الفصل الثاني
خصائص الفن الهائم
بينا حتى الآن كيف كان "الفن الهائم " وليد فلسفات مريضة و تيارات جانحة منحرفة من الفكر و الثقافة الإعتقاد ، و نظرة خاطئة لحقيقة الألوهية و القدر ، و قد انعكس كل ذلك على مختلف الفنون و أصبحت جل الإبداعات الفنية لا تعكس إلا الحيرة و التخبط ، و الهروب من المواقف الجادة ، و الإنسلاخ عن الدين الحق و معطياته ، و الإغراق في اليأس و القنوط ، و النزوع إلى الهدم و التحلل . و لقد عانى المجتمع الإسلامي منذ عهد النبوة من مثل هذا الفن الهائم على وجهه ، و الضائع في متاهات التاريخ و الذي تخطى حرمات العقيدة و العقل ، و حمل صورا و مواقف و قضايا معادية للإسلام ، كالشعر الذي هجا به الشعراء المشركون رسول الله صلى الله عليه و سلم و الصحابة الكرام ، و تبذلوا فيه حتى ولغوا في أعراضهم و سخروا فيه من المفهومات الإسلامية ، و كالشعر و النثر الذين يدعوان إلى الرذيلة أو إلى قضية يحاربها الإسلام ، أو يسوغان محرما . و قد واجه المسلمون هذا التيار ، فأهدر الرسول صلى الله عليه و سلم دماء الشعراء الذين نالوا من مبادئ الإسلام و من أعراض المسلمين ، و أمر صلى الله عليه و سلم بقتل عدد من الشعراء المشركين و اليهود ممن آذوا المسلمين بشعرهم منهم على سبيل المثال : أبو عفك أحد بني عمرو بن عوف ، و عبد الله بن خطل القرشي ، و مقيس بن صبابة الكناني ، و أبو عزة الجمحي ، و عصماء بنت مروان ، و كعب بن الأشرف ، و أبو رافع سلام بن أبي الحقيق . و هناك شعراء لم ينفذ فيهم القتل لهروبهم أو توبتهم و دخولهم في الإسلام ، مثل هبيرة بن أبي وهب ، و الحارث بن هشام (" أنظر سيرة بن هشام 5/636، و الطبري 3/59"). و سار الخلفاء الراشدون على نهج النبوة فراقبوا إلتزام الشعراء بالإطار الخلقي الإسلامي و عاقبوا الشعراء الخارجين عليه كالحطيئة و ضابئ البرجمي و الأحوص ... و كانت هذه المواقف درسا من دروس التوجيه و شكلا من أشكال معالجة العلاقة السلبية بين الأدب و الإسلام .كما ظهرت تجاوزات في العصور التالية تخطت جدران العقيدة ، كالغزل بالغلمان و التعهر و الدعوة إلى معاقرة الخمرة و التغني بها ، و إعلان الإيمان بالحلول و التناسخ و الإلحاد ، و العبث بالقيم الإسلامية على سبيل الدعابة أو المجون ... و غير ذلك من التجاوزات الكبيرة و الصغيرة ، فعارضتها السلطات الرسمية ، و عوقب أصحابها بالسجن أو القتل ، كما حدث لبشار و الحلاج . و قد تطورت هذه الحالات الشاذة في الأدب العربي و الإسلامي في العصر الحديث ، و شهد تغيرات هائلة دفعت جله إلى جزر نائية حتى غدا هذا الفن غريبا عن فن الإسلام ، دخيلا عليه ، و صرنا لا نرى في إنتاج أدباء هذه الأيام العجاف ، إلا الحيرة و التخبط ، و سكب الدموع و تصعيد الآهات ، و السخط على الحياة و الأحياء ، و التنكر للقيم الرفيعة و المبادئ السامية ، و الإنسلاخ عن الدين و أهدافه ، و الإغراق في اليأس و القنوط ... !؟ و لعل أبرز ما يميز هؤلاء الأدباء ميلهم الشديد إلى تصوير الآلام النفسية ، و الإنتكاسات العاطفية ، و هم مغرمون بتصوير الأحزان و العذاب و الهجر ... إن مثل هذا الأدب لا يستطيع أن ينهض بأمة، أو يبني قوة قادرة أو يشكل من المستقبل جنة وارفة الظلال، تفوح بالحب و الأمل و العمل البناء ، لأنه لا يقوم برموزه و دلالاته على أسس سليمة من الواقع التاريخي أو التجريبي . كما أصبح الحزن غاية في حد ذاته ، لأنهم يرسمون لوحات تطفح باليأس و الألم و قسوة الحياة ، و يعكس إيقاعها الناقم المتشائم رؤية نفس مدمرة ساخطة ، و ينظرون إلى الناس نظرة فيها الكثير من المقت و الإنكار و النقمة .
و لا شك أن مثل هذا الأدب يصدر عن نفس حائرة مضطربة بلا عقيدة ، أو بعقيدة قد اهتزت أمامها السبل فتركت صاحبها بلا يقين و لذلك جاء إفرازها أيضا حائرا مضطربا ، و ضالا عن هداية الله ، لا يرