مقولة "إن لبنان طائر لا يطير إلا بجناحَيه المسلم والمسيحي" ليست شِعرًا، وإذا كان البعض يعتبرها كذلك فهي عندنا حقيقة مثبتة بالتواريخ والوقائع.
لن نعود أكثر من نصف قرن الى الخلف، فخلال تلك الحقبة من تاريخ لبنان كان مناخ الرأي العام السُنّي يتأثر بكل موجة سياسية تضرب محيطه العربي فكل من ادعى الزواج بأمّهم جعله كثيرون عمَّهم، من "عبد الناصر" والقومية العربية الى الوحدة، الى "أبي عمار" ومنظمة التحرير التي استباحت لبنان، الى مرحلة الاحتلال السوري والوصاية الأسدية... كلها مراحل كان فيها لبنان ثانيًا وثالثًا وربما خارج الاعتبارات. ولا نُغفل مرحلة ما عُرف بالـ"مارونية السياسية" بما لها وعليها من سياسات، ثم الحرب الأهلية التي تغّذت على تراكم موجات المحيط الفاسدة وتلك الخلفيات مجتمعة التي زرعت الشقاق وعدّدت الانتماءات.
في فترة الاحتلال السوري بلغ الشرود السني مداه، تمرّد المفتي "حسن خالد" في البداية فتمت تصفيته ليخلفه مفتٍ سيّئ الذكر، مجَّد الوصاية ورسّخها جاعلاً عبارات الخزي كـ"الشقيقة سوريا" و"وحدة المسار والمصير" و"الوجود السوري الضروري والشرعي والمؤقت" من أدبيات "دار الفتوى" وأركانًا لازمة في خطب الجمعة... كل ذلك في إطار سياسة التخويف من الشريك المسيحي المضطهَد وردًا على مواقف "بكركي" السيادية الوطنية التي كانت سبّاقة في رفض الاحتلال السوري ومطالبته بالانسحاب؛ دور استقلالي تجلى بأبهى حلله في بيان المطارنة الموارنة التاريخي في 20/9/2000 وما تبعه من قيادة الكنيسة ورعايتها معارضة مسيحية وطنية عبر لقاء "قرنة شهوان" شكّلت الفتيل الحقيقي لانتفاضة استقلالية أشعلتها شرارة اغتيال الرئيس "رفيق الحريري" بعد تمرّده على سياسة الوصاية؛ فكان 14/2/2005 اليوم التاريخي الذي التقطت فيه اليد المسلمة اليد المسيحية الممدودة إليها منذ أكثر من 30 سنة تحت شعار الرئيس "بشير الجميل" "لبنان أولاً"، عندها التقى الجناحان ورفرفا فحلّق لبنان، تحققت "المعجزات" فكانت الثورة المليونية في 14آذار2005 وتبعها اندحار الاحتلال السوري في 26نيسان. تلك أيام عابقة بنسيم الحرية والسيادة والاستقلال عشناها وتنشقنا عبيرها في ساحة الحرية في فترة مقاومة استقلالية مكلِفة لكن مشرِّفة، فماذا عن واقعنا اليوم؟
بعد 10 سنوات على آذار المجيد، وضعُ لبنان مأسوي ومُبكٍ. سياسة الرئيس "سعد الحريري" الانهزامية والتبعية: 1)أفسدَت على اللبنانيين انتفاضتهم الاستقلالية. 2)أخرجَت الشارع السني عمليًا ومجدّدًا من "لبنان أولاً" الى "السعودية أولاً" المسؤولة عن كل انقلابات الحريري الفجائية وتنازلاته القاتلة لثورة الأرز. 3)هيمنَت على قرار الأمانة العامة لـ14آذار. 4)همّشت الجناح المسيحي الاستقلالي وأخذته أحيانًا نحو انبطاحيتها مبهرة إياه بكذبة "لبنان أولاً"، و"الاعتدال" المزيّف، و"الاستقرار" المرادف للركوع بذل واستسلام. 5)فرّقت الجناحَين المسلم والمسيحي مجدَّدًا بتقديمها المصالح الخارجية على الوحدة الوطنية. 6)دفعت بعض الشباب السنّي الى التطرّف كبديل وردّ فعل مرفوضَين لكن مفهومان في علمَي النفس والاجتماع نتيجة لانبطاح من ادعى واحتكر تمثيلهم فخذل بيئته وغطى الاحتلال وأمعن في انحلال يسميه اعتدال. 7)راهنت رهانًا غبيًا سخيفًا جبانًا على "نبيه بري" ونبذت الشيعة الأحرار. 8)شرّعت الأبواب أمام الاحتلال الإيراني ورسّخته عبر تنازلاتها القاتلة ليكمل مشروعه الإرهابي في نهش لبنان وتهديد الصيغة والكيان.
بدورها بكركي "الراعي" منسلخة تمامًا عن دورها الاستقلالي وثوابتها الوطنية والتاريخية التي جسّدها البطريرك "صفير"، ومن جهتها "دار الفتوى" واقعة بالكامل في القبضة "الحريرية". في المقابل "القوات اللبنانية" تجسّد اليوم بجدارة نبض ثورة الأرز الأخير نظرًا لانسجامها مع مبادئها وتعارُض قراراتها الاستقلالية بنسبة 99% مع قرارات الحريري الانبطاحية منذ عام 2005، لتكون المحصّلة التراكمية منطقية وعادلة: القوات في المعارضة المشرِّفة، أما "تيار المستقبل" ففي الموالاة يلعب دور الصحوات القذر لصالح الحزب الإرهابي ويرعى الاحتلال مستغبيًا الجميع بشعار "الاعتدال"، وآخر الأباطيل والتفاهات مكافحة الإرهاب عبر الاستعانة بالإرهاب!
حقيقة مرّة، 14آذار اليوم مجرّد شعار مفرّغ من أي مضمون، لا أفعالَ لها بل ردّات فعل نارية مع توديع كل شهيد لا تلبث أن تحولّها السياسة الحريرية الى دخان ورماد، دماء شهداء زكية وغزيرة لكن مهدورة ومراقة على أعتاب خضوع مذل لمدمني الإرهاب، مشروع يرفع شعار الدولة غير أنه فاقد للخطة والإدارة وآلية التنفيذ، جناحان مسلم ومسيحي تارة مفترقان وطورًا مختزلان بسَاسة التبعية والانهزام. فلا نسألنَّ بعد ذلك لماذا هو متمكّن ومتمادٍ بغطرسته ووقاحته واستكباره ذاك الاحتلال الفارسي، ولا لماذا هو بائس وحزين ذلك الطائر مكسور الجناح المسمّى لبنان.
التعليقات (0)