مواضيع اليوم

خطبة أبو العباس السفاح عند تولي الخلافة بمسجد الكوفة - أخلاقه وصفاته

خالد محمود أوفلي

2010-12-03 16:42:54

0

ظل أمر الدعوة العباسية سراً لا يعلمه إلا النقباء من شيعتهم ، حتى وقع في يد (مروان بن محمد) آخر خلفاء بني امية كتاب (إبراهيم بن محمد بن علي العباسي) ، يأمره فيه بقتل كل من يتكلم العربية بخراسان فقُبض على إبراهيم بن محمد وتم سجنه وقتله ، وكان قبل قتله قد عَهد بالدعوة إلى أخاه أبا العباس بن عبد الله فتوجه إبي العباس ومعه كبار بني هاشم إلى الكوفة ، فانزلوا الهزيمة بيزيد بن عمر قائد الأمويين بالكوفة . وكان (أبا العباس السفاح) قد عهد إلى عمه عبد الله بن علي قتال مروان بن محمد فتبعه إلى نهر الزاب وهناك حلت الهزيمة بالامويين وقُتل مروان بن محمد . وفي عام 132 هـ خفق العلم الاسود شعار العباسيين وزالت دولة الامويين التي استمرت في الحكم لمدة 92 عاماً . ( 40 – 132 هـ) .

وفي نفس العام جلس أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس على عرش الدولة العباسية بعد أن بُويع بالخلافة وفي يوم الجمعة أقام العباس خطبته فخطب على المنبر قائماً، وكان بنو أُمية يخطبون قعوداً .

