خطبة الصادق .. دعوةٌ لربيع أم رفعٌ للعتب؟
الحلقة (2)
ملامح الفجر الجديد
ملخص الحلقة الأولى:
بعنوان (الخطل الشامل) تطرقت هذه الرؤية التحليلية لخطبة السيد الصادق المهدي في عيد الفطر الجاري 30/8/2011م إلى مقولة "خطل التطبيق الإسلامي عن طريق احتلال المجتمع بالانقلاب العسكري" التي جاءت توصف الطريقة التي وصل بها الأخوان المسلمين إلى قمة هرم السلطة في السودان بعد إنقلاب عسكري بقيادة العميد عمر البشير. وقد خلصت الرؤية إلى أن الخطل الذي أشار إليه الصادق كان شاملا وتورطت فيه كافة الأحزاب الديمقراطية السودانية منذ الإستقلال. بل وجعلت منه سنة مركدة على مدار تلك السنوات الماضية.
على أية حال فإن من العيب الزعم بأن خطبة الصادق المهدي قد خلت من الجديد والمقنع . أو أنها لا تحتوي بين دفتيها على ملامح فجر جديد هنا وهناك ... فهي وعلى ما يبدو قد جاءت على لسان الصادق بعد صيامه لرمضان ممطر ؛ وعلى وقع غلبة "الزبادي" و "الآبري" و"الحلومر" .. فجاء بعضها رائبٌ وبعضها لاذعٌ . وبعضها حلوٌ وبعضها مُـرْ.
في هذه الحلقة يتواصل التحليل والنقد بالوقوف عند قول الصادق:-
[إن عهد الاستيلاء على الحكم بالانقلاب وحكم الفرد وتحكم حزب في مؤسسات الدولة وتسخير الأمن والإعلام والاقتصاد له قد ولى ليخلفه فجر جديد معالمه المشتركة في كل الأوطان العربية والإسلامية، تتطلب:
1) فكراً يوفق بين التأصيل والتحديث.
2) نظاماً سياسياً يقوم على المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون.
3) ونظاماً اقتصادياً يحقق الكفاية والعدل ومستقبلا واعدا لشبابنا.
4) ونظاماً يقيم العلاقات البينية العربية، والأفريقية، والإسلامية على أساس وحدوي.
5) ويقيم العلاقات الدولية على الندية والمصالح المشتركة بلا تبعية.
هذه هي معالم الفجر الجديد الذي ننادي به لبلادنا ولسائر البلدان الشقيقة. إنها دعوة تقوم على معرفة الواجب والإحاطة بالواقع والتزاوج بينهما.
....... إنتهى إلى هنا بعض حديث الصادق المهدي
وواقع الأمر أن كل ما جاء في هذا المفصل من الخطبة المذكورة أعلاه نجده ليس بالجديد لجهة الطرح . ولكنه يكتسب أهمية وزخما أكبر حين يصدر من زعيم سياسي كاريزمي كالصادق المهدي .... ثم ولثقتنا في أن السيد الصادق المهدي رجل ديمقراطي مطبوع ؛ فلربما يكون في طرحه ذاك الكثير مما يستحق إجتراره ؛ لكنه يظل أستحقاق محكوماً بقوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح هذا إن صدق" ...... فالعبرة ليست بالأقوال بقدر ما يجب أن تصدقها الأفعال .......
في البند الأول طرح الصادق فكرة الأصالة والمعاصرة .
وواقع الحال أن مسألة الأصالة والمعاصرة هذه كان قد تم تلقينها من جانب التكنوقراط للدكتاتور العسكري السابق جعفر نميري في سبعينيات القرن الماضي ؛ فظل يرددها ردحا من الزمان دون أن يفهم مغزاها ربما ؛ ودون أن يضعها بالتالي نظامه الشمولي موضع التنفيذ .. ثم ورثها عنه نظام الإنقاذ دون أن يفلح حتى تاريخه في ترجمتها إلى واقع ملموس . والسبب بالطبع يعود إلى عدم خلق آليات فكرية وإدارات تنفيذية تتمكن من وضع الخطط والبرامج اللازمة للتأصيل إبتداء والتطبيق إنتهاء ... فالمسألة ليست محكومة بترديد ببغائي من طرف اللسان أو جوف الحلق بقدر ما تتطلب تغييرات جوهرية في طريقة تعامل الحكومة مع المواطن كخادمة له وليست حاكمة له . كما تتطلب تغييرات أخرى جوهرية في الخطاب الإعلامي الحكومي ، وفي مناهج التربية والتعليم وأسلوب التحصيل العلمي لجيل قادم يرث الحكم لا محالة من هذا الجيل البيروقراطي الأفندي السائد ؛ الذي إنتهت فترة صلاحيته الإفتراضية كمجدد أو قابل للتجديد أو حتى إعادة التنجيد ؛ ناهيك عن كونه يجهل مقومات عصر المعلوماتية ألفها وباءها وياءها لسبب أنها جاءت بعده .. وهو يعطيها الآن ظهره جاهلا متجاهلا لا يحتفي سوى بالتلفزيون والتلفون والفاكس والراديو .... والإنسان بطبيعته عدو ما يجهل..... بل ولنا في مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا أبلغ مثال على مدى الهوة التي كانت تفصل بين جيل الشباب وجيل الحكام من القادة وكبار المسئولين. سواء في جانب القناعات بدور الحاكم كمسئول عن إدارة مصالح الشعب وليس فرعونا يعبد ونصف إله كما كان ولا يزال يعتنق الكبار من مفاهيم . أو لجهة مواكبة الشفافية وقدرات الشباب على التحكم فيما يرغبون من أدوات التواصل والإطلاع والإتصال والحصول على المعلومة وتبادل الآراء فيما بينهم. بعيدا عن هيمنة الإعلام الحكومي وصفوف الدراسة السلحفائية ومقاعد المدرسة القاحلة ؛ والصحف اليومية "المضحكة" التي لم تعد تستخدم لدى هذا الجيل من الشباب المعاصر سوى للفرش والأكل عليها لا غير. .....
أضف إلى ذلك عامل خارجي آخر يساهم الآن بغموض خفي في إشعال هذه الثورة العربية ؛ ألا وهو ذلك المتعلق بإدارة صراع الحضارات والذي يستبعد مزاعم الصراع العربي الإسرائيلي كسبب وحيد لتنامي ظاهرة الإرهاب التي يصدرها العالمين العربي والإسلامي إلى بلدانهم ومجتمعاتهم الديمقراطية الحرة .... بل يرى الغرب أن من أهم أسباب تفشي ظاهرة الإرهاب إنما يكمن في غياب الديمقراطية لدى هذه البلدان والمجتمعات . وفساد الديكتاتوريات العربية والإسلامية وإنغماسها في محاليل التحنيط المزمن. وعدم إتاحة الفرص المتساوية للشباب للتعبير عن ذاته وإنسداد الأفق بالنسبة لهؤلاء ......
كل هذا وذاك كان سببا من الأسباب الرئيسية في إندلاع ونجاح الثورات الشبابية في تلك المجتمعات.
........
وفي معرض ما أورده الصادق المهدي من نقاط يقترحها كملامح لفجر سوداني جديد جاء في اليند الثاني مطالبته بـ:
2) نظاماً سياسياً يقوم على المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون.
ولاشك أن غياب هذه الجزئيات من الكل تعتبر من المخاطر الجادة التي تتهدد الإستقرار السياسي في السودان . إضافة إلى العديد من المشاكل السودانية الأخرى الخاصة به ؛ والتي وصلت إلى حد الروماتيزم وتقـوس العظام المزمن . وتتطلب جهدا صادقا أمينا في جانب الإدارة التنفيذية العامة لوضع الخطط موضع التنفيذ بعيدا عن شبهات الفساد المالي ، وتفشي ظاهرة الثراء الحرام من الوظيفة العامة التي استشرت كالنار في الهشيم وباتت هي المنهج الإداري الأصل في كافة جوانب العمل الحكومي. وطالت حتى الشركات المساهمة العامة بما يكتنفها من تنفيذ مشاريع حيوية ومنح قروض مالية حسب الواسطة والتوصية من جهات عليا أو منح قروض نظير عملات ومشاركة في الأرباح .. إلخ من طرق ووسائل سرقة المال العام.
ويشكو الناس من غياب فرص المشاركة . وأن المساءلة الإدارية والشرطية والأحكام القضائية لا تقوم على مبدأ سيادة حكم القانون. وإنما على درجة ومسافة القرب والإبتعاد عن مراكز القوى وإتخاذ القرار. وأن هناك من له ربٌ رحيم وهناك من له رَبٌ شديد العقاب في كافة المناشط والدوائر الحكومية بلا إستثناء.
إن الإحساس بالظلم مرير ؛ وهو مدخل سهل للتحريض والتجنيد وكسب التعاطف والتجييش والتهييج ضد الحكومة إن أفلح في إستغلاله الحانقون والمغيبون والموتورون باللجوء إلى أدوات العصر في الإتصال والتواصل مثل الفيس بوك وتويتر. والمواقع الألكترونية والمنتديات والمدونات بوجه عام ؛ حيث ملتقى الجيل الحالي من الشباب المتعلم ؛ الذي هو في حقيقة الأمر الوقود الحيوي الطبيعي لأي ثورة شعبية .. ولا يحتاج الأمر لدليل وواقع فمجريات الثورات العربية في ربيعها الجاري تؤكد ذلك بكل وضوح وجلاء.
ثم تأتي معضلة العطالة التي يعاني منها الشباب على مختلف أعمارهم ومستوياتهم التعليمية . وفي الوقت الذي يبحث فيه البعض عن حلول ممكنة نرى أن هناك تضاربا وعدم تنسيق بين الوزارات والمؤسسات والإدارات الحكومية يستلزمه تدخل مباشر من جانب أعلى مستويات هرم السلطة التنفيذية القائمة ، على أن لا يكون هذا التدخل قاصرا على وعود تتخلل خطباً رنانة وإنما التوجيه بفتح مجال العمل لهؤلاء الشباب عبر طرح مغريات ومشهيات تفضيلية . منها على سبيل المثال إعفاءات ضريبية بشرائح متفاوتة لكل شركة توظف عددا من العاطلين الشباب. أو فتح باب العمل التجاري لهؤلاء الشباب الخريجين مع تبسيط إجراءات منح التراخيص التجارية لهم . ومنحهم إعفاءات تطال رسوم إستخراج وتجديد الرخص التجارية لخمس سنوات مثلا ؛ وإعفاءات ضريبية كاملة لمدد مختلفة . وتخصيص مساحات مجانية أو شبه مجانية من الأراضي الجديدة وداخل ساحات الأسواق تكفي وتصلح لتمكينهم من عرض سلعهم وبيعها بأسعار مغرية للجمهور مما يساعد على رواج وإنتعاش أرباحهم .... وهكذا وإلى غير ذلك من وسائل وأساليب هي ابسط ما تكون علاجا واقعيا لمشكلة قد يكون في غض الطرف عنها الهول الكبير غدا أو عما قريب.
وهو ما ينقلنا مباشرة إلى البند الثالث من خطبة الصادق المهدي في جانب ملامح الفجر الجديد التي يقترحها. وقد جاء فيه:
3) ونظاماً اقتصادياً يحقق الكفاية والعدل ومستقبلا واعدا لشبابنا.
ويظل المطلوب دائما طرح خطط وبرامج واقعية بالإمكان تطبيقها على نحو ميسور وفق إمكانيات الدولة وما تمتلكه من قدرات وسلطات.
بعد ذلك طرح الصادق المهدي في خطبته الأولى البندين الرابع والخامس أدناه من مقترحاته المتعلقة بملامح الفجر السوداني الجديد:
4) نظاماً يقيم العلاقات البينية العربية، والأفريقية، والإسلامية على أساس وحدوي.
وتأسيسا على أن مصطلح "الوحدة" عربية كانت أو أفريقية قد باتت مثيرة للضحك في هذا لزمان ؛ فإنني أتجاوز قوله متعمدا وأحسبه كأنّـه يشير جدلاً إلى مشكلة المجتمع السوداني الذي تمزقه تجاذبات العروبة والزنوجة والديانة ..... وهذه أطروحات تظل جدلية لا ينتهي النقاش حولها على متى التطور الإجتماعي والثقافي للفرد السوداني. لكن من الأفضل الوصول إلى صيغة عامة أو إطار عام متفق عليه بشأن التفاهم حولها وذلك نسبة لما بتنا نقرأه ونسمع به الآن في مواقع الشبكة العنكبوتية من مقالات ومقولات فردية غير مؤطرة ، مما يحول ودون الأخذ بها على محمل الجد وإعتبارها مجرد نزق وردود أفعال شخصية إنطباعية لا غير.
......
خامسا وضمن خطبته الأولى يتمنى الصادق المهدي نظام سياسي يقيم العلاقات الدولية على الندية والمصالح المشتركة بلا تبعية.
وهذه تظل أمنيات ممكنة التحقق بسهولة إذا توافر شرط واحد هو تماسك الجبهة الداخلية . وهو ما نعاني من غيابه منذ عام 1954م ولا نزال.... وستظل النزاعات الداخلية المسلحة بوجه خاص هي المدخل الذي يطل منه كل طامع في ثروات البلاد . أو مستسهل لتجيير القرار الحكومي لأجل منفعته هو....... وإزاء ما نحن فيه من حال فقد قضمت منا مصر حلايب وتعلن الآن بكل وضوح وجرأة خططا لشق ما يسمى بقناة العتمور التي ترى فيها مصلحتها هي دون إعتبار لما ستسببه حتما من خسائر وخراب للسودان .... والمستغرب أنها تطرح هذه الفكرة دون أن تكلف نفسها عناء إستئذاننا أو توقع رفضنا. وكانت من قبل قد إستغلت تورط حكومة إبراهيم عبود في حرب الجنوب ؛ فكان التجديد لإتفاقية مياه النيل الجائرة وإغراق وادي حلفا دون الحصول حتى تاريخه على ما وعدونا به واتفقنا معهم عليه من ربط كهربائي وإقامة شركات صيد أسماك مشتركة في بحيرة ناصر وإستصلاح أراضي يتم تمليكها للمواطن السوداني .... إلخ.
وفي الجانب الشرقي على سبيل المثال لم نعد نعرف حدودنا من الحدود الأثيوبية. وفي الغرب يعلم الله المدى الذي يتدخل فيه إدريس دبي بالشأن الدارفوري لمصلحة قبيلته الزغاوة . والحمد لله برغم كل هذا على الثورة الليبية التي أراحتنا من القذافي فكانت رمية من غير رامي... وربما لو كنا نتمتع بالحد الأدنى من تماسك الجبهة الداخلية لما كان تورطنا في إتفاقية سلام نيفاشا على الوجه الذي شوّهَ وجه وجسد أبيي ؛ وجعل من النيل الأزرق وجبال النوبة دولتان مشاكستان داخل دولة . وتتمتعان بجيوش عصابات يربوا تعداد كل واحد منها على العشرين ألف ...
يتبع حلقة (3) إنشاء الله
التعليقات (0)