خطايا ثورة يوليو ومآسيها
في مقالنا السابق "عيد الثورة بأي حال عدت يا عيد" تناولنا ثورة يوليو1952 من وجهها الأبيض .. وعرضنا لمحاسنها وانجازاتها على المستوى المصري والعربي بل وأثرها على الساحة العالمية .. واليوم نتحدث عن ذات الثورة ولكن من وجهها الآخر .. الوجه القاتم ونعرض لمساوئها والأخطاء التي ارتكبتها والتي ارتقت لمرتبة الكوارث التي بقيت آثارها نجرعها ونجترها حتى اليوم وذلك من وجهة نظرنا نحن ولا نصادر على آراء ونظرات الآخرين سواء من يتفقون أو يختلفون معنا في هذا الشأن ..ولسوف نورد أخطاء الثورة أو ضباط الثورة في النقاط التالية مثلا لا حصر:
استئثار ضباط الجيش الأحرار بالسلطة والحكم
ثار الضباط الأحرار على الملكية باعتبارها حكماً توارثياً واستبدلوها بنظام جمهوري يقوم على نقل السلطة إلى يد الشعب ولكن بقيت يد الشعب فارغة حتى يومنا هذا إلا من ورقة استفتاء على مد فترة الحكم للحاكم وبها خانتين لإبداء الرأي الأولى فيها كلمة نعم والثانية فيها كلمة نعم أيضا لذلك تأتي نتيجة الاستفتاء دائما 99.999%موافقة .. وهو أمر قتل عند الشعب روح الطموح وأعاقه عن تخريج كوادر قادرة على إبداء رأيها والاضطلاع بشئون البلد والانخراط في تحمل مسئولياته .. حيث انحصرت كافة السلطات بقوة القانون والدستور في يد فرد واحد فقط هو الرئيس ولا شيء بعده مما أحال البلاد إلى أزمة شديدة في القيادات وبقاء الرئيس هو الواجهة الوحيدة التي تبقى ولا تشيخ ولا تنتهي إلا بالموت بكافة أشكاله.
توزيع السلطة على الضباط والموالين بمقياس الولاء لا بمقياس الكفاءة
ليس أدل على ذلك من حالة عبد الحكيم عامر كمثال صارخ بصفته احد الضباط الأحرار والصديق "الأنتيم" للزعيم جمال عبد الناصر والذي كان يجب أن يأخذ نصيبه من كعكة السلطة أو كعكة الثورة حيث تم تصعيده من رتبته التي توازي رتبة "مقدم" مبتدئ في الجيش إلى رتبة "المشير" وهي أعلى رتبة عسكرية جعلت جميع قيادات الجيش تحت يده وتأتمر بأمره مما خلق وضعاً كارثياً انتهى بهزيمة مروعة على يد اسرائيل التي اكتسحت بموجبها جيوش دول عربية مجتمعة وأبادتها في ستة أيام دون ان يطلق الجيش المصري طلقة واحدة ولا زالت توابع هذه الهزيمة المنكرة نعانيها وندفع استحقاقاتها حتى اليوم ولا نعرف إلى متى ..
إصدار قوانين بغرض إنصاف الطبقات الدنيا والوسطى دون مراعاة التوازن الاجتماعي :
أصدرت الثورة تبعاً لمبادئها الستة المعلنة قوانين التأميم والمصادرة و الاستيلاء على أملاك من وصفتهم بالإقطاعيين ووزعتها على الشعب .. وهي قوانين تم تنفيذها بتجاوزات تحت المبدأ السامي النبيل حيث تم فرض الحراسة والاستيلاء على أموال وقصور ومنازل ومصانع وأراضي أناس اكتسبوا أموالهم وأملاكهم بالتجارة الحلال ولكنهم قد جرفهم تيار الثورة ومبادئها فخربت بيوتهم وتشتتت أسرهم ..