صعد أبو العباس المنبر فقال : (الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه تكرمة ، وشرفه وعظمه ، واختاره لنا ، وأيده بنا ، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه ، والقوام به والذابين عنه ، والناصرين له ، وألزمنا كلمة التقوى ، وجعلنا أحق بها وأهلها ، وخصنا برحم رسول الله وقرابته ، وأنشأنا من آبائه ، وأنبتنا من شجرته ، واشتقنا من نبعته ، جعله من أنفسنا ، عزيزاً عليه ما عنتنا، حريصاً علينا بالمؤمنين روؤفاً رحيماً ، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع ، وأنزل بذلك على أهل الاسلام كتاباً يُتلى عليهم فقال عز من قائل ، فيما أُنزل من محكم القرآن : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وقال : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) وقال : (وأنذر عشيرتك الأقربين) وقال: (وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربي واليتمامى) وقال: (واعلموا أنما غنمتم من شئ ، فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربي واليتامي) . فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا ، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا ، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا ، تكرمة لنا ، وفضلاً علينا ، والله ذو الفضل العظيم ، وزعمت السبئية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا فشاهت (قُبحت) وجوههم، بما ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم ، وبصرهم بعد جهالتهم ، وأنقذهم بعد هلكتهم ، وأظهر بنا الحق ، ودحض بنا الباطل ، وأصلح بنا منهم ما كان فاسداً ، ورفع بنا الخسيسة والدنيئة ، وتم بنا النقيصة وجمع الفرقة ، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر ومواساة في دينهم ودنياهم ، إخواناً على سرر متقابلين في آخرتهم ، فتح الله ذلك منة ومنحة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فلما قبضه الله إليه ، قام بذلك الأمر من بعده أصحابه ، وأمرهم شورى بينهم ، فحووا مواريث الأمم ، فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها ، وأعطوها أهلها وخرجوا خِماصاً منها ، ثم وثب بنو حرب ومروان فابتزوها وتداولوها بينهم ، فجاروا فيها ، واستأثروا بها وظلموا أهلها ، فأملى الله لهم حيناً حتى آسفوه (أغضبوه) ، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا ، ورد علينا حقنا ، وتدارك بنا أمتنا ، وولي نصرنا ، والقيام بأمرنا ، ليمُن بنا على الذين أُستُضعِفوا في الأرض ، وختم بنا كما افتتح بنا، وإني لأجور أن لا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح . وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله ، يا أهل الكوفة ، أنتم محل محبتنا ، ومنزل مودتنا ، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يثنكم عن ذلك تحامل أهل الجور عليكم ، حتى أدركتم زمامنا ، وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا ، وأكرمهم علينا ، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم ، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح ، والثأر المبير).
وقيل أنه كان موعوكاً فاشتد به الوعك فجلس على المنبر .
فصعد عمه داوود بن علي فقام دونه على المنبر فقال: ( الحمد لله شكراً شكراً شكراً ، الذي أهلك عدونا ، وأصار إلينا ميراثنا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، أيها الناس ! الآن أُقشعت حنادس (ظلمات) الدنيا ، وانكشف غطاؤها ، وأشرقت أرضها وسماؤها وطلعت الشمس من مطلعها ، وبزغ القمر من مبزغه وأخذ القوس باريها ، وعاد السهم إلى منزعه ، ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم ، أهل الرأفة والرحمة بكم ، والعطف عليكم . أيها الناس ! إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجيناً ، ولا عقياناً ، ولا نحفر نهراً ، ولا نبني قصراً ، وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقنا ، والغضب لبني عمنا، وماكرئنا (اشتد علينا) من اموركم وبهظنا من شئونكم لقد كانت أموركم ترمضنا (تثقل علينا) ونحن على فرشنا ، ويشتد علينا سوء سيرة بني أُمية فيكم ، وخرقهم بكم ، واستذلالهم لكم ، واستئثارهم بفئيكم وصدقاتكم ومغانكم عليكم.
لكم ذمة الله تبارك وتعالى وذِمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذِمة العباس رحمه الله ، أن نحكم فيكم بما أنزل الله ، ونعمل فيكم بكتاب الله ، ونسير في العامة والخاصة منكم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم . تباً تباً لبني حرب وبني مروان ، آثروا في مدتهم وعصرهم العاجلة على الآجلة ، والدار الفانية على الدار الباقية ، فركبوا الآثام ، وظلموا الأنام ، وانتهكوا المحارم ، وغشوا الجرائم ، وجاروا في سيرتهم على العباد ، وسننهم في البلاد التي استذلوا تسربل الاوزان وتجليب الآصار ، ومرحوا في غنة المعاصي وركضوا في ميادين الغى جهلاً بأستدراج الله وأمناً لمكر الله ، فأتاهم بأس الله بياناً وهم نائمون ، فأصبحوا أحاديث ومزقوا كل ممزق ، فبعداً للقوم الظالمين ، وأدالنا الله من مروان وقد غره بالله الغرور ، وأرسل لعدو الله في عنائه حتى عثر في فضل خطامه ، فظن عدو الله أن لن نقدر عليه ، فنادى حزبه وجمع مكايده ورمى بكتائبه ، فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وشماله من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله ، ومحق ضلالته ، وجعل دائرة السوء عليه ، وأحيا شرفنا وعزنا ورد إلينا حقنا وإرثنا .
أيها الناس ! إن أمير المؤمنين نصره الله نصراً عزيزاً ، إنما عاد إلى المنبر بعد الصلاة ، إنه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره ، وإنما قطعه عن إستمام الكلام شدة الوعك ، وأدعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية ، فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن وخليفة الشيطان المتبع للسفلة الذين أفسدوا في الارض بعد صلاحها بإبدال الدين وإنهتاك حريم المسلمين ، الشاب المتكهل المتمهل المقتدي بسلفه الأبرار والأخيار الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهدى ومناهج التقوى . فعج الناس له بالدعاء .
ثم قال: يا أهل الكوفة ! إنا والله مازلنا مظلومين مقهورين على حقنا ، حتى أتاح الله لنا شيعتنا أهل خراسان ، فأحيا بهم حقنا ، وأفلج بهم حجتنا ، أظهر بهم دولتنا ، وأراكم الله ما كنتم به تنتظرون وإليه تتشوقون ، فأظهر فيكم الخليفة من هاشم وبيض به وجوهكم ، وأدالكم على أهل الشام ، ونقل إليكم السلطان وعز الإسلام ، ومنَّ عليكم بإمام منحه العدالة ، واعطاه حسن الإيالة ، فخذوا ما آتاكم الله بشكر ، والزموا طاعتنا ولا تخدعوا عن أنفسكم فإن الامر أمركم ، فإن لكل أهل بيت مصراً ، وإنكم مصرنا . ألا وإنه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ، وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد ، وأشار بيده إلى أبي العباس ، فاعلموا أن هذا الامر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم عليه السلام . والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا .

قضى السفاح معظم عهده في محاربة قواد العرب الذين ناصروا بني أُمية ، وقضى على أعقاب الأمويين ، حتى إنه لم يفلت منه إلا عبد الرحمن الداخل ، مؤسس الدولة الاموية ببلاد الأندلس . بقي السفاح في الخلافة أربع سنين وتسعة أشهر ومات في مدينة الأنبار التي اتخذها قاعدة لخلافته، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وقيل ابن تسع وعشرين .

اخــــلاقه وصــفاته


يقول المسعودي عن أبي السفاح : "إنه كان جميلاً وسيماً" ويقول الطبري "كان أجعد الشعر ، طويلاً أبيض ، أقنى الأنف ، حسن الوجه واللحية" ، ويقول صاحب الفخري : " إنه كان كريماً حليماً وقوراً، عاقلاً كاملاً ، كبير الحياء ، حسن الأخلاق" . ويقول السيوطي " وكان السفاح أسخى الناس ، ما وعد عدة فأخرها عن وقتها ، ولا قام من مجلسه حتى يقضيها ". وكان نقش خاتمه " الله ثقة عبد الله وبه يؤمن" ويؤثر عنه قوله : " إن من أدنياء الناس ووضعائهم من عدَّ البُخل حزماً ، والحلم ذلاً" ، وقوله: " إذا كان الحلم مفسدة كان العفو معجزة والصبر حسناً ، إلا على ما أوقع الدين وأوهن السلطان ، والأناة محمودة إلا عند إمكان الفرصة".
ولم يكن أحد من الخلفاء العباسيين يحب مسامرة الرجال مثل أبي العباس السفاح وكان كثيراً ما يقول : " إنما من العجب من يترك أن يزداد علماً ، ويختار أن يزداد جهلاً" ، فقال له أبوبكر الهذلي : ما تاويل هذا الكلام يأ أمير المؤمنين؟. قال : يترك مجالسة مثلك وأمثال أصحابك ، ويدخل إلى امرأة أو جارية ، فلا يزال يسمع سخفاً ويرى نقصاً فقال له الهذلي : "لذلك فضلكم الله على العالمين وجعل منكم خاتم النبيين". وكان السفاح يشجع الادب والغناء ويجزل العطاء على الشعراء والمغنين فقد دخل عليه يوماً الشاعرأبو بجيلة ، فسلم عليه وقال عبدك يا أمير المؤمنين وشاعرك، أفتاذن لي في إنشادك ؟ فقال له السفاح : " لعنك الله ! ألست القائل في مسلمة بن عبد الملك بن مروان :


أمسلم إني يابن كل خليفة ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض 

فقال له أبو بجيلة : أنا يا أمير المؤمنين الذي أقول :


فكما قد قلت في سواكا زورٌ وقد كفَّرَ هـــذا ذاكا
إنا انتظرنا قبلها أبـاكا ثم انتظرنا بعدها أخاكا
ثم انتظـرناك لها إيـاك فكنت انت للرجـاء ذاكا


فرضى السفاح عنه وأجزل له العطاء .


 





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !