احتضنت العاصمة الجزائرية مؤخرا الندوة السياسية-الأمنية لوزراء خارجية دول منطقة الساحل والصحراء، (الجزائر وبوركينا فاسو وليبيا ومالي وموريتانيا والنيجر والتشاد)، ويعتبر مهتمون أن غاية هذا الاجتماع تذكير دولة مالي بآليات العمل بين الدول المعنية في إطار القوة الإفريقية التي تم استحداثها السنة الماضية للتدخل الأمني كبديل للمبادرة الأمريكية وأقحمت ضمنها الجزائر جبهة البوليساريو بعدما استثنت منها المغرب.
ويبقى الموقف الجزائري محرجا أمام أمريكا بعد تأكيد خبراء دوليون، ومنهم "بيتر بام"، العضو البارز في اللجنة الوطنية للسياسة الأمريكية، مساندته للطرح الذي عبر عنه المسؤولون الأمريكيون مرات عديدة، من أن تحركات مسلحي تنظيم (القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي) تبقى "مصدر قلق كبير"، مبرزا أن هذا التنظيم الإرهابي "نفذ خلال السنوات الأخيرة أعمالا إجرامية بهدف تمويل عملياته". وبعدما تأكد أن عناصر مرتبطة بـ "البوليساريو" توجد حاليا رهن الاعتقال في موريتانيا، على خلفية عملية اختطاف ثلاثة مواطنين إسبان نفذت في نونبر الماضي.
ويرى محللون سياسيون آخرون أن الجزائر تقاوم إشراك المغرب في ملف مراقبة الصحراء الإفريقية بسبب النزاع حول الصحراء، معتبرة أن لا امتداد جغرافي له على الصحراء الإفريقية، ولعل ذلك هو الذي جعلها تقبل بإدخال جبهة البوليساريو كعضو في التجمع.
وتجعل الجزائر من نزاع الصحراء أحد العوامل التي تبرر بها إبقاء المغرب خارج دائرة دول الساحل والصحراء في مراقبة تحركات الجماعات الإسلامية وجماعات تهريب المخدرات والسلاح والبشر، وكان وفد من الإتحاد الأوربي قد دعا حين زيارته لها مؤخرا الجزائر إلى تقوية درجة التعاون مع الرباط في قضايا الأمن الإقليمي. وأكد رئيس اللجنة البرلمانية الأوروبية المشتركة "بيار أنطوني بانزيري"، أن الجزائر يجب عليها أن تلعب دورا بناء في المغرب العربي ولاسيما في جانب تعزيز علاقاتها مع المغرب، وهو بذلك إنما يلمح إلى الانشغال الكبير للاتحاد الأوروبي بمسألة فتح الحدود بين الجزائر والمغرب، وتكثيف التعاون في مكافحة الإرهاب بالمنطقة.
ويؤكد خبراء دوليون أن محاربة تنظيم القاعدة في منطقة الصحراء الكبرى وشمال إفريقيا، يفترض تنسيقا بين الدول المجاورة، وخاصة فيما بين دول المغرب الكبير، وشددوا على أن الجزائر ستتجه للضغط على مالي من أجل فرض "تنسيق أمني" بين البلدين ومنع تكرار ما حدث. كما أن البلدان المغاربية عليها أن تنسق في ما بينها لمواجهة خطر تنظيم القاعدة، حيث لا يزال الأخير يحتفظ بخمسة رهائن أوربيين آخرين، ربما للمقايضة بهم في المستقبل.
وتتخوف فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية من أن تتحول الصحراء الإفريقية إلى مستنبت جديد للجماعات الإرهابية بعيدا عن الملاحقات الأمريكية في الشرق الأوسط، وبالتالي تحويل الصحراء الإفريقية الكبرى إلى ملاذ امن على غرار الصومال أو اليمن واستغلالها في الإعداد لهجمات كبيرة في مناطق خارجها.
هذا ويرى محللون أن الجزائر تحاول إرغام الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا على الاعتراف بدورها البارز في تنسيق تصدي المنطقة لمشكلة القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، من دون المملكة المغربية الذي تعتبرها الولايات المتحدة الأمريكية حليفها الاستراتيجي في محاربة الإرهاب، وهو ما ظل يثير حفيظة الجزائر.
ويرى عدد من المهتمين بالعلاقات الدولية في دول إفريقيا جنوب الصحراء، أن الجزائر وبعد فشلها في إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بموقف محايد في قضية الصحراء الغربية، وامتيازات عسكرية تتعلق بصفقات التسلح، وبقيام الجزائر بدور المفاوض العسكري باسم القوات الإفريقية أمام إدارة أوباما، بشأن إقامة مقر قيادة عسكرية أمريكية لإفريقيا المعروفة اختصارا باسم (أفريكوم) على أراضيها، لكن هذه الشروط رفضت أمريكيا جملة وتفصيلا، فإنها تعمل اليوم على تقويض أي تعاون لدول الصحراء مع أمريكا في إقامة مقر (أفريكوم) بالمنطقة، وكذا لممارسة المزيد من الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية في سياق الأزمة الدبلوماسية بينهما، بعدما تم فرض التفتيش الاستثنائي على المواطنين الجزائريين الراغبين في زيارة أمريكا بالمطارات.
ومن جهة ثانية فإن الجزائر تصر على إنجاح هذا التحالف وتحييد المغرب رغم تأكيدات أوربية على محوريته في مكافحة خطر التنظيمات المتطرفة بمنطقة الصحراء الإفريقية، وفي سياق عمل الجزائر على جعل المغرب فرسا خاسرا في الرهان الأمريكي الفرنسي على محاربة الإرهاب.
ومعلوم أن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي كان قد تبنى عددا من عمليات خطف أجانب في منطقة الساحل والصحراء الكبرى، وهو ما أثار تخوفات من استغلال التنظيم للمنطقة في الإعداد لهجمات كبيرة في مناطق خارجها.
ففي العام الماضي قتل تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي البريطاني ادوين داير بعد خطفه على الحدود بين النيجر ومالي حين كان يحضر مهرجانا للطوارق.
وأعلن مسؤوليته بقتل موظف إغاثة أمريكيا رميا بالرصاص في العاصمة الموريتانية في يونيو 2008، وأنه هو المسؤول عن الهجوم الانتحاري على السفارة الفرنسية بالعاصمة نواكشوظ والذي أسفر عن إصابة ثلاثة أشخاص بجروح في غشت من نفس السنة.
وأعلنت مصادر من وزارة الخارجية الجزائرية أن اجتماع دول الساحل والصحراء ستكون الغاية منه تحديد مواقف الدول المعنية من محاربة الإرهاب والتعاون الأمني في مجال تجفيف منابع تموين وتمويل التنظيمات الإرهابية وعصابات الأسلحة وشبكات الإجرام والتهريب، خاصة في ظل التأكد من العلاقات الأخطبوطية بين هذه الأطراف المعادية لأمن واستقرار منطقة الساحل التي تحوّلت إلى هدف يُراد له أن يكون سهلا لعسكرته وانتهاك سيادته.
وكان تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي قد اختطف أربعة أوروبيين في عمليتين منفصلتين، ففي عملية بموريتانيا اختطف ثلاثة مواطنين إسبان، وهم مدير شركة تونيل ديل كادي للإنشاءات والبنى التحتية ألبرت فيلالتا وروبي باسكوال وآلخيا غاميز. وفي الثانية بمالي اختطف مواطنا فرنسيا يدعى بيير كامات.
وقال مسؤول جزائري رسمي إن "اللقاء سيخصص لتقييم الوضع السائد في منطقة الساحل والصحراء، وخاصة في ظل تصاعد الأعمال الإرهابية والخطر الذي تشكله هذه الآفة وصلاتها بالجريمة المنظمة العابرة للأوطان وكل أنواع التهريب على السلم والأمن والاستقرار في المنطقة".
وأضاف أن الاجتماع يعد مناسبة لبحث التطورات الأمنية التي شهدتها المنطقة خلال الأسابيع الأخيرة، في إشارة إلى إفراج السلطات المالية مؤخرا عن مطلوبين للعدالة في كل من الجزائر وموريتانيا، واعتبر أن هذا اللقاء سيكون حاسما، لوضع النقاط على الحروف بشأن تورط وتواطؤ دول -(في إشارة إلى فرنسا)- بعينها في جرائم تمويل الإرهابيين وانتهاك المواثيق الدولية وخرق لوائح الأمم المتحدة، تحت غطاء إنقاذ حياة رهائن مختطفين من طرف عناصر إرهابية.
واعتبر مهتمون بالسياسة الدولية أن الجزائر تسعى اليوم إلى تقوية هذا التنسيق الإقليمي لدول الساحل والصحراء، بعدما انفرط عقده بتدخل فرنسي قوي لدى مالي لإطلاق مطلوبين للعدالة الجزائرية والموريتانية من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي مقابل إطلاق سراح الرهينة الفرنسي "بيار كامات"، وهو ما فهم منه جزائريا أن تنسيقية دول الساحل والصحراء الذي كلفت الجزائر الكثير من الأموال لم تصمد أمام ما تسميه الجزائر بالتدخل الخارجي وخاصة حينما يكون فرنسيا، ولأول كشفت مصادر رسمية جزائرية أن بلادهم كانت تقدم منحا مالية كبيرة لباماكو قدرت بما يفوق عن 200 مليون دولار لتنمية المناطق المالية المحاذية لجنوب البلاد، على غرار كيدال وغاو.
وهو ما أشار إليه مسؤولون جزائريون بالقول أن ضعف وفقر بعض بلدان الساحل والصحراء لا يمكن أن يكون مبررا أو مدعاة للتملص من التزاماتها الثنائية أو الإقليمية، ونقل مشاكل المنطقة إلى أطراف وهيئات قارية ودولية في إشارة إلى فرنسا، وشددوا على ضرورة احترام دول المنطقة لاتفاقيات تبادل المطلوبين التي وقعتها الجزائر مع أربعة بلدان في منطقة الساحل، بينها مالي.
وكانت حكومة مالي قد أعلنت الإفراج عن الرهينة الفرنسي بيير كامات الذي اختطفه تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي قبل ثلاثة أشهر شمال البلاد. وجاء ذلك بعد أن أطلقت الحكومة سراح أربعة معتقلين من التنظيم بينهم جزائريان وموريتاني كشرط للإفراج عن الرهينة الفرنسي، وهو ما تسبب في أزمة دبلوماسية بين باماكو (عاصمة مالي) من جهة والجزائر ونواكشوط من جهة أخرى، فقررتا استدعاء سفيريهما من مالي احتجاجا على الخطوة، المالية وقالت الحكومة الجزائرية أن تصرفات مالي تفيد المتشددين.
ونسبت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية إلى مسؤول جزائري قوله إن الحكومة الجزائرية "تدين وتندد بشدة بهذا التصرف غير الودي للحكومة المالية التي ضربت عرض الحائط بالاتفاقية الثنائية للتعاون القضائي الموقعة بين البلدين والتي تم بموجبها في سبتمبر 2009 صياغة طلب تسليم الرعيتين الجزائريتين المطلوبتين من قبل العدالة الجزائرية لتورطهما في أعمال إرهابية و تكرير الطلب في فبراير 2010".
كما حملت الحكومة الجزائرية فرنسا مسؤولية تشجيع الإرهاب بالمنطقة وإثارة شهيته ومعه عصابات التهريب والسلاح والجريمة المنظمة، ومضاعفة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي لعمليات اختطاف الأجانب ورفع سقف المبالغ المالية التي تشترطها نظير تحرير الرهائن، وأنها تفاوضت مباشرة مع إرهابيين حقيقيين ودفعت لهم أموالا طائلة، وأقحمت مالي معها، بإرغامها أو إغرائها أو شراء ذمتها للإفراج عن إرهابيين مطلوبين أمنيا وقضائيا من طرف الجزائر.
ولذلك تعتبر الجزائر أن ما قامت به فرنسا لا يغتفر أمنيا ولا دبلوماسيا، لأنه يدخل ضمن خانة صناعة ودعم الإرهاب، ويعتبر سياسيون أن الحملة الجزائرية تدخل في إطار حرب باردة على فرنسا بعد اعتبار الأخيرة أن الجزائر دولة مصدرة للإرهاب، وفرضت على المواطنين الجزائريين التفتيش الاستثنائي بمطاراتها وهو الإجراء ذاته الذي اعتمدته الولايات المتحدة الأمريكية في حق الرعايا الجزائريين الراغبين في زيارتها.
ورأى عدد من المتتبعين أن في اقتناع مالي بإشارات باريس، والاستجابة لمطالب الخاطفين يعد انهيارا في التنسيقية التي عملت الجزائر على تأسيسها لقطع الطريق على إنشاء الولايا المتحدة الأمريكية القاعدة العسكرية (أفريكوم) لمراقبة الصحراء الإفريقية الكبرى. ومن جهة ثانية فلأن الجزائر توجد علاقاتها الدبلوماسية في توتر مع فرنسا لأسباب عديدة منها الدعم الفرنسي لمبادرة المغرب في منح الأقاليم الصحراوية حكما ذاتيا.
وقالت روزا بلفور محللة بمركز دراسات السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي: "إن الجزائر ترفض التدخل في شؤونها الداخلية، لاسيما عندما يطلب منها القيام بإصلاحات ذات صلة بحقوق الإنسان والديمقراطية وبإعادة هيكلة بعض القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية، بل وترفض بشدة التعاون معنا في إطار الشراكة بخصوص بعض القطاعات، وهو رفض غير مفهوم في كثير من الحالات".
وفي ظل الأحداث الأخيرة التي شهدتها منطقة الصحراء الإفريقية، أكدت الجزائر على لسان مسؤوليها، بينهم أويحيى ومدلسي ومساهل، بأن الإرهاب لا يمكنه أن يكون مبرّرا للتدخل الأجنبي بالمنطقة، كما لا يمكن تحقيق التنمية بمنطقة الساحل والصحراء في غياب الأمن، وأنه من أجل تحقيق الديمقراطية والتنمية تبقى القضايا الأمنية تحظى بالأولوية لأن الأمرين متلازمان.
Elfathifattah@yahoo.fr
التعليقات (0)