خطبة الصادق .. دعوة لربيع أم رفع للعتب؟
حلقة (4/4)
النـظـام السوداني الجديــد
في معرض رصد الصادق المهدي لمواقف وإخفاقات النظام القائم فإنه يرى هذه الإخفاقات في الآتي :
1) أخفق في تحقيق مقاصده في أقامة نظامً إسلاميً مجدي.
2) لم يحافظ على وحدة السودان، ولم يحقق السلام.
3) يواجه الآن تأزماً اقتصادياً كاسحاً وعزلة دولية شاملة.
والحل وفق ما يراه الصادق يكمن في الآتي:
1) لا مفر من تخلي قادة النظام القائم عن نظم وسياسات فاشلة.
2) أن يقدم هؤلاء القادة على إقامة نظام جديد تجاوبا مع التطلعات الشعبية ومواكبة للفجر الجديد الذي تتطلع إليه الشعوب العربية.
وخلاصة الفجر الجديد كما يراه الصادق هي:
1) لا لحكم الفرد.
2) لا لدولة الحزب.
3) لا لإعلام طبّـال.
4) لا لأمن جلاّد.
5) لا لاقتصاد المحاباة والفساد.
وفي البداية يهمنا الإعتراف بأنه لم يوجد ولن يكون هناك نظام سوداني حاكم يتنازل طوعا هكذا وبكل ممنونية عن الحكم . سواء أكان هذا النظام عسكريا وشموليا أو ديمقراطيا ليبراليا ... وفي هذا السياق نرصد أن الأنظمة العسكرية والشمولية لم تزول إلا جراء ثورات شعبية .. وأن الأنظمة الديمقراطية لم تجهض مسيرتها إلا بواسطة إنقلابات عسكرية .... هذا هو الواقع الذي يعكسه تاريخ السودان بعد الإستقلال ولا يزال.
ثم طرح الصادق المهدي ثمان نقاط لما يرى أنها ضرورة لنظام سوداني جديد .....
أعمدة النظام السوداني الجديد الثمانية ؛ أو النقاط الثمان (أو سمها كما شئت) التي طرحها الصادق المهدي كأجندة وطنية على بساط البحث كانت كالتالي:
1) دستور جديد لسودان عريض.
2) علاقة توأمة خاصة مع دولة جنوب السودان. فدولتا السودان يمكن أن يدعما بعضهما بالوعي أو يقوضا بعضهما بالجهل.
3) حل قومي لأزمة دارفور بموجب إعلان المبادئ العشرة.
4) حل فوري لمناطق التأزم الثلاث: جنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق، وأبيي.
5) إجراء إصلاح اقتصادي جذري.
6) كفالة الحريات العامة.
7) التعامل الواقعي مع المحكمة الجنائية الدولية بما يوفق بين العدالة والاستقرار.
8) إقامة حكم قومي يحرر أجهزة الدولة من هيمنة الحزب، وإعادة هيكلة أجهزة الدولة من الرئاسة إلى آخرها لكفالة قوميتها.
ووفق ما يرى كل مواطن حادب على مصلحة بلاده . فإن السودان سظل بالفعل في حاجة إلى جلوس أبنائه للبحث والإتفاق والموافقة على دستور دائم يلبي طموحات الكافة من مواطنيه وجهاته الأربعة ... ولاضير من الإشارة هنا إلى أن السودان ومنذ إستقلاله عام 1956م لم يفلح في وضع دستور دائم لنفسه متوافق عليه حتى الآن ؛ بل كان يخضع لما عرف بالدستور المؤقت الذي وضع عشية الإستقلال ؛ وهو الذي لا ننفـك نعود للعمل به كلما نجحت ثورة شعبية في إبعاد العسكر والأنظمة الشمولية عن الحكم ..... وقد قام تكنوقراط نظام مايو الشمولي برئاسة جعفر نميري بتفصيل دستور للبلاد على مقاس جعفر نميري ومزاجه الشخصي وعلى قدر إتحاده الإشتراكي سيء السمعة. فجاء ذاك الدستور يمسمى دستور السودان الدائم مسخرة المساخر؛ خاصة بعد أن حاول نظام مايو تثبيت أركانه المائلة بإستفتاء صوري مزور على طريقة حسني مبارك ؛ وسرعان ما تم إلغاء العمل بهذا الدستور المضحك عقب نجاح إنتفاضة أبريل 1985م .....
على أية حال يمكننا القول بكل موضوعية أنه لن يكون هناك دستور دائم للبلاد لم تشارك في وضعه كافة الفعاليات ، ولم يتم الإتفاق والتوافق عليه بشفافية أو الإستفتاء عليه بحرية ونزاهة .... وسيظل كل نظام شمولي أو ديمقراطي ليبرالي يحكم البلاد وفقا لدستوره هو إلى أن يزول ويأتي آخر مكانه ؛ بغض النظر عن المسمى الذي يطلقه هذا النظام القائم على دستوره علمانيا كان أو إسلاميا...... لا يمكن منح الشرعية لدستور موضوع أو سماوي من جانب فئة دون موافقة أغلبية الفئات الأخرى عليه .... كل الساسة وغير الساسة يعلمون ذلك ولكنهم قوم يعتدون ويتجاهلون عندما يتربعون على كراسي الحكم ومراكز السلطة وإتخاذ القرار.
والعماد الثاني الذي يعتقد به الصادق المهدي هو : علاقة توأمة خاصة مع دولة جنوب السودان. فدولتا السودان (على حد قوله) يمكن أن يدعما بعضهما بالوعي أو يقوضا بعضهما بالجهل.
ونرى أنه كان على الصادق المهدي أن يكون أكثر واقعية هنا. ويحرص على إنتقاء توصيفاته بدقة السياسي المحنك .. فمسألة "علاقة توأمة" خاصة مع دولة الجنوب هنا يقابلها في مكان آخر من خطبته وصفه لدولة جنوب اليسودان بعد الإنفصال بأنها غالبا دولة "عدائية".
الصادق المهدي إذن يناقض نفسه دون أن يدري .... وهذا هو ديدن كل حكام وساسة الشمال عندما يتعلق الأمر بالتنظير أو الجانب العملي التطبيقي تجاه الجنوب والجنوبيين ..... وهو ما يعزز واقع أننا غريبون على الجنوبيين وهم غرباء علينا من الألف إلى الياء .... ولا أريد أن أطيل في هذا الجانب كثيرا ، فقد قلت فيه مالم يقله مالك في الخمر من خلال سلسلة "أدبيات الإنفصال" .... ولكن أرجو من الصادق وغير الصادق وأقول لهم كفاكم وكفانا إزدواجية في نظرتنا وتعاملنا مع هؤلاء البشر ....
علاقة جمهورية السودان مع دولة جنوب السودان لا يمكن أن نرجو لها سوى أن تكون علاقة جوار حسن مثل ما كانت علاقتنا مع يوغندا والكونغو وكينيا وأفريقيا الوسطى وهلم جرا .... ولن تستقيم الأمور بيننا لدينا ولديهم حتى نكون كلانا على قناعة بقوله عز وجل "لكم دينكم ولي دين" ... هذا هو الطرح والحل الواقعي بلا ديماجوجية أو قفز بالزانة فوق الحقائق الثابتة داخل أعماق الصدور وعلى الأرض...... عن أية توأمة يتحدث الصادق وقد فشلنا كلانا حتى في تحقيق قبول مبدأ المواطنة والمشاركة؟
البنود (3) ، (4) ، (5) ، (6) من النظام السوداني الجديد القائم على ثمانية (وفق ما يرى الصادق) لا خلاف ولا غبار عليها بين كافة القوى والفعاليات السياسية بمن فيهم النظام الساري الحاكم . وكذلك الفكرية وأصحاب الرأي وحملة الأقلام الوطنية الحرة .. ولكن ربما يختلف البعض من هؤلاء وأولئك في الأولويات وأسلوب الحلول والقواعد وشكل البناء .
مقر محكمة الجنايات الدولية في لاهاي
نأتي إذن للبند السابع الذي بات معضلة حقيقية للنظام الحاكم وهو مسألة قرار محكمة الجنايات الدولية. وحيث يقول الصادق المهدي في هذا المجال: [علينا التعامل الواقعي مع المحكمة الجنائية الدولية بما يوفق بين العدالة والاستقرار].
وهنا نرى إنحرافا في نوايا وأقوال الصادق المهدي عن تلك التي صرح بها لبعض أجهزة الإعلام العالمية خلال حملته "الصورية المؤقتة" لخوض غمار إنتخابات رئاسة الجمهورية الماضية .... وبدلا من رفض القرار والزعم بعدم تسليم الرئيس عمر البشير للمحكمة في حالة إنتخابه – إنتخاب الصادق المهدي - نراه هنا وبكل صراحة الساسة يشير إلى عكس ذلك تماما .... يشير إلى عكس ما كان قد صرح به آنفا لأنه يعلم تمام العلم النافي للجهالة أن التعامل الواقعي مع المحكمة الجنائية الدولية بما يوفق بين العدالة والإستقرار يعني في التفاصيل وعلى نحو آلى فبوله لمثول الرئيس عمر البشير أمام هذه المحكمة .
مسألة مثول الرئيس عمر البشير أمام المحكمة الجنائية وهو على رأس منصبه الرسمي ؛ تظل نقطة خلافية جوهرية بين كافة الفعاليات الوطنية السودانية ؛ وكذلك القومية والعربية والعالمية الإسلامية. فهذه المحكمة لا شرعية قانونية لها كونها مسيسة ومجيرة لخدمة أجندة الدول الغربية والولايات المتحدة. وأن الذين يؤيدون مثول البشير أمامها في الداخل السوداني إنما هم من المعارضة التقليدية أولا . ثم تلك العنصرية والجهوية الجديدة الطامحة لإضعاف قوة المركز تمهيدا للقفز المسلح على السلطة وتخريب المعبد على رؤوس الجميع. وأما الغالبية العظمى من الشعب السوداني الغير مسيسة ولا تحكمها سوى أجندتها الوطنية الخالصة لوجه السودان العظيم فإنها ترفض ذلك.
والشعب السوداني قد خبر المعارضة السياسية أيا كانت . ويعرف كيف تفكر وكيف تعمل. وأنه لا هم لها سوى تقويض النظام القائم .. أي نظام قائم والسلام - على أمل القفز بدلا عنه إلى كراسي الحكم والحصول على القدر الأكبر من كيكة الثروة . ولقد خبرناها مرارا .. غداً إذا جاء الصادق سيفرغ الناس لسب الصادق والتمنى على زوال حكومته .. وبعد غد إذا جاء الختمية تفرغ الناس لسب الختمية والتمني على زوال حكومتهم ... وبعد بعده لو جاء المسيح المنتظر بدمه وشحمه وعظمه ولحمه يملأ الأرض عدلاً بعد جور ، لتفرغ الناس لسب المسيح المنتظر والتمني على الله والدعاء مخلصين له الدين حنفاء لزوال حكومته.... حكومة المسيح المنتظر.
والسبب معروف بسيط حبذا لو نعترف به في قرارة أنفسنا وأمام بعضنا البعض ؛ وهو أننا شعب متعدد الإنتماءات العرقية الضيقة ؛ تسيطر علينا وتحكمنا وتتحكم بنا توجهات عنصرية عميقة مُفتِتة . وإنتماءات جهوية شتى تفرقنا فلا يجمعنا سوى سباب بعضنا ؛ ولا نكاد ننعم بالحد الأدنى من اللحمة والوحدة الوطنية ... نحمل فوق ظهورنا إرثاً ثقيلا من الإستخفاف ببعضنا والأحقاد الدفينة على بعضنا بسبب اللون والعرق والرق والإستعباد لبعضنا في الماضي القريب .. ولن ينجينا من كل هذا إلا عبقري منتظر يفلح في إبتداع طريقة توفق بين كيميائياتنا المتنافرة.
...... وفي الختام وكإجابة على سؤال طرحناه في عنوان هذه الحلقات عما إذا كانت خطبة الصادق دعوة لربيع أم رفع للعتب؟.. نستطيع الإجابة على قدر من الظن المؤكد أن الصادق يرغب جـادا في ربـيـع سوداني ... ولكنه ربيــع على مقاس وتفصيل جلباب جنـاح أم جـكـو ليس أكثر من ذلك لاسيما وأنه يختم بقوله :
هذه هي الأجندة الوطنية التي نحاور بها كافة الأطراف ونرجو أن تكون بديلا لنظام فاشل وأن تكون وقاية من نظم تقيمها مغامرات غير محسوبة العواقب.
والمغامرات غير محسوبة العواقب هنا إنما يعني بها تلك المخاوف بقـفـز قوى عنصرية جهوية مسلحة على مقاعد السلطة. وتحويل العاصمة والمدن والبلدات والقرى إلى ساحات حرب أهليه حقيقية.
لقد إعتاد الصادق المهدي إذن واعتادت معه الأحزاب الديمقراطية والطائفية التقليدية أن يهب الشعب في إنتفاضة جماهيرية تخلع نظام الحكم القائم ثم يلتفت الثوار بمنة ويسار بغتة ؛ فلا يجدون مناصا من دعوة الصادق للقيادة وإعادة العمل بدستور السودان المؤقت .... وتظل الساقية تدور حتى يرث الحكم جنرال آخر يرعاية تجمّع أو حزب آخر.
ولا نقول في الختام سوى .. لك الله يا وطـــن لم يفلح مواطنوك رغم إتساعك في التعايش السلمي المنتج.
(النهاية)
التعليقات (0)