خطبة الصادق .. دعوةٌ لربيع أم رفعٌ للعتب؟
حلقة (3)
أزمــات "الحكومة" الـســـت
في الخطبة الثانية تطرق الصادق المهدي لعدة نقاط لخص فيها الأزمات التي يرى أنها تحاصر نظام الحكم الحالي في البلاد ة وحاول تقديم الحل.
الأزمات الست التي تحدث عنها الصادق كانت عناوينها :
1) التطبيق الفوقي للإسلام. وإستنصار غير المسلمين بالخارج.
وتعليقا على هذه الأزمة . لا يختلف إثنان أن هناك مشكلة لم تعد خافية على أحد بشأن التطبيق الفوقي للإسلام . والمشكلة تكمن أساسا وفق قوله صلى الله عليه وسلم : "ما شاد الدين أحد إلا غلبه" .... وقوله عز وجل :( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُون) ..... إنها مشكلة المفارقة بين الأقوال والأفعال عندما يكون الإنسان خارج السلطة ثم عندما يكون على رأسها. .... كان من السهل على البعض قديما أن يكيل اللوم إلى الحكومات الديمقراطية والشمولية والعسكرية السابقة ووصفها بأنها لا تطبق شريعة الإسلام .... إستمع الناس لمقولة هؤلاء ثم إنتظروا حتى وصل الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم (بغض النظر عن الأسلوب) ... كان الجميع يتوقع أن يلمس خلافة راشدة وجمهرة من أهل الصُفـّة وصحابة من فئة المؤمنين الذين بايعوا تحت الشجرة وأهل بدر وشهداء أحد .... ولكن خاب ظن الجمع حين لم يلمسوا واقعا وأفعال وممارسات على النحو الذي كان يبشر به قادة الحراك السياسي المنتادي بتطبيق الشريعة ؛ وعلى رأسهم البروفيسور المعمم حسن الترابي نفسه . فكانت ردود الأفعال أسوأ بكثير مما لو كان الناس قد لمسوها في غير الأخوان المسلمين من عامة الأحزاب السياسية الأخرى في السودان ؛ أولئك السياسيون الذين لم يزعموا في يوم من الأيام أنهم أشباه صحابة وأنهم سيطبقون الشريعة الإسلامية على أنفسهم قبل غيرهم...
كان الخطأ المميت أن البعض يظل يطالب الناس بالإستقامة وهو معووج . وأن يطالب الناس بالصدق وهو كاذب . وأن يطالب الناس بالعفة وهو فاسق . وأن يطالب الناس بالأمانة وهو سارق . وأن يطالب الناس بالزهد وهو عابد مخلص للمال وناشد للرفاهية بحذافيرها . يعب ويغرف كالمجنون من ملذات الدنيا ؛ ولايكاد يستفيق من الإستغراق في متعتها ومباهجها مقيما عليها عاكفا ليلا ً ونهارا.
وليتهم فعلوا ويفعلون ذلك وهم صامتون .. بل نراهم يتشدقون بمقولات ويستشهدون بكلمات حق في أسفل مواضع الضلال من قبيل "وأما بنعمة ربك فحدث" .... و "أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا" و "لا تنسى نصيبك من الدنيا" .... وربما لو علم هؤلاء الجهلة والمتسربلين الجدد بلباس الدين ...... لو علموا بالتفسير الصحيح الرصين المتفق عليه لمثل هذه الآيات الكريمة المحكمة والأحاديث النبوية الشريفة لما تشدقوا بها تبريرا لتصرفاتهم من جمع للمال بشتى الطرق والوسائل والإستغراق في الملذات "الحلال" بحسب زعمهم...... لأن هذه الآيات تصب جميعها في بذل العمل لأجل إكتساب أجر الآخرة والدرجات العلا في الجنان وليس ملذات الدنيا كما يتبادر للذهن من الوهلة الأولى .. فمثلا في قوله "ولا تنسى نصيبك من الدنيا" يعني أن تستغل نصيب عمرك في حياتك الدنيا للعمل بجد من أجل الآخرة من عبادة وكثرة صلاة وقيام ؛ وصيام فرض وتطوع وفعل خيرات . وليس أن يكون كل همك أن تطالع التلفزيون كالقط . وتأكل وتشرب وتركب وتنكح وتنام كالبهائم..... وفي تفسير هذه الآية قال مجاهد ، وابن زيد : [لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب ، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة].
ومشكلة هؤلاء أن الدين الإسلامي ليس كغيره من الكتب السماوية التي طالها التحريف والتبديل؛ وباتت لا يتم تفسيرها إلا من داخل الكنيس والكنيسة على حسب مصلحة ومزاج القساوسة والأحبار ...... الدين الإسلامي كتاب مفتوح وشامل وفي متناول المسلم وغير المسلم الآن . الحلال فيه واضح بيـّـن والحرام بـيـّن. ومنهج خاتم الأنبياء والمرسلين فيه واضح موثق بواقعية شفافية . وحياة أمهات المؤمنين وحياة صحابته وممارساتهم كذلك موثقة في كتب السيرة والتفسير ؛ ويعرفها القاصي والداني . بل وتعرف بائعات الشاي والبلدي قوله صلى الله عليه وسلم "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" ؛ ناهيك عما يعرفه خريجو الخلاوي فضلا عن مرحلة الأساس الإبتدائية...
وبالتالي فقد كان وسيكون على كل شخص يرفع راية الإسلام ، أن يدرك أنه ليس وحده العالم بظواهر وبواطن الأمور .. وعليه أن يدرك دون شك أن سيرته هو وتصرفاته هو ومسلكه هو . وملبسه ومأكله ومشربه ومسكنه ومركبه هو ونسائه وأولاده وبناته وأحفاده ، سيكونون جميعا تحت مجهر لويس باستير ؛ وسيرة تلوكها الألسن لبانة بين فكيها. .....
وفي هذا الإطار فعلى من يتعلل منهم بأن زمان الخلافة الراشدة والصحابة قد ولى بهم وبزهدهم الزمان. ... نقول له :- أبعـد نفسك إذن ولا تلبس مسوح الدين .... ثم أن عليك أن تدرك أن هناك حتى زماننا الحاضر من سار على نهجهم ونجح في التوفيق بين المقال والفعال . ومنهم على سبيل المثال الإمام الخميني الذي وبرغم ثروات إيران الضخمة فقد عاش ومات في بيت صغير متواضع من الطين مستأجر ، ومات وهو لا يمتلك شبرا من الأرض. وقبله كان الرئيس السوداني الأسبق الفريق إيراهيم عبود مثالا يحتذى في الزهد ونظافة اليد .
والخلاصة أننا نرى الصادق صادق في هذا الصدد . وأن الأمر يستلزم أن تطهر الجماعة نفسها . فإما إلتزام بالإسلام ظاهره وباطنه أو لا . فالإسلام لا يستجدي أحد ولا يساوم أحد ولا يستعطف أحد لأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وحيث يقول تعالى : ( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين)
2) انفصل الجنوب لدولة غالباً عدائية.
إنفصال الجنوب يظل فيه قولان دائما لأن مشكلة الجنوب لم تنشأ عام 1989م ولا بعدها. ولكنها مشكلة متغلغلة في العمق التاريخي والثقافي والإثني والإجتماعي . فشلت كافة الحكومات السودانية وكافة حركات التمرد الحنوبية في الإتيان بحل مرضي واقعي لجهة الوحدة ...... فشل الجميع على إختلاف مذاهبهم ومشاربهم لأن المشكلة لم تكن قابلة للحل أصلا .... لأن المشكلة أننا نريد فرض وحدة قسرية بين شعبين متنافرين في كل شيء .... كنا ولا نزال وسنظل ....
ضحكت على عقولنا مناهج التاريخ المدرسية المفبرك بعضها في بخت الرضا . فتخرج البعض وهو لا يصدق أن دولة جنوب السودان أو ما كان يسمى سابقا بجنوب السودان ... لا يصدقون أنها لم تكن في يوم من الأيام (أرضا وشعبا) وحتى عام 1947م جزءا من الشمال أو عمقا له . ويجهلون تماما أن الخديوية المصرية هي التي فتحت وأخضعت أراضي الجنوب بحـر أموالها وجيوشها وأعلنته إقليما مستقلا تابعا لها مثلما أعلنت شمال السودان تابعا لها من قبله .... ويجهلون أن الزبير باشا هو الذي فتح إقليم بحر الغزال بحر ماله وجيوشه إلى أن سرقته منه الخديوية المصرية بعد أن أعلن الزبير باشا نفسه ضمه إلى أملاك الخديوية المصرية ولم ينتبه إلى إعلانه تابعا لشمال السودان .
وقد ظل كل منهما (الشمال والجنوب) في معظم سنوات التركية السابقة يحكمه حاكم منفصل إداريا عن غيره وتابع مباشرة للقاهرة. وأن دور الشمال في علاقة الخديوية المصرية بالجنوب لم يكن سوى كونه معبرا وقنطرة طبيعية لموظفيها وجنودها ولتجارة وقوافل الرقيق الأسود. وإمتد ذلك حتى زمان الحكم الثنائي ..... ثم أنه في عام 1947م أقدم الإستعمار البريطاني على تجاهل إرادة الجنوبيين معتبرا أنهم غير قادرين وحدهم وقتها على حكم وإدارة بلادهم. فضموهم قسرا لشمال السودان وكانت تلك هي الطامة الكبرى ..
إبتلع الشمال الطعم لكنه لم يستطع هضمه . فأصبح الجنوب منذ عام 1955م إمساكا معويا مزمنا في بيت الداء السوداني لم تستطع البلاد التخلص منه على مسار طبيعي سلس ؛ إلى أن قيض له الله الخروج على النحو الذي صار في خلاء نيفاشا ... فالحمـد لله الـذي أذهـب عن بلادنـا الأذى وعافـاهـا.
ولأجل ذلك كانت النسبة المئوية المذهلة (الغير قابلة للنقاش) على نطاق التاريخ العالمي التي إختار بها الحنوبي الإنفصال عن الشمال والتي قاربت ألـ 100% ... فهل بعد كل هذا تخرج علينا أدبيات المتحسرين ومحترفي الردح من بعض الشماليين الذين جاءوا يتجزعون متجرسين مولولين ومنتحبين كالخصيان والجواري والأرامل والمطلقات دون خشاء ؟ .... يتباكون على الحب الضائع والحبيب المفقود واللبن المسكوب؟ وكأنّ الجنوبي كان حبيب القلب أو كأنّه لا يزال ملكا لهم بالوراثة على طريقة الزبير باشا وتجار النخاسة في أسواق أمدرمان والخرطوم ومدني والأبيض وهلم جرا مما كان مشهورا وموثقا في سالف العصر والأوان؟
إن البكاء اليوم على الجنوب لم يعد سوى تهريج ونهــج خِـِــرع تأنف من مسلكه العذارى وربات الخدور وصويحبات يوسف ؛ ناهيك عن الرجال حماة الديار والذمار وجند الشدائد المفترضين......
لقد كان إنفصال الجنوب أرضا وشعبا عن الشمال النهاية المنطقية لواقع مرير من العنصرية الإجتماعية التي لا يد لنا فيها كبشر . وقد خلقنا الله تعالى شعوبا وقبائل لنتعارف ونتعايش بالحسنى ونتبادل المصالح الدنيوية من تجارة وصناعة وخدمات . ولكنه لم يفرض علينا أن نصادق ونحب ونتمازج ونتزاوج وتختلط دماءنا ببعضنا أو غيرنا غصبا عنا ودون رضانا . أو أن يعاتبنا جل وعلا على هذه الفطرة التي فطرها فينا.
من كان منا لا يمارس العنصرية الإجتماعية عمليا تجاه الجنوبي في الأنفة والترفع من تزويجه أخته وإبنته له أو صداقته مثلما بفعل إزاء الشمالي ؛ وإستقباله ضيفا كريما في بيته والأكل معه في خوان واحد أو الشرب معه في دلو واحد ، ومشاركته السكن في غرفة واحدة وإعارة وإستعارة الملابس وحتى الأحذية والإكسسوارات مثلما تفعل الإناث الشماليات مع بعضهن ، أو يفعل الذكر مع زملائه وأصدقائه وأقرانه من أبناء الشمال في المدرسة والحي السكني من نعومة الأظفار وأيام الصبا الصافية والبراءة ..... من كان على إستعداد في قرارة نفسه أن يفعل كذلك مع الجنوبي ذكرا أو أنثى فليرمي الجميع بقنبلة يدوية .... وإن إدعى بغير ذلك فهو إبن سلول منافق ومسيلمة َ عرب وشماليين كذاب.
عن أية وحدة ونسيج إجتماعي واحد يتحدث الصادق المهدي إذن ونحن لا ننظر إلى الجنوبي سوى أنه عبد ورقيق لا نطيق رائحته ونتحاشى الجلوس إلى حواره حتى في المقعد الخالي داخل المواصلات العامة المزدحمة ؛ ونرى في قناعاته وتصرفاته وردود أفعاله غرابة ومثار سخرية وضحك وإشمئزاز؟ بل ولا ندخله بيوتنا إلا خادماً وخادمة ... أليس هذا هو الواقع أم أننا لا نزال كعادتنا نرغب في خداع أنفسنا ونفاق بعضنا البعض والتجمل بما لا يليق وجه النهار وساعة المغيب والمساء؟ ..... مثل هكذا واقع لا يحتمل مقولة "أنا لا أكذب ولكن أتجمل".
ومن يعلق الأمر على شماعة التنمية وحدها فهو يعبث بالحقيقة ؛ لأن السودان من حلفا إلى نمولي كان ولا يزال بفتقر كل متر مربع فيه للتنمية.
من السفاهة والسذاجة بمكان إتهام النظام الحاكم في الخرطوم وصحيفة سودانية أو كاتب صحفي ما بأنه سبب إنفصال الجنوب .... إنها بمثابة إتهام نملة سليمان بالتسبب في إنقراض الديناصورات ... ولكن البعض دائما ما يحاول البحث عن شماعة يعلق عليها فشله المزمن وإحباطاته. ولمن لا يزال على قناعة بأنه كان بالإمكان إقامة وحدة قسرية ؛ نذكره بحقيقة أن مشكلة الجنوب بدأت منذ عام 1947م . وجميع الأحزاب وطائفتي الأنصار والختمية ، وكافة النظم السياسية العسكرية والديمقراطية والشمولية التي حكمت البلاد منذ عام 1956م تورطت فيها ومُـنِحت الفرصة الكاملة الكافية عسى وعل تجد حلا لها. فلم تكن المعالجات بقدر المسئولية بل تميزت بتشابهها ونمطيتها ، سواء لدى الديمقراطيات أو العسكر.... والدفاتر مكشوفة ويعرفها الجميع ولا يستطيع حزب من الأحزاب القائمة أو طائفة إدعاء الطهر والعفاف والبراءة والعذرية في هذا المجال بالذات.
كانت مشكلة الجنوب تتفاقم وتكبر حتى أصبحت ككرة الثلج وأضحت أكبر مننا جميعا شمالا وجنوبا وعربا وأفارقة في وقت غابت فيه رغبة الشعب الجنوبي بالوحدة مع إنسان يأنف منه ولا يعترف به إنسـانا .. وتراخت إرادة الشمالي في الإحتفاظ بهذا "المواطن" الغريب عليه والمختلف عنه في كل شئ .
ومهما تكن المعاذير وأدبيات التجمـّل والتحلـّي ونفض الأيادي والإنكار. فمن المحال الآن إستثمار إنفصال الجنوب وتوظيفه لمصلحة حزبية ضيقة الهدف منها تقويض النظام الحاكم ليس إلا ؛ تمهيدا للقفز مكانه ومواصلة دوران ساقية جحا .....
وأما مسألة تحول الجنوب إلى دولة عدائية فإن المصالح المتضاربة تجعل بين كل دولة وأخرى عدائية ؛ سواء أكان ذلك عداءا سافرا معلنا أو كان خفيا غير معلن . ولنا في علاقتنا مع تشاد وليبيا ومصر وأرتريا وأثيوبيا خير مثال ....
لا نستطيع الإدعاء بأن الشمالي والجنوبي سيسيان بعضهما ما بين عشية وضحاها ... ولكن ؛ غدا يأتي اليقين وتستر القبور أجيال حاضرة من دولة السودان ودولة جنوب السودان إرتبطوا عاطفيا بذكريات ومنافسات وغيرة في يوم من الأيام .... وستأتي أجيال جديدة لم تعاصر حروب التمرد والإنفصال تتعامل مع دولة الجنوب بمثل ما كنا نتعامل مع دولة يوغندا .... الزمان لا يتوقف والأجيال لا تخلد بلا ممات في هذه الفانية ورويدا رويدا سيذهب ورم الرأس ومغص الأمعاء لدينا ولديهم مع مرور الأيام.
