الإسلام المعاصر و خطاب التعبئة السياسية
كنت قلت في مقال سابق : إن كل خطاب بشري ينطوي في داخله على إرادة القوة لأنه يهدف إلى إقناع الآخرين به ، أي بمعناه . ولا ينجو من ذلك خطابي هذا الذي أكتبه هنا ، على الرغم من أنني أحاول احترام الحقيقة والتوصل إلى الموضوعية . ولكني بمجرد أن أدخل عالم الفكر والكتابة فإني أنافس الآخرين بالضرورة . إني أتعدى على منطقة المعنى التي يحتلونها قبلي ، وبالتالي فسوف ينزعجون . وقلت ايضا كلما كان فكري قويا وقادرا على احتلال مساحة واسعة من منطقة المعنى كلما، كان رد فعلهم عنيفا لأنهم يخافون على مواقعهم وامتيازاتهم . لهذا السبب تحصل حرب الخطابات أو حرب التيارات الفكرية بين بعضها البعض .
لماذا أقول ذلك ؟
إن التحليل التفكيكي للمصطلحات الشائعة يظهر لنا شيئا آخر غير معروف كثيرا من قبل المثقفين . إنه شيء يخص الحقيقة في تلك العلاقة الثلاثية المترابطة : العنف ، التقديس ، الحقيقة . ما هي الحقيقة ؟ بالنسبة للرأي الشائع ، الحقيقة هي الشعور بالتطابق التام بين القول / والفعل ، أو بين العبارة المقولة / والشيء الخارجي المحسوس الذي تشير إليه ، أو بشكل عام بين اللغة العادية / والتجربة أو المعرفة العملية التي يشكلها كل شخص عن الواقع . ونلاحظ أن الأديان والأنظمة الميتافيزيقية المثالية التي تعاقبت على تاريخ البشرية كانت تصور هذه الحقيقة وكأنها أزلية ، فريدة من نوعها ، مقدسة ، متعالية ، نهائية ، إلهية . هكذا صوروا لنا الحقيقة وهكذا طبعوها في أذهاننا ورسخوها بصفتها مطلقة . ولكن المفكر النقدي يرى الحقيقة بشكل مختلف . إن الحقيقة بالنسبة له هي مجموع آثار المعنى التي يسمح بها لكل ذات فردية أو جماعية نظام الدلالات الإيجابية المستخدمة في لغته . إنها مجمل التصورات المختزنة من قبل التراث الحي للجماعة القبلية ، أو للطائفة الدينية ، أو للأمة . فكل أمة أو طائفة تعتبر تراثها بمثابة الحقيقة المطلقة . إن الحقيقة ليست جوهرا أو شيئا معطى بشكل جاهز ونهائي ، وإنما هي تركيب أو أثر ناتج عن تركيب لفظي أو معنوي قد ينهار لاحقا لكي يحل محله تركيب جديد ، أي حقيقة جديدة . فالحقائق تنهار وتموت بحسب التصور الابستمولوجي الحديث ، وليست أبدية أو خالدة كما كان يتصور اللاهوت القديم أو الميتافيزيقا المثالية . هكذا نجد أننا مدعوون لتغيير تصورنا التقليدي عن مفهوم الحقيقة ، وهذا ليس بالأمر اليسير لأن هذا التصور التقليدي مرسخ في أذهاننا منذ الطفولة .
إن هذين التحديدين ، التقليدي والحديث لمفهوم الحقيقة ، يقيمان حدا عقليا فاصلا بين موقفين للعقل : موقف ميتافيزيقي كلاسيكي ، وموقف ابستمولوجي حديث . أما الأول فطالما وصف من قبل مؤرخي الفلسفة . وهو لا يزال يقاوم صعود الموقف الابستمولوجي الجديد الذي تفرضه الآن العلوم البيولوجية والمعلوماتية والاجتماعية . كل العلم الحديث ينحو الآن باتجاه تشكيل مفهوم جديد للعقل والحقيقة . بعضهم أصبح يدعوه بعقل ما بعد الحداثة ، أي الذي يتجاوز عقل الحداثة لأنه أكبر منه وأكثر اتساعا ورحابة . ولكني أحب تسميته بالعقل الذي هو في طور الانبثاق والتشكل . كان ميشيل فوكو وغيره قد أثبتوا أن الكثير من جوانب عقل التنوير قد أصبحت قديمة وبالية ، ولذلك نقدوها تحت اسم " الموضوعاتية التاريخية – المتعالية " بمعنى أن عقل التنوير على الرغم من التحرير الكبير الذي أنجزه بالقياس إلى العقل اللاهوتي المسيحي إلا أنه ظل بشكل ما أسير النظرة المتعالية التي انتقدها . إنه لم يستطع التحرر منها كليا ، ولهذا السبب دعيت إشكاليته بالتاريخية والمتعالية في آن معا .نحن نعلم أن اليهود والمسيحيين والمسلمين قد عاشوا طيلة العصور الوسطى داخل فضاء عقلي يدعى الآن بالفضاء العقلي القروسطي كما وصفه احد الباحثين المعاصرين الذي أخذت الحداثة تتجاوزه أو تقطع معه بدءا من القرن السابع عشر أو حتى السادس عشر ( في أوروبا ) . فقد استمدوا من ميتافيزيقيا أرسطو وفيزيقاه ومنطقه وبلاغته عددا كبيرا من الأدوات المفهومية والتحديات القسرية أو الإيجابية من أجل أن يبلوروا اللاهوت اليهودي ، فاللاهوت المسيحي ،. وعلى الشاكلة نفسها نلاحظ أن بعضهم اليوم يقوم بترقيع معرفي إذا جاز التعبير ، أي لملمة من هنا وهناك . فهم يستمدون موضوعاتهم وإشكالياتهم ومنهجياتهم ومرجعياتهم لا على التعيين . إنهم يستمدونها من أنظمة الفكر الخاضعة للعقل اللاهوتي ، أو لعقل التنوير ، أو للعقل الذي في طور التشكل والانبثاق الآن (ما بعد الحداثة ) . هذه الطريقة التلفيقية أو الترقيعية في الكتابة والفكر تثير الدهشة والاستغراب حقا . فمثلا نلاحظ أن بعضهم يحاول أن يجد في النصوص الدينية التاسيسية ( كالتوراة ، والإنجيل ، والقرآن ) ، أو في تفاسيرها الأكثر رسمية وترسيخا للأفكار أو التعاليم التي تستبق على حقوق الإنسان ، والعدالة الاجتماعية ، والديمقراطية ، والكرامة الإنسانية … الخ . وهكذا يقول اليهودي بأن كل هذه الأفكار التي أنتجتها الحداثة كانت موجودة في كتابه منذ زمن طويل ، وبالتالي فلا شيء جديد تحت الشمس . لا يمكن أن يطرأ أي شيء جديد بعد التوراة . كذلك يفعل المسيحي والمسلم . ولكن هذا إلغاء للتاريخية : تاريخية العقل وتاريخية الفكر . فالتاريخ يعلمنا أن النظام الفكري للحداثة غير النظام للعصور الوسطى . ولكن المؤمن التقليدي المنغمس كليا في يقينياته لا يستطيع أن يرى ذلك . إنه يلغي التاريخ : أي يلغي إمكانية حصول أشياء جديدة في التاريخ …
هذا يعني بالطبع أن بذور العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية لم تكن موجودة في النصوص التأسيسية للأديان التوحيدية الثلاثة ، ولكنها كانت متصورة من خلال العلاقة الأساسية مع حقوق الله . لم يكن الإنسان قد استقل بعد أو حظي باستقلاليته الذاتية . هذا شيء لم يحصل إلا بعد عصر التنوير في أوروبا . عندئذ وثق الإنسان بنفسه إلى درجة أنه أصبح مقتنعا بأن عقله وحده يستطيع تسيير الأمور . وقل الأمر نفسه عن الديمقراطية . ولكن هناك فرقا كبيرا بين الديمقراطية بالمعنى الحديث للكلمة وبين الشورى . فالشورى محصورة بالفئة العليا من كبار المسلمين ، في حين أن الديمقراطية تشمل جميع البشر في المجتمع دون استثناء وبغض النظر عن اديانهم ومذاهبهم وأعراقهم وقبائلهم وعشائرهم .
وقل الأمر ذاته عن حقوق الإنسان . فقد كان يستحيل التفكير فيها ضمن الإطار العقلي القديم ، إلا من خلال علاقتها – أو خضوعها – لحقوق الله . وبالتالي فلا ينبغي إسقاط المفاهيم الحديثة على العصور القديمة كما يفعل التقليديون والأيديولوجيون . ينبغي التمييز بين العصور وبين إمكانيات العصور . فما كان مستحيلا التفكير فيه في العصور القديمة أصبح ممكنا التفكير فيه في عصور الحداثة ، وما كان مستحيلا التفكير في عصور الحداثة قد يصبح ممكنا التفكير فيه في عصر ما بعد الحداثة على حد تعبير كرامشي …
ولكن ما علاقة كل ذلك بالإسلام المعاصر ؟ وأين هي همومه من هموم الحداثة وما بعد الحداثة والمناقشات الصاخبة الدائرة عنها في أكثر البيئات الأوروبية والأمريكية ؟ ولماذا كل هذا الاستطراد الطويل العريض ؟
الإسلام المعاصر وهمومه وقضاياه واقع تحت تأثير إعصار الانفتاح الكاسح مثله مثل غيره . صحيح أنه يتشدد ويتمحور حاليا حول الحركات الأصولية وذلك من خلال طقوسه الشعائرية التي تجذب عددا كبيرا جدا من المؤمنين ؛ صحيح أنه قادر على تعبئة جيش كبير من المناضلين والأنصار المستعدين لكل التضحيات ؛ صحيح أنه يلفت انتباه كل الاستراتيجيين السياسيين على المستوى الدولي .. وهؤلاء محاطون بالمستشارين والخبراء من كل الأصناف والأنواع ، فمنهم اللبيب الحاذق ، ومنهم الدجال الذي يريد أن يجد له موقعا في السلطة . ولكن ينبغي القول أيضا بأن الاختبار التاريخي أو المحنة التاريخية التي يخوضها الإسلام كدين قد خلقت حالة لا مرجوع عنها . وهذه الحالة الجديدة تؤثر في كل الأديان غير الإسلام . وفيما وراء الأديان تؤثر في شروط إنتاج المعنى وكيفية انتشاره واستهلاكه من قبل المجتمعات.
التعليقات (0)