ما حدث فى غزة منتصف حزيران 2007 وتداعياته ليس انقساما أو انقلابا أو حسما عسكريا , بل هو حريق أكل الأخضر واليابس مما تبقى من عفة وطهارة التراث النضالي الفلسطيني , حريق مزق البلاد وفرق العباد , وصنع جدارا من الكراهية والأحقاد , يهون عنه جدار الفصل العنصري الذي يطوق جيد الضفة الحزينة , والحصار الظالم الذي يضرب أطنابه فى كل مسامات القطاع البائس.
حريق متعاظم طال الكبير والصغير والرضيع فى السرير , غرز أنيابه السامة فى عظام المشهد السياسي وشرخ النسيج الاجتماعي , حريق سرطاني تمدد داخل العائلة الواحدة ونخر فى خلايا الأسرة الصغيرة !! وغرس بذور الشقاق والخصام بين الرفاق والأصحاب والجيران.
ولم يقف الحريق فى منتصف الطريق , بل اندفع بفعل قوة التكلس الذي شاب الجسم الفلسطيني الرسمي والفصائلى والنقابي والمدني , ليطال الأمن الشخصي والوظيفي للمواطن ذاته , فبات مرعوبا من مجرد الكلمة والهمسة , وتقزم واقع المطالب الشعبية الى درجة مهينة , ومخيفة فى ذات الوقت.
ودارت الكثير من جولات الحوار خلال السنوات الثلاث العجاف الماضية لرأب الصدع وإعادة اللحمة لشطري الوطن وإطفاء الحريق .. ولكن دون جدوى .. وتاه الناس فى التفاصيل , وكثر التخوين والتشكيك بين الإخوة المتناحرين على قيادة سفينة ما زالت فى قبضة القرصان!!.
لم يفشل الحوار بسبب الضغط الأمريكي أو التغول الايرانى - الموجودين بالفعل – ولكن السبب الأكبر والاهم للفشل يكمن من وجهة نظري فى كونه حوارا فوقيا راسيا بين قادة ومسئولين وأمناء عامين , يصيغون بنودا ويدونون أوراقا ويتقاتلون على حرفين هنا أو فاصلة هناك , بينما القواعد على الأرض متخاصمة متطاحنة يرى كل منها الآخر خائنا وأجيرا ولصا , بفعل عملية غسل الدماغ وزرع بذور الشقاق التي شابت مجتمعنا فى الخمسين شهرا الأخيرة.
ومن هنا كان الخطأ الأكبر لعملية الحوار الوطني برمتها - فى رأيي المتواضع – هو وضع العربة أمام الحصان والنزول بتتر النهاية فى أول الفيلم , حيث كان من الواجب أولا وضع خطة طريق لإطفاء الحريق , تبدأ بتذويب تدريجي لجليد الكراهية والخصام على الأرض , بين القواعد والكادر الحركي والمناصرين , من خلال عدة فعاليات حوارية وأنشطة مجتمعية مشتركة , وتعبئة جديدة ترتكز على حتمية وجود الآخر .. الشريك فى الوطن والإخفاق والانجاز , والشريك تحت القصف والنسف والغاز , ويجب أن تتضمن الخطة تواصلا عميقا مع العائلات الثكلى والمجروحة والمتضررة يرضيها ويجعل منها ترسا فاعلا فى عجلة دفع إعادة اللحمة ونبذ الفرقة .
إن مشروع تصالح متصاعد على الأرض بين الناس أولا هو الضمانة الأكيدة لنجاح مصالحة بين القادة , ومن دون ذلك لن تجدي ورقة مصرية ولا وساطة قطرية ولا حتى مبعوث من الجاهلية !!
ومن البديهي أن الشروع فى هذا الأمر يتطلب نية صادقة مخلصة وعزما لا يلين , لوأد الحريق المهين وردم الاخدود اللعين , والأمر سهل يسير لن يستغرق إلا شهور .. إذا تحرك العقل واستيقظ الضمير, فاتفاق مكة مازال صالحا كجامع مشترك لكافة ألوان الطيف السياسي الفلسطيني , وما علينا جميعا إلا الانطلاق الآن .. والآن تعنى أمس وليس غدا.
التعليقات (0)