وحتما لو نهض السودان إقتصاديا وتعافى سياسيا فإن كفة المعادلة سترجح لجانبه . ولن يعود من السهل على الجنوبي مناطحة الشمال الأكثر تأهيلاًً لإمكانات الترقي والنمو والتطور ..... ولا مانع بعد كل هذا في نشوب حرب حدودية نظامية يتعرف فيها كل طرف على إمكانياته وحجمه وفق مستلزمات "رحم الله إمرئٍ عرف قدر نفسه" .... وحتى "يقعد كل واحد في مواعينه" .... هكذا دائما ما تتعرض الدول التي تنفصل عن بعضها في البداية ... ولابد من الوضع في الإعتبار أن هناك تضارب في المصالح ، وهناك أبيي . وعلاقة الحركة الشعبية في الجنوب بتلك التي في الشمال والتسهبلات التي تمنحها الحركة الشعبية لبعض الفصائل المتمردة في دارفور ... ولابد من أن نعي بأن هناك جنوبيون موتورين . وأن هناك جنوبيون يشعرون بعقدة النقص والدونية تجاه الشمالي عامة والعربي السوداني خاصة . وأن هناك جنوبيون لا تزال زفراتهم حرّى ؛ ويرغبون في التقليل من ضغوط "عقدة الزبير باشا" التي تضطرم نيرانها في صدورهم وتغلي من جرائها أعماقهم ودواخلهم وعروقهم ... إذن فالمدخلات لحرب قادمة كثيرة متعددة متشعبة ولا نشك في أن الجيش السوداني وإستخباراته تضع كل هذه المعطيات في الحسبان. وربما تصبح الحرب التي يخشاها البعض وحتى تضع أوزارها سببا فيما بعد لشفاء نهائي على نسق العمليات الجراحية .
3) تـأزم حـريـق دارفـور.
بالفعل تأزم حريق دارفور ؛ والسبب أنها تحولت إلى تجارة مسلحة غابت فيها السياسة وسادت جرائم النهب والسلب والتعدي على المحارم التي حرمها الله . وبنحو عام أصبحت الفصائل تبحث عن قوت يومها ولتغطية منصرفات ورواتب منسوبيها بأسلوب البلطجة من تعدي وإختطاف وفرض أتاوات على السكان والتجار والرعاة ومستخدمي طرق المواصلات من أصحاب اللواري السفرية ووسائل النقل.
وفي الوقت الذي لم يشهد جنوب السودان (سابقا) تداخلا سكانيا . وتواجدا لقبائل عربية في عمقه الحيوي . وظل محتفظا طوال تاريخه بأعراقه الزنجية الخالصة . فإن إقليم دارفور يموج بتواجد وتداخل وتمازج سكاني عرقي لا نظير له في بقية مناطق السودان .... عرب دارفور قبائل مقيمة مستوطنة ؛ إما أن تعيش أو تموت وهي قابضة على سلاحها الأبيض والناري على حد سواء .. التواجد العربي في دارفور ليس مجموعة من أفندية ومدرسين وأطباء وجلابة من الولاية الشمالية كما كان الحال في الجنوب.
إذن يحتمل الأفق الحديث والتفكير والتنظير الممكن لإيجاد حلول واقعية لمشكلة دارفور على إعتبار أنها تتعلق بطموحات بعض أبناء دارفور في جانب حظ مناطقهم من التنمية ... وعلى اعتبار أن جانبا منها يظل أمنيا مرتبطا بقدرة الحكومة في القضاء على عصابات النهب والسلب والإنفلات الأمني بوجه عام ......
وواقع الحال فإنه وبعد فشل غزو أمدرمان عام 2008م / ورحيل القذافي عن السلطة فإن التمرد سيجد نفسه يبف ويدور حول نفسه في قيزان الإقليم بلا فائدة مرجوة ولن يغطي المدخول المصاريف وسيتحول الأمر عما قريب إلى مجرد حرائق صغيرة متناثرة مفتعلة . وقد زهدت دول الغرب والولايات المتحدة في دارفور بعد أن زهدت الصليبية العالمية في إمكانية تحويل أهله إلى المسيحية بالرغم من فرص التبشير التي أتيحت لها .... بل أكثر ما كان يغيظها ويوغر صدرها أن اللاجئ منهم يأكل على موائدهم حتى يتجشأ ويشرب حتى يتكرّع ؛ ثم يَهْرَعُ للوضوء بفضل الماء مستجيبا لنداء مؤذن الحكومة والصلاة بخشوع خلف إمامها.
والصادق المهدي يعلم قبل غيره لأسباب تتعلق بأن معظم أنصاره هناك ... بعلم قبل غيره أن التمرد في هذا الإقليم لا يشارك فيه الجميع .. وأن المسألة ليست عنصرية أو دينية وثقافية .. بل وأن نسبة العرب في دارفور هي الأكبر لو حسبناها ككتلة عرقية واحدة . وأن الجنس الغير عربي في دارفور متناثرٌ فسيفساء بين عدة عرقيات . وأن هذه العرقيات المسلمة الغير عربية تتمازج دماءها عبر التزاوج مع رصيفتها العربية في دارفور وكافة أنحاء السودان .. إذن يظل الإنسان في مشكلة دارفور ككيان وكائن حي ليس جزءا من المشكلة (عكس ما كان عليه الأمر مع الجنوب) وهو الأمر الذي يؤكد قابلية المشكلة للحل . وأن على الحكومة المركزية أن تستغل الظرف المواتي برحيل نظام حكم القذافي فتسارع الخطى لحل المشكلة على نحو محايد بين الموالاة والمعارضة هناك ودون تغليب طرف على آخر من أطرافها. على الحكومة المركزية أن تتعلم من أخطاء الماضي . فتعمد إلى حل مشاكل الأقاليم والهامش من داخل الإقليم ومن صميم واقعه هو . وتتوقف نهائيا عن إتباع (منهج غردون باشا) في فرض الحلول على الأقاليم من داخل سراي الخرطوم......
وفيما يتعلق بالبند الرابع ثم الخامس من الأزمات السـت فلا تعليق. كونها بالفعل بنود تناولها أكثر من سياسي وكاتب بالرأي والتحليل . وتظل الآراء بشأنها شبيهة متكررة على نحو كبير . وقد كان صواع الصادق الذهبي هنا - وعلى الرغم من خصوصيته - شبيها في الغرف والتعبئة بغيره ؛ وتلخص على النحو التالي:-
4) اتفاقية السلام المسماة شاملة تكشفت عيوبها لا سيما في أمر المناطق الثلاث المستثناة ؛ أي أبيي- وجنوب كردفان- وجنوب النيل الأزرق. فصارت هذه المناطق جبهات قتال فعلي أو منتظر.
5) سياسات اقتصادية خاطئة وسعت بصورة ورمية المصروفات على القطاعات غير المنتجة الأمنية، والإدارية، وصفت دولة الرعاية الاجتماعية، وبددت إيرادات البترول في أولويات خاطئة محققة كل العلل المعروفة من لعنة البترول والمرض الهولندي والنتيجة: ميزانية داخلية وخارجية معجزة، وانكماش في القطاعات المنتجة، وتفشي العطالة، وانفجار الأسعار بصورة جعلت حياة أغلبية الشعب مستحيلة. أسعار اليوم أشعلت النار في كل الجيوب إلا جيوب قلة من الناس، لقد زادت أسعار السلع الاستهلاكية التي يعتمد عليها المواطن في معاشه اليومي بصورة مفزعة كالسكر والشاي والزيت هذا بالإضافة إلى التردي في الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء في عدد من المدن الكبيرة بالبلاد.
ثم أتى الصادق المهدي بالبند السادس والأخير من هذه الفقرة في خطبته والذي كان على الوجه التالي:
6) تغريب الشأن السوداني كله بحيث صارت كل قضايا السودان تبحث وتبرم في الخارج.
وتعليقا بسيطا على هذا البند ؛ يتجه إلى واقع أن لإنعدام الوحدة الوطنية دورها البارز هنا . وجميع القوى السياسية حاكمة كانت أو معارضة متورطة في هذا الأمر كون الحكومة ترغب في جلب المعارضة إلى خندقها جثة هامدة بلا حراك أو إرادة .. ولكون المعارضة ليست لديها قناعات العمل من خلال وحدة الصف ؛ بل تترك كل شئ مؤجل إلى ما بعد هدم المعبد على من فيه . وإعتلاء السلطة بدلا منهم وهكذا تينى معابد وتهدم معابد وتظل ساقية جحا في الدوران من جديد .... فيترك الناس سب الأخوان والإنقاذ ويتفرغوا لسب الحكومة الجديدة .. وما هي إلا يومين حتى ترى الأخوان يخرجون بقيادات جديدة ليقودوا المعارضة ويسبون الحكومة سواء أكان على رأسها الصادق المهدي أو غيره. إنها إحدى الأزمات المزمنة في شعوب ومثقفي وساسة دول العالم الثالث.
وفي ختام هذه الحلقة قبل الأخيرة نلاحظ أن الصادق المهدي قد عرض هذه الأزمات الست بوصف أنها "الأزمات الست التي تحاصر نظام الحكم في السودان" وهو يعني به الإنقاذ ..... وهو ما يدلل على أن السياسي السوداني كبيره وصغيره خطيره وقليله يتعامل مع وطنه وفق الحكومة القائمة ...... وليته إستدرك فقال أنها "الأزمات الست التي تحاصر السودان".
(يتبع الحلقة الرابعة والأخيرة إنشاء الله)
التعليقات (0)