كما أنه نتيجة أزمة الإسكان التي تخلفت عن الحرب العالمية الثانية ولحماية استقرار الأسر الفقيرة فقد تم إصدار قوانين بإبقاء المستأجرين للأماكن السكنية والمحلات وغيرها في أماكنهم بقوة القانون إلا ما لانهاية وهو ما خلق وضعاً مأساويا انتهى إلى ما يشبه الذبحة الصدرية في مصر الآن دون ان تجد له حلاً .. حيث انه مع تعاقب السنين وتغيير الهيكل الاجتماعي للطبقات في مصر والانفتاح الاقتصادي وارتقاء طبقة المستأجرين السلم الاجتماعي وارتفاع دخلها مع بقائها ماسكة بزمام الأملاك المستأجرة تحت يدها وبذات القيمة الإيجارية أيام الثورة "بضعة ملاليم أو قروش قليلة" الأمر الذي أودى بحياة طبقة الملاك وتدميرهم وأسرهم جراء الحرمان من الانتفاع بأملاكهم التي قبض على رقبتها المستأجرون بحكم قانون الثورة السرمدي فمات الملاك جوعى مشردون وبقى السكان يتاجرون بهذه المساكن ويعشون ويؤجرونها من الباطن والدولة تقف مكتوفة الأيدي ولا تفلح محاولاتها لرأب هذا الصدع الذي خلقته الثورة على حساب الأبرياء.
تكريس نظم الحكم الفردي المطلق المستبد على حساب الديمقراطية الحقيقية ..
تحت شعار لا صوت يعلو على صوت الثورة ثم تغييره بعد هزيمة يونيو المنكرة إلى لا صوت يعلو على صوت المعركة .. فإنه تحت هذا الشعار تم وأد كل أو أي فكر يعارض مجرد المعارضة النزيهة لتوجهات الثورة أو بالأحرى قيادات الثورة فكل رأي أو كل فرد صاحب رأي يتم اتهامه بأنه عدو الثورة ومن ثم يستحق الإعدام شنقاً غير مأسوف عليه كما تم خنق أي محاولة لتدول الحكم أو لإرساء قواعد الديمقراطية كل ذلك في سبيل تأمين نظام الحكم الثوري الفردي الزعامي المطلق مما أدى إلى سحق المعارضة وخلق اتجاه أحادي منفرد انتهى إلى حكم فردي سلطوي أبعد الشعب تماماً عن مسك زمام أمره أو المشاركة في تقرير مصيره أو إعداد كوادر من أبنائه يحملون المسئولية الأمر الذي انتهى بنا إلى ما نحن فيه من تأخر عن الركب العالمي والتأخر في مجال الحريات والديمقراطية وبقاء السلطة بعيداً عن الشعب وارتكازها في يد بضعة أفراد يعرفون قواعد اللعبة جيداً ويديرونها في ظل غياب أو تجاهل أو زهد أو قرف الشعب الذي يكتفي بالجلوس في مقاعد المفرجين يشاهد ويستخدم ذخيرته التي لا تنفذ من السخرية منهم ومن نفسه .. ويجلس أمام مسلسل الملك فاروق ليترحم في مفاجأة صاعقة على أيامه وكأن هذا الشعب يلوم نفسه على انسياقه بلا وعي خلف أبنائه الأحرار الذين حدثوه عن فساد الملك فاروق فإذا بالشعب يرى فساداً تعجز عن الإتيان به مملكة الأباليس جميعها .. وكما حدثوه عن إقامة عدالة اجتماعية فإذا بمصر كلها تقع في قبضة ممن لا يزيدون عن عدد أصابع كفيها وقدميها استولوا على جميع مقدراتها دون ان تعرف كيف بينما بقيت الأغلبية الكاسحة كسيحة حتى عن القدرة على شراء رغيف العيش وبقاء عشرة ملايين من بناتها عانسات وانسحاق الطبقة الوسطى مع الطبقة الدنيا لا سكن لهما إلا المقابر أو المساكن الشعبية الضيقة الخانقة ..
وهكذا بدأت الثورة كمثل حلم داعب خيال المصريين وكان يمكن لها لو توافر بعض الإخلاص أن تكون نموذجاً للثورة الخالدة في حياة الشعوب وفي سجلات التاريخ ولكنها انحرفت عن مسارها .. نعم انحرفت عن مسارها بقدر الفارق ما بين مبادئها الستة وما بين الستة أيام مدة حرب وهزيمة يونيو 1967 ..
لذلك انتهت الثورة إلى كابوس مروع نتيجته الهزيمة في كل شيء وانتهاء كل شيء ولم يبقى بيد المصريين إلا الضحك الساخر كمضاد حيوي يبقي المصري على قيد المقاومة حتى لا تفترسه مخالب الهزيمة النفسية المروعة .. وفي انتظار أن ينفض هذا الشعب عن نفسه ركام الإحباط ليستعيد دورة الحياة ثانية فهو شعب لا ينتهي بهذه السهولة ..
التعليقات (0)