توجه الرئيس الامريكي، حسين أوباما، الأسبوع الماضي، بخطابه الى العرب و المسلمين موزعا رسائله العديدة إلى القادة والشعوب على حد وسواء والتي اختلفت مضامينها باختلاف القضايا التي سُلطت الاضواء عليها على امتداد العالم حيث طبعت الثورات العربية مشهده السياسي.
خطاب "أوباما" هذا العام تزامن إذن مع دخول فصل الربيع السياسي إلى العالم العربي، عبر البوابة التونسية، وانبلاج شمس الحرية بعد تبديد سحب الديكتاتورية المكدرة من سماء تونس ومصر.
فمرحلة التغيير هذه فرضت على الرجل اختيار وانتقاء مفردات خطابه جيدا قبل أن يصيغ خطابه الموجه إلى ملايين العرب والمسلمين التي نُفيت ارادتها من القاموس السياسي وغُيبت مشاركتها في صنع القرار لعقود طويلة.
فلأول مرة في تاريخ العلاقات الدولية بين العرب و الولايات المتحدة، تجد هذه الاخيرة نفسها وهي تواجه الإرادة الشعبية التي أطاحت برؤوس حلفاء واتباع لها في تونس ومصر و قد تجسدت أولى مظاهرها في الاعلان عن قرارات تاريخية وسيادية! لعل من أهمها إعلان اتفاق المصالحة بين فصائل المقاومة برعاية مصرية وفتح معبر رفح الحدودي مع قطاع غزة أمام الفلسطينيين، هكذا ستكون ثمرة الكرامة هي أولى الثمرات التي أنضجتها شمس الحرية في حقل السياسة العربي الذي سممته القيادات العربية الخانعة طوال قيادتها المزمنة حيث جرعتنا ما لايطاق من كؤوس المهانة و حرمتنا حتى من تذوق حلاوة استقلال ناقص.
وقائع جديدة على الارض فرضت على العم سام أن يتحدث بلغة جديدة تنسجم مع مصالح الدول العربية، عبر التعبير عن ذلك بمصطلحات اقتصادية، حيث تعهد" أوباما" بدعم كل من تونس ومصر من خلال اقتراح جملة من الخطوات الملموسة بدءا من تقديم مساعدات عاجلة و ضمانات لدى الصندوق الدولي لتمكين الدولتين، المستقلتين حديثا عن احتلال غير شرعي للسلطة تجاوز العقدين، من الاستفادة من قروض لدعم عجلة اقتصادهما.
واذا كانت الولايات المتحدة تقدم منذ 1979، أي بعيد التوقيع على اتفاقية "كامب ديفيد" ، معونات لمصر بحوالي مليون دولار سنويا، أعظمها في القطاع العسكري، وجزء منها يستهدف برامج لدعم الديمقراطية، التي لم تحل مطلقا الا بعد انتفاضة الشارع المصري، مقابل انخراط الاخيرة في دعم وجود اسرائيل وشرعنته على أرض فلسطين من خلال رعايتها للمفاوضات العبثية وعرقلة أي اتفاق فلسطيني فلسطيني يسعى لتوحيد صفوف المقاومة وتعزيز وحدة الشعب الفلسطيني لمواجهة الغطرسة الاسرائيلية. فهاهي اليوم، وعلى لسان رئيسها، تغدق في سخائها عبر الاعلان عن نيتها دعوة الصندوق الدولي لتبني خطة لمساعدة تونس ومصر وحث الحكومات على تقديم المساعدة للبلدين وحذف مليار دولار من الديون الامريكية لدى مصر، أضف الى ذلك عزمها على تشجيع الاستثمارات و تحديد رؤية اقتصادية جديدة مع الدول العربية. لكن المثير للدهشة هو ان الرئيس تحدث ،ولأول مرة، عن وجود أموال مهربة، تعهد بسلوك السبل القانونية من أجل إعادتها الى منابعها، ما يفيد بان دولة "القيم الديمقراطية" كانت تتستر عن جرائم تهريب الاموال التي يعاقب عليها القانون.
لقد أعادت الثورة العربية المجيدة صياغة علاقة جديدة للدول العربية مع أقوى دولة في العالم، علاقة ينبغي تعزيز بنائِها على أسس من الاحترام المتبادل لتراعي مصالح شعوب المنطقة التي عانت من المعايير المزدوجة، ومنحت بالإضافة الى ذلك وزنا إضافيا إلى كفة المصالح العربية لتعيد بذلك التوازن إلى ميزان العلاقات الدولية المختل و الذي ما آنفك يميل، دون وجه حق، في اتجاه مصلحة امريكا وحليفها اسرائيل.
لقد ودع "أوباما" حلفاء الأمس في خطبة الوداع، دون أن ينبس ببنت شفة حول ما قدموه من تضحيات جسيمة على حساب مصلحة شعوبهم لخدمة المشروع الأمريكي في المنطقة، ودَعهم بلسان البراغماتية الامريكية حيث لم يطاوع العقل السياسي الامريكي ، الذي لا يستوعب إلا لغة المصالح، قلبا مفعما بالحسرة والندم على أفول مرحلة تاريخية كانت تشكل مصر فيها مجرد حديقة خلفية للبيت الابيض و رقما ايجابيا للأمريكيين في معادلة الهيمنة التي كلفت الأمة العربية ثمنا باهضا من كرامتها ووحدتها.
أصبح الامريكيون يواجهون واقعا جديدا ووضعا جديدا في الشرق الاوسط، حيث انتصر صوت الحرية على أزيز الرصاص الذي فشل في قتل روح الثورة التي اعادت الحياة والكرامة للجسد العربي المثخن بجروح القمع والاستبداد.
صحيح أن الرئيس الامريكي تحدث بشكل بليغ ومؤثر عن أسماء صنعت التغيير ك"روزا بارك" ومحمد البوعزيزي، و افرط في الكلام عن القيم الديمقراطية وعبر عن دعمه الكامل للدول التي حصدتها، كما ذهب الى أبعد من ذلك و دعا الرئيس السوري الى قيادة الاصلاح أو التنحي وطالب القيادة البحرينية بفتح حوار مع المعارضة.. إلا أنه عجز عن تَذكر القيم نفسها وهو يتحدث عن قضية الشعب الفلسطيني، الذي يرزح تحت ظلم الاحتلال، إذ رسم صورة الضحية من جديد حول الكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين، وعبر عن دعمه لإسرائيل المحتلة والتزام أمريكا، بموجب القيم المشتركة معها ، بالدفاع عن أمنها.
خارطة طريق الامريكيين إلى حل كامل وشامل للنزاع الاسرائيلي الفلسطيني لم تعرف، اذن، أي تغيير يستحق الذكر، فالرئيس الامريكي تحول إلى ناطق جديد باسم اللوبي الصهيوني المدافع عن إسرائيل ونفوذها و حقها في الوجود ولم يفوت الفرصة دون ان يحذر الفلسطينيين من مغبة اللجوء الى الجمعية العامة للأمم المتحدة لا علان دولتهم المستقلة كون هذه الخطوة لن تؤدي في نهاية المطاف الى قيامها، على حد تعبيره، وتناسى أن الولايات المتحدة كانت وراء إصدار القرار الذي تبنته الجمعية العامة، التي أراد الفلسطينيون قَصدها بدورهم، و الذي قضى بالاعتراف بإسرائيل كدولة مستقلة على أرض فلسطين التاريخية.
الملامح الجديدة التي طرأت على وجه الادارة الامريكية لن تنفع في خداع عرب الثورات عبر خطاب منمق و مفعم بالبلاغة، والذي أراد "اوباما" من خلال خطابه الاخير خطب ود العرب وطلب يدهم لربط علاقة جديدة، بعد طلاقهم النهائي من حكام طغاة، وفق عقد غير شرعي تستبيح بنوده أرض فلسطين، المقدسة لدى المسلمين و المسيحيين و المدنسة على يد الإسرائيليين.
على أوباما أن يفهم أن الزمن الذي كان يوزع الامريكيون فيه أوامرهم على القادة العرب قد ولى إلى غير رجعة وعليه أن يودع هذه السياسة التي لم تعد صالحة في بلاد بدأ الربيع يجتاح مدنها بيت بيت، شبر شبر، "زنكة زنكة".
التعليقات (0)