ولكنَّ القرآن يكرِّم الإنسان ويقرِّر أن فيه نفخة من روح الله هي الَّتي جعلت من سُلالة الطِّين إنساناً، ومنحته خصائص ميَّزته عن غيره من المخلوقات.
لقد جرت سنَّة الله أن يتم تناسل الإنسان وتكاثر أفراده، عن طريق دفقة مائيَّة تخرج من صلب الرَّجُل وتشقُّ طريقها لتثبت في الرَّحم، الغائرة بين عظام الحوض؛ الَّتي تحميها من التأثُّر باهتزازات الجسم، ومن كثيرٍ ممَّا يصيب ظهر الأم وبطنها من كدمات واهتزازات.
أمَّا المسافة الَّتي تعبِّر عن درجة التطوُّر والارتقاء الَّتي تفصل بين عناصر التراب الأولية وبين النُّطفة المؤلَّفة من الخلايا المَنَويَّة الحيَّة، فهي مسافة هائلة تنطوي على السرِّ الأعظم؛ سرِّ الحياة الَّذي لم يعرف البشر عنه حتَّى الآن شيئاً يُذكر، والَّذي لا سبيل لهم إلى أكثر من ملاحظته وتسجيله، دون الوصول إلى معرفة سرِّه وكنهه.
والتعبير القرآني يجعل النُّطفة طَوْراً من أطوار النشأة الإنسانية، وهي حقيقة رائعة تدعو إلى التأمُّل، فالإنسان يُخْتَصَر ويُخْتَزَل بكلِّ عناصره وخصائصه في الحيوان المنوي، ذلك الكائن المتناهي في الصِّغر الَّذي لا يُرى بالعين المجرَّدة، ويشكِّل واحداً من مئات ملايين الحيوانات المنويَّة الموجودة في النطفة. هذا الكائن الَّذي يلتقي بالبويضة فيتحوَّل معها إلى نقطة صغيرة عالقة بجدار الرَّحم تتغذَّى من دم الأم، وتختزن جميع خصائص الإنسان المقبل: سواء في ذلك صفاتُهُ الجسديَّة وسماته الخَلْقيَّة؛ من طول وقصر، وضخامة وضآلة، وقبح ووسامة، وآفة وصِحَّة، أو صفاته النفسية والخُلقية، من ميول ونزعات، وطباع واتجاهات، ومواهب واستعدادات. فما أعظم هذا الإعجاز! وما أعظم أن يكون ذلك كلُّه كامناً في تلك النقطة الضئيلة الَّتي سماها القرآن الكريم (علقة) تلك النقطة الصغيرة في الحجم، الهائلة في القدرة، عليها يرتكز تكوين هذا الإنسان المعقَّد تركيباً... والمعجز بناءً وتكويناً... الواحد أصلاً ونشأة... والمختلف ألسنة وألواناً، وخصائِصَ وطباعاً، فلا يمكن أن يتطابق شخصان من السُّلالة البشرية على وجه هذه الأرض تطابقاً تامّاً وعلى امتداد العصور والأجيال.
وهكذا تستمرُّ الآية الكريمة في التَّعريف بحلقات السِّلسلة التكوينية لخلق الإنسان. فمن التُّراب إلى النُّطفة ومن النُّطفة إلى العَلَقة ومن العَلَقة إلى المُضْغَة، حيث تكبر تلك النقطة العالقة، وتتحوَّل إلى قطعة من دم غليظ مختلط على هيئة مضغة لا تحمل سمة ولا شكلاً. ثمَّ تتابع المضغة طريقها فتمضي في خط ثابت من النُّمُوِّ لا ينحرف ولا تتوقف حركته المنتظمة حتَّى تجيء مرحلة العظام، فمرحلة كسوة العظام باللحم. وهنا يقف الإنسان مشدوهاً أمام ما كشفه القرآن عن مراحل تكوين الجنين، والَّذي لم يُعرف على وجه الدِّقة إلا مؤخَّراً بعد تقدُّم علم الأجنَّة التشريحي: فخلايا العظام هي غير خلايا اللحم، وقد ثبت أن خلايا العظام تتكون أوَّلاً في الجنين، ولا تُشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظام، وتمام الهيكل العظمي للجنين. وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعض هذه المراحل الَّتي يمُرُّ بها كلُّ جنين، فقد جاء في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمِّه أربعين يوماً نُطفةً، ثمَّ يكون علقة مثل ذلك، ثمَّ يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثمَّ يُرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويُؤْمَر بأربع كلمات: بكَتْب رزقه وأجله وعمله وشقيٌّ أو سعيد.."؛ وهذه الكتابة ليست كتابة إجبار وقهر، ولكنَّها كتابة علم بما سيكون عليه هذا المخلوق في المستقبل، فالإنسان مخيَّر في أقواله وأفعاله ومعتقداته وليس مسيَّراً ولا مجبراً. فهذا الإنسان ذو الخصائص المتميزة، والَّذي يشبه جنينه جنين الحيوان في أطواره الجسدية، ومع ذلك فإنه ينشأ خلقاً آخر، ويتحوَّل إلى مخلوق مستعدٍّ للارتقاء (المعرفي والرُّوحي)، بينما يبقى جنين الحيوان في المراتب الدُّنيا، مجرَّداً من خصائص الارتقاء والكمال الَّتي يمتاز بها الإنسان.
والآيات الَّتي تحدَّثت عن الخلق توحي بعظمة الخالق وقدرته وكأنه تعالى يقول فيها: لقد خلقناكم على هذا النمط البديع، لنبيِّن لكم جميل نظامنا، وعظيم حكمتنا، ونبين لكم بهذا التدرُّج قدرتنا، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أوَّلاً، ثمَّ من نطفة ثانياً ـ ولا تناسـب بين التراب والماء ـ قادر على أن يجعل النطفة علقة ـ وبينهما تباين ظـاهر ـ ثمَّ يجعل العلقة مضغة، والمضغة عظاماً، وقادر أيضاً على إعادة ما بدأه، بل هذا أَدْخَلُ في القدرة، وأهون في القياس. وهو الَّذي يُثَبِّت الحمل في أرحام الأمَّهات، ويقرُّ ما يشاء من هذا الحمل حتَّى يتكامل خلقه إلى زمن معين هو وقت الوضع، ثمَّ يخرج هذا الجنين طفلاً ضعيفاً في بدنه وسمعه وبصره وحواسِّه، ثمَّ يكتسب القوَّة بإذن الله شيئاً فشيئاً حتَّى يبلغ كمال قوته وعقله. فكم بين الطفل الوليد والإنسان الشديد من مسافات في المميزات أبعد من مسافات الزمان، تتم بيد القدرة المبدعة الَّتي أودعت الطفلَ الوليد كلَّ خصائص الإنسان، وكلَّ الاستعدادات الكامنة الَّتي تتبدَّى فيه وتتكشَّف في أوانها، كما أودعتِ النقطةَ العالقة بالرَّحم كلَّ خصائص الطفل، وهي من ماء مهين.
ثمَّ يخبرنا تعالى عن عظيم حكمته، فقد جعل أعمار الناس متباينة كتباين صفاتهم وسماتهم؛ فمن الناس من يُتوفَّى شابّاً، ومنهم من يطول به العمر؛ فيصبح صفحة مفتوحة للتدبُّر، فبعد العلم والرُّشْد وبعد الوعي والاكتمال، إذا به يرتدُّ عند شيخوخته طفلاً في عواطفه وانفعالاته، وكذلك في ذاكرته الَّتي قد تعينه حيناً وتخونه أحياناً، وقد يرهق ذهنه ويثقل فينفلت من عقال، بعد أن كان يختال بهذا العلم في شبابه ويتطاول، ويظن أن الشباب والقوَّة دائمان، قال تعالى: "الله الَّذي خَلَقَكُم من ضَعْفٍ ثمَّ جعلَ من بعدِ ضَعْفٍ قوَّةً ثمَّ جعلَ من بعد قوَّةٍ ضَعْفاً وشَيْبَة" الروم آية 54 لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجُبْن، وأعوذ بك أن أُردَّ إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر" رواه النسائي عن سعد رضي الله عنه.
في سورة الذَّاريات، يقول الله تعالى: "وما خَلَقتُ الجنَّ والإنس إلاَّ لِيَعبُدون(56) ما أُريدُ منهم من رِزقٍ وما أُريدُ أنْ يُطْعِمُون(57) إنَّ الله هو الرَّزَّاقُ ذو القُوَّة المتين(58)".
وفي سورة الإنسان، يقول: "هل أتى على الإنسان حِيْنٌ منَ الدَّهر لم يَكن شيئاً مذكوراً(1) إنَّا خَلَقنا الإنسان من نُطفةٍ أمْشَاجٍ نَبتلِيهِ فجعلناه سميعاً بصيراً(2)".
- لقد شاءت الإرادة الإلهيَّة خَلْقَ الإنسان وإيجاده من العدم، لغاية تتجلَّى في ناحيتين:
1- معرفة الله وعبادته.
2- اختبار الإنسان وامتحانه على وجه الأرض من حيث مدى أهليَّته بِصِفَتِه خليفةً لله عليها.
- منح الله عزَّ وجل الإنسان نعمة الإمداد إلى جانب نعمة الإيجاد. فأمدَّه بمفاتيح المعرفة والهداية والعلم كالسمع والبصر، وبكلِّ ما يضمن له الاستمرارية في الحياة إلى ماشاء الله.
- لم تكن الغاية من خلق الله تعالى للثَّقَلين (إنساً وجنّاً) لحاجة به إليهم، فهو الغني عنهم جميعاً وهم المحتاجون إليه أبداً. ولمَّا كان الله تعالى لا يخلق شيئاً عبثاً ولا يتركه سدىً، فقد أوضح لنا في كتابه الكريم الغاية من خلق الإنسان فقال: "وما خَلَقتُ الجنَّ والإنس إلاَّ ليعبدونِ" (أي ليعرفوني)؛ ولهذا قال بعضهم"العبادة هي معرفة الله والإخلاص له في ذلك".
ولتأكيد سموِّ الغاية من هذا الخلق جاء قوله تعالى موضِّحاً:"ما أُريدُ منهم من رزق وما أُريدُ أن يُطعمون" أي لا أريد من خلقهم جلب نفع لي، ولا دفع ضُرٍّ عنِّي. فالله هو الغنيُّ المطلق، والرزَّاق المعطي الَّذي يرزق جميع مخلوقاته ولا ينسى منهم أحداً، ويقوم بما يصلحهم، وهو صاحب القدرة والقوَّة، بل هو شديد القوَّة فكيف يحتاج إليهم وهو المتفضِّل عليهم بقضاء حوائجهم.
ولما كان الأمر كذلك؛ توجَّب على العباد إفراده بالعبادة والقيام بتكاليفها. وقد ورد في الأثر أن الله تعالى يقول: "ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفَّلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدتَ كلَّ شيء، وإن فُتُّك فاتك كلُّ شيء، وأنا أَحَبُّ إليك من كلِّ شيء". وفي هذا تلميح للمؤمن أن يجعل من نيَّته وقصده في جميع أعماله ونشاطاته، وفي سائر شؤون حياته، رضاء الله والتقرُّب إليه.
أمَّا قوله تعالى: "هل أتى على الإنسان حِيْنٌ من الدَّهر لم يَكن شيئاً مذكوراً إنا خَلَقنا الإنسان من نُطفةٍ أمْشَاجٍ نَبْتلِيهِ فجعلناه سميعاً بصيراً"، ففيه تقرير بمرور مرحلة سابقة على وجود الإنسان لم يكن فيها شـيئاً يُذكر، ولم يكن آدم وبنوه يتمتَّعون بوجود أو حياة أو استقرار على وجه الأرض. وقد تأكَّدت هذه الحقيقة من قِبَلِ علماء طبقات الأرض الَّذين قالوا: لم يوجَد الإنسان على الأرض إلا بعد خلقها بأحقابٍ طوال. ولو أن الإنسان وُجد بعامل التطور الطبيعي، كما يدعي بعضهم، لاحتاج ذلك ملايين السنين زيادة عن عمر الأرض... لذلك لا يُعقل أن يكون الإنسان وما حوله من كائنات قد تطوروا في فراغ، ثمَّ هبطوا على الأرض بعد اكتمال نموها الجيولوجي.
ثمَّ تأتي الآيـة ببيـان عن خلق الإنسـان وتكاثر نوعه ـ بعد خلق آدم ـ بواسطة مادَّة واحدة مختلطة ممتزجة بين ماءيِّ الرجل والمرأة، لتحقِّق الإرادة والغاية من هذا الخلق؛ وهي ابتلاء الإنسان واختباره بالخير والشَّر، بعد أن أمدَّه الله وزوَّده بطاقات الفهم والوعي والإدراك والتخاطب، بواسطة السمع والبصر واللسان، ليتمكَّن من حمل أمانة التكليف الَّتي شرَّفه الله بها، وليستطيع اجتياز الامتحان بالفوز والفلاح. وعلى هذا تكون الدنيا دار الابتلاء، والآخرة دار الجزاء قال تعالى: " ليَجْزِي الَّذين أساؤوا بما عملوا ويَجْزِي الَّذين أحسنوا بالحُسنى" النجم آية 31.
فالإنسان العاقل الموفَّق، هو من يسلك سبيل الهدى بعد أن بيَّنه الله له ورغَّبه فيه، ويجتنب سبيل الضلال الَّذي وضَّحه له وحذَّره منه، ومنحه أوَّلاً وآخراً حرية الاختيار لأيٍّ من السبيلين شاء، قال تعالى:" إنَّا هَدَيْناه السَّـبيل إمَّا شـاكراً وإمَّا كفوراً" الإنسان آية 3 . وقد أخرج أبو داود وابن جرير والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: " تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " لِيَبلُوَكم أيُّكُم أحسنُ عملاً.." المُلك آية 2، فقلت ما معنى ذلك يارسول الله؟ قال: ليبلوكم أيُّكم أحسن عقلاً. ثمَّ قال: وأحسنكم عقلاً أورعكم عن محارم الله، وأعلمكم بطاعة الله".
فمن خلال هذه الآيات وما سبقها يتبيَّن لنا أن الله تعالى قد خلق الناس وأوجدهم ليمتحنهم ويختبرهم أيُّهم أخلص عبوديَّة له، وأحسن عملاً لنفسه، مع علمه الأزلي بما هو كائن وبما سيكون منهم.
وهنا قد نجد من يقول: لماذا الاختبار، ولماذا الثواب والعقاب والنتيجة معروفة لله تعالى مسبقاً؟ والجواب: أن الاختبار مرتبط بعلم الله الأزلي بما هو كائن وبما سيكون، وإن عقل الإنسان وسلوكه هما نواة الاختبار ومادته، فلا عمل دون قرار وإرادة من الإنسان، ولذلك فلا حساب على من فَقَدَ عقله. ولولا وجود ذلك الاختبار، وظهور نتيجته، لساء العبدَ أن يُحكَم سلفاً دون أن يُبتلى ويُختَبَر.
ولكن حكمة الله تعالى قضت بالامتحان والابتلاء سدّاً لهذه الذَّريعة على العصاة والكافرين، إنه هو العليم الحكيم سبحانه وتعالى عن الظلم علوَّاً كبيراً.
- آيات الله ودلائل قدرته تهدي إلى الإيمان. وعلى الرغم من وضوحها وكثرتها فلا يزال فريق من الناس يجادلون في توحيد الألوهيَّة، دون برهان عقلي، أو سند نقلي، مستسلمين لما يلقيه الشيطان في رَوْعهم من عناد واستكبار.. قال تعالى:" وإنَّ الشَّياطين لَيُوحونَ إلى أوليائِهم ليجادِلُوكم" الأنعام آية 121.
- ومع ذلك، فإن فريقاً من الناس لا يتدبَّرون ما حولهم من الآيات، ولا يؤمنون بالمنعم المتفضِّل؛ فهم يجادلون في الله بغير علم، مجادلة عقيمة على الرغم من البراهين الكونيَّة الواضحة، وهم يتنعَّمون بنعم الله السَّابغة. ويبدو هذا الفريق الَّذي يجادل في حقيقة الله منحرفاً عن الفطرة، لا يستجيب لآيات الكون من حوله، جاحداً النِّعَم، لا يستحيي أن يشكِّك في وجود المنعم، متهرِّباً من تحمُّل المسؤولية الأخلاقية والعلمية، منهمكاً في جدال لا يستند إلى علم، ولا يهتدي بهدى، ولا يعتمد على أساس، وإنَّما تُسَوِّلُ له نفسه وشيطانه من الضَّلال والتَّخاذل، ما يهوي به ويُهوي معه غيره من ضعاف النُّفوس في الكفر وظلمات الجهل والفقر والهوان.
قصَّة خلق سيدنا آدم عليه السلام في القرآن الشريف
في سورة البقرة، يقول الله تعالى:"وإذ قال رَبُّكَ للملائِكَةِ إنِّي جاعلٌ في الأَرضِ خَلِيفَةً قالوا أتَجْعَلُ فيها مَن يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدِّمَاءَ ونحن نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لك قال إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ(30) وعَلَّم آدَمَ الأسمَاءَ كُلَّهَا ثمَّ عَرَضَهُم على الملائِكَةِ فقال أنبِئُونِي بأسماءِ هؤلاءِ إن كُنتُم صَادِقِينَ(31) قالوا سُبحَانَكَ لا عِلمَ لنا إلاَّ ما عَلَّمتَنَا إنَّكَ أنت العَلِيمُ الحَكِيمُ(32) قال ياآدَمُ أنبِئْهُم بأسمائِهِم فلمَّا أنبَأَهُم بأسمائِهِم قال ألم أقُل لكم إنّي أعلَمُ غَيبَ السَّمواتِ والأَرضِ وأعلَمُ ما تُبدُونَ وما كنتُمْ تَكْتُمُونَ(33) وإذ قُلْنَا للملائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبليسَ أَبَى واسْتَكْبَرَ وكان من الكَافِرينَ(34) وقُلْنَا ياآدَمُ اسكُنْ أنتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلا منها رَغَداً حيثُ شِئْتُمَا ولا تَقْرَبَا هذه الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا من الظَّالِمينَ(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عنها فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فيه وَقُلْنَا اهبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ولكم في الأَرضِ مُستَقَرٌّ ومَتَاعٌ إلى حِينٍ(36) فَتَلقَّى آدَمُ من ربِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عليه إنَّهُ هو التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(37)".
وفي سورة الأعراف، يقول تعالى:"ولقد خَلَقنَاكُم ثمَّ صَوَّرنَاكُم ثمَّ قُلنَا للملائِكَةِ اسجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبليسَ لم يكن منَ السَّاجِدِينَ(11) قال ما مَنَعَكَ ألاَّ تَسجُدَ إذ أمَرتُكَ قال أنا خَيرٌ منهُ خَلَقتَنِي مِن نارٍ وخَلَقتَهُ مِن طِينٍ(12) قال فاهبِط منها فما يكون لك أن تَتَكَبَّرَ فيها فاخرج إنَّكَ منَ الصَّاغِرِينَ(13) قال أَنْظِرني إلى يوم يُبعثون(14) قال إنَّك من المُنْظَرين(15) قال فَبِمَا أغوَيتَنِي لأَقعُدَنَّ لهم صِراطكَ المُستَقِيمَ(16) ثمَّ لآتِيَنَّهُم من بين أيدِيِهم ومن خَلفِهِم وعن أيمَانِهِم وعن شَمَائِلِهِم ولا تَجِدُ أكثَرَهُم شَاكِرِينَ(17) قال اخرجْ منها مَذؤُوماً مدحُوراً لَمَن تَبِعَكَ منهم لأملأَنَّ جَهَنَّمَ منكم أجمَعِينَ (18) وياآدَمُ اسكُنْ أنتَ وزَوجُكَ الجَنَّةَ فَكُلاَ من حيثُ شِئتُمَا ولا تَقرَبَا هذه الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا من الظَّالِمِينَ(19) فَوَسوَسَ لهما الشَّيطَانُ لِيُبدِيَ لهما ما وُورِيَ عنهما من سوْءَاتِهِمَا وقال ما نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عن هذه الشَّجرةِ إلاَّ أن تَكُونَا مَلَكَينِ أو تَكُونَا من الخَالدينَ(20) وقَاسَمَهُمَا إنِّي لكما لَمِنَ النَّاصِحِينَ(21) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فلمَّا ذَاقَا الشَّجرةَ بَدَت لهما سَوءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخصِفَانِ عليهِمَا من وَرَقِ الجَنَّةِ ونَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَم أَنهَكُمَا عن تِلكُمَا الشَّجرةِ وأقُل لكُمَا إِنَّ الشَّيطَانَ لكما عَدُوٌّ مبِينٌ(22) قالا رَبَّنَا ظَلَمنَا أَنفُسَنَا وإِن لم تَغفِر لنا وتَرحَمنَا لَنَكُونَنَّ من الخَاسِرِينَ(23) قال اهبِطُوا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ ولكم في الأَرضِ مُستَقَرٌّ ومَتَاعٌ إلى حينٍ(24) قال فيها تَحيَونَ وفيها تَمُوتُونَ ومنها تُخرَجُونَ(25)".
وفي سورة الحجريقول تعالى: "ولقد خَلَقْنا الإنسان من صَلصال مِن حَمَأٍ مَسْنُون(26) والجَانَّ خَلَقْناه من قبلُ من نارِ السَّموم(27) وإذ قال ربُّك للملائِكَةِ إنِّي خَالقٌ بشراً من صَلصالٍ من حَمأٍ مَسنون(28) فإذا سوَّيتُه ونَفختُ فيه من روحي فَقعوا له ساجدين(29) فَسَجَد الملائِكةُ كُلُّهُم أجمعون(30) إلاَّ إبليس أَبَى أن يكون مع السَّاجدين(31) قال ياإبليس ما لك ألاَّ تكون مع السَّاجدين(32) قال لم أكن لأسجدَ لبشرٍ خَلَقْتَهُ من صَلصالٍ من حَمأٍ مَسنون(33) قال فاخرج منها فإنَّك رجيم(34) وإنَّ عليك اللَّعنةَ إلى يومِ الدِّين(35) قال ربِّ فَأَنظِرني إلى يومِ يُبعثون(36) قال فإنَّك من المُنْظَرين(37) إلى يومِ الوَقتِ المَعلوم(38) قال ربِّ بما أغْويتَني لأُزيِّننَّ لهم في الأَرض ولأُغْوينَّهم أجمعين(39) إلاَّ عِبادكَ مِنهم المُخْلَصين(40) قال هذا صراطٌ عليَّ مستقيم(41) إنَّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ إلاَّ منِ اتَّبعك من الغَاوين(42) وإنَّ جهنَّمَ لَموعِدُهُم أجمعين(43) لها سبْعةُ أبوابٍ لكلِّ بابٍ منهم جُزءٌ مَقسوم(44)".
- الله تعالى هو الخالق المبدع، وهو الواسع العليم، الحكيم الفعَّال لما يريد، خلق الأرض والسماء ثمَّ خلق آدم، ووضع لكلٍّ منهما موازين القسط لتتواءم وتتلاءم لتصلح حياة آدم على الأرض، ولتصلح الأرض بحياة آدم؛ فيتجلى بذلك إعجاز الله تعالى في خلقه ودقَّة صنعه.
- إن في تعليم الله لآدم أسماء الأشياء كلِّها" وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا" إشارة دقيقة إلى قدرة الإنسان على الوصول إلى درجات عليا من المعرفة والكمال، وإلى أهميَّة العلم وضرورته للحياة الإنسانية حسب المنهج الإلهي.
- أعطى الله آدم القدرة على الكلام منذ خلقه وعلَّمه "قال ياآدم أنبِئْهُم".
- كرَّم الله الإنسان المؤمن بالله، الممتثل لأمره؛ على سائر مخلوقاته بما فيهم الملائكة والجن، ولذلك أمرهم الله بالسجود لأبي البشريَّة آدم عليه السلام سجود تكريم وتقدير؛ للروح الإلهية المودعة فيه، وللعلم الَّذي أكرمه الله به، فسجدوا إلا إبليس أبى.
- عرض الله تعالى علينا في الآيات السابقة صورتين متشابهتين في البداية متعارضتين في النِّهاية، هما صورتا آدم المذنب، وإبليس المتمرِّد. فاشتركت الصورتان في أنَّهما تمثِّلان مخالفة لأمر الله تعالى، إلا أنَّ الأولى انتهت باعتراف آدم بذنبه وطلبه الصَّفح والغفران من الله تعالى، بينما انتهت الثانية بإصرار إبليس على ذنبه وتماديه في غيِّه، ولذا فقد نال آدم العفو والمغفرة من الله الغفور الرحيم، واستحقَّ إبليس الوعيد والعقاب من الله الشديد العقاب، وهكذا فالبشر جميعاً لهم مطلق الاختيار لأحد النموذجين في سلوكهم في هذه الحياة ولاشكَّ أنه سينال الجزاء الَّذي يتناسب مع اختياره.
- من تواضع لله رفعه، ومن تكبَّر عليه وضعه.
- إن الله عزَّ وجل يقبل التَّوبة من عباده المنيبين إليه، ويحفُّهم برحمته إن كانوا صادقين في الرجوع إلى بابه، ملتزمين بآداب التوبة بين يديه.
خلق الله تعالى الأرض وأودع فيها ما شاء من أسباب الحياة والنعيم، فأبدع خلقها وأحسنه، وكانت الملائكة ـ بتسبيحها وتقديسها لله تعالى ـ ترى لنفسها مكانة خاصَّة عنده، فلما خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه، أخبر الملائكة أنه سيجعل من هذا المخلوق خليفـة له في الأرض، فـتـعجَّبوا من أمر استخلافه عليها بعد أن أدركوا ـ بعلم الله ــ ما سيكون عليه حال ذريَّة آدم من فساد في الأرض وسفك للدِّماء، وعلى الرُّغم من معرفتهم وإدراكهم لطبيعة البشر فقد تعذَّر عليهم إدراك الحكمة من خلقهم؛ وهي أن الله تعالى أراد أن يودع الأرض لدى هذا المخلوق الفريد ويملِّكه زمامها، ويطلق يده فيها، ليَكِل إليه من وراء ذلك مهمَّة إظهار إعجازه تعالى في الخلق والإبداع، وكشف ما اختزنته هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كلِّه ـ بإذن من الله ـ في المهمَّة الجليلة الَّتي أولاها الله له، وهي بناء هذه الأرض وعمارتها، وتحقيق إرادة الخالق في تطويرها وترقيتها، قال تعالى:"وإلى ثمودَ أخاهُم صالحاً قال ياقومِ اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيرُهُ هو أنشأكُم من الأرضِ واستعمركُم فيها فاستغفروهُ ثمَّ توبوا إليه إنَّ ربِّي قريبٌ مُجيب" هود آية 61، استعمركم فيها: أي كلَّفكم بإعمارها، و لهذا فقد جاءهم القول الفصل من الله تعالى:"إنِّي أعلمُ ما لا تعلمون"، ليضع حداً لتساؤلاتهم.
ويُستشفُّ من سياق هذه الآيات الكريمة أن الله تعالى خلق الجنَّ من نار ثمَّ خلق آدم من طين، ووهبه من العلوم ما لم يهبه لغيره من خلقه، فعلَّمه أسماء الأشياء والأجناس وغيرها ممَّا شاء، وبذلك شرَّفه ورفعه إلى مكانة سامية. وفي هذا تشريفٌ للعلم والعلماء، ورفعٌ لمكانة العابد العالم على العابد الجاهل.
والملائكة ما خُلقوا إلا ليعبدوه ـ عزَّ وجل ـ ويسبِّحوه وينفِّذوا ما يُوْكَلُ إليهم من مهمَّات محدَّدة، بينما خُلق آدم وبنوه ليسلكوا سُبُل العلم الموصلة إلى معرفة الخالق، وعبادته حقَّ العبادة.
وتعرض الآيات صورة الاختبار الَّذي أقام فيه تعالى الحجَّة البيِّنة على ملائكته بسعة علمه، وتفرُّده في تصريف شؤون خلقه، وذلك قبل أن يأمرهم بالسجود لآدم، وفي هذا درس تعليميٌّ لطيف في آداب المناظرة وتصريف الأمور، فالله تعالى مع استغنائه عن إقامة الحُجَّة والدليل لمخلوقاته على شمولية علمه، لم يمنعهما عن ملائكته تكريماً لهم، وتعليماً للناس كي يحسنوا محاكمة الأمور من جهة، ولكي يحلم قويُّهم على ضعيفهم، ويتواضع كبيرهم لصغيرهم ويأخذه بالرِّفق والحكمة من جهة أخرى. فقد عرض الله تعالى على الملائكة أشياء ثمَّ أمرهم أن يخبروه بأسمائها فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، واعترفوا بعجزهم وبأنه لا علم لهم إلا ما علمهم إيِّاه، وعند ذلك أمر عزَّ وجل آدم أن يخبرهم بالأسماء الَّتي يجهلونها، فلما أخبرهم أدركوا السِّر في خلافة آدم وذريَّته.
لقد كان ذلك السرُّ يكمن في صلاحيَّة البشر للاشتغال بالماديَّات الَّتي لا تقوم الدنيا إلا بها، وذلك لأن المادَّة جزء من أجزاء تركيبهم الخَلْقي، فقد خُلق آدم عليه السلام من تراب، فاختلف بهذه النشأة هو وذريَّته عن الملائكة، وعلى أساس هذا الاختلاف اختلفت الحكمة في خلق كلٍّ منهما. فبعد أن أقيمت الحُجَّة على الملائكة بسعة علم الله، وعظيم حكمته في وضع علمه حيث يشاء، قال تعالى لهم:"أَلَم أقل لكم إنِّي أَعلمُ غيبَ السَّمواتِ والأَرضِ وأَعلمُ ما تُبْدونَ وما كُنتم تَكْتُمون"، ثمَّ أمرهم وإبليس أن يسجدوا لآدم، سجود تحيَّة وتكريم، واحترام وتقدير، للقدرة الإلهية المودَعَة فيه، لا سجود عبادة وتقديس وتعظيم، فامتثلوا للأمر جميعاً، عدا إبليـس ـ وهذا الاسـم معناه الآيس البعيد من رحمـة الله ــ الَّذي عصى أمره تعالى بالسجود لآدم حسداً واستكباراً، واعتدَّ بأصل تكوينه وهو النار، فقال لربِّه متبجحاً ومُغْتَرّاً:"أنا خيرٌ منه خَلَقْتني من نارٍ وخَلَقته من طين"، فباء بغضب من الله لارتكابه خطيئتين من أكبر الخطايا، أولاهما: عصيـان أمر الله تعالى والإصرار على هذا الذنب، والثانية: التكبُّر والاعتداد بمادة خلقه مقارنة بمادة خلق آدم، جاهلاً بأن مكوِّنات التراب أفضل من تكوين النار، وأنَّ عناصر التراب لا ينجم عنها إلا الخير، وأنَّ في النار قوى مهلكة ومدمِّرة. وأصبح بعصيانه وإصراره مخلوقاً لا يستطيع العمل إلا وفق اتِّجاه واحد وهو الشرُّ المطلق.
وبهاتين الخطيئتين استحقَّ إبليس العقوبة العادلة من الله تعالى، وهي الهبوط من الجنة الَّتي كان فيها، وخروجه من دائرة الرحمة الإلهيَّة. وعند ذلك طلب من ربِّه أن يمهله إلى يوم القيامة ليثأر من آدم وذريَّته بإغوائهم، فأجابه تعالى إلى طلبه: "قال فإنَّك من المُنظرين إلى يومِ الوقتِ المعلوم"، فلما أخذ الوعد من الله بذلك، واستوثق من الإمهال أخذ يتمادى في العناد والتمرُّد على خالقه، وأقسم بعزَّة الله ليفسدنَّ في الأرض عن طريق إضلال ذريَّة آدم وتزيين المعصية لهم، وتلبيس الحقِّ عليهم بالباطل، حتَّى يصبح أكثرهم عصاة كافرين. فأعلمه الله بأنه لا سلطان له على عباده المخلَصين المصطَفَين، من رفعوا شعار التَّوحيد، وأخلصوا الإيمان والعمل لله، فهم يستظلُّون في ظلاله، يعصمهم ويكلؤهم برعايته في الدنيا، ويدخلهم جنته في الآخرة. أمَّا من يتَّبع الشيطان من عباده فقد أقسم الله ليعذِّبنَّه وإيَّاهم فقال تعالى:"لأَمْلأنَّ جهنَّمَ منك وممَّن تَبعك منهم أجمعين" ص آية 85، وذلك عقاباً لهم لأنهم أعمَوْا بصائرهم عن الحقيقة بعد أن تبدَّت لهم واضحة جليَّة، فضَلُّوا وأضلُّوا.
ويُطوى هذا المشهد وإبليس يتحرَّق غيظاً من آدم، متمنِّياً غوايته وسلبه النِّعَم الَّتي منحه الله إيَّاها، ليُعْرَض مشهد آخر هو مشهد آدم وقد خلق الله تعالى له زوجة تسكن إليها نفسه، وتطيب بها حياته،"وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَة..."، الروم آية 21، ويأمرهما بالدخول إلى الجنة حيث النعيم الخالد، ويبيح لهما أن يأكلا من ثمار الجنة ومن خيراتها ما شاءا، إلا شجرة واحدة حرَّمها عليهما لغاية يعلمها الله عزَّ وجل. وهذا أوَّل تكليف إلهي لآدم وزوجه، فيه أمر بعدم الاقتراب من شجرة معيَّنة، سبقه توضيح مدى حقد إبليس عليهما، وعداوته لهما.. وفيه إنذار لآدم بأن التجاوب مع إبليس لن ينجم عنه إلا الشقاء، قال تعالى:" فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عدوٌّ لكَ ولِزَوْجِكَ فلا يُخْرِجَنَّـكُما منَ الجنَّة فتشْقَى" طه آية 117، وبطبيعة الحال، فقد اغتاظ إبليس وهو يرى آدم يرفل في نعيم الجنة المقيم، وراحت نيران العهد الَّذي قطعه على نفسه بإغواء آدم وذريَّته تتأجَّج في صدره، ما دامت الحياة قائمة.
ويأكل آدم وزوجه من الشجرة المحظورة مدفوْعَيْن بوسوسة الشيطان، ومُنْخَدِعَين بمسوح التديُّن الَّذي ظهر به أمامهما ــ وهذه أخطر نقطة ضعف يمكن أن يُستغلَّ بها الأناس الطيبون ـ حيث صار يقسم لهما الأيمان على صدقه، وإرادة الخير لهما، "وقاسمهما إني لكما من الناصحين"، وانساب إليهما من نقطة ضعفهما، بعد أن عرف هذه النقطة، وهي الانقياد لغريزتي حبِّ التملُّك والبقاء، وهما من أقوى النَّزَعات الَّتي تتملَّك الإنسان وأهمِّها، فقال له:" ..ياآدمُ هل أَدُلُّك على شجرةِ الخُلدِ ومُلكٍ لا يبلى" طه آية 120، فاستجاب آدم وزوجه لإغوائه وأكلا من الشجرة ناسيين، وما كادا يفعلان، حتَّى انكشف ما خفي عليهما من سوء عاقبة مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى، وأدركا فداحة خطئهما، عندها تدخَّلت الذَّات الإلهيَّة معاتبة مؤنِّبة؛ بأَنْ كنتُ قد نهيتكما عن الأكل من هذه الشجرة، وبيَّنت لكما أن الشيطان عدوٌّ لكما، فلِمَ المعصية؟.
على أن سرعة الانزلاق نحو المعصية عند آدم، قابلتها سرعة الرُّجوع والإنابة إلى الله، وهذا هو الفرق بين آدم وإبليس، فالأوَّل أحاط بخطيئته ورجع عنها، والثاني أحاطت به خطيئته بإصراره عليها. وهكذا ندم آدم على مخالفته، وأعلن وزوجَه التَّوبة والإنابة كما علَّمهما سبحانه فقالا:" ربَّنا ظَلمْنَا أنفُسَنا وإن لم تغفر لنا وتَرحَمنا لَنَكوننَّ من الخاسرين"، فقبل تعالى توبتهما واجتباهما. أمَّا إبليس فقد أصرَّ على ذنبه، وركبه الغرور، فأمهله تعالى إلى يوم الدِّين، ومكَّنه من أن يرى بني آدم من حيث لا يرونه، وأن يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم، ولكنَّه حصَّنهم في مواجهته بالهداية والإيمان، وأعدَّ لإبليس في الآخرة جحيماً دائماً وعذاباً مقيماً.
وأمَّا ما كان من أمر آدم عليه السلام فإن الله بعد أن تاب عليه، أمره هو وزوجه وإبليس أن يهبطوا إلى الأرض، وحذَّر آدم من مهادنة إبليس أو الرُّكون إليه، وبيَّن له أن الأرض هي مسكنه في الدُّنيا إلى أن ينقضي أجله فيها. وبذلك أَذِنَ تعالى ببدء المعركة بين الخير والشرِّ إلى آخر الزمان، ثمَّ يكون يوم الحساب وتكون العاقبة الحسنى للمتَّقين الأخيار.
التعليقات (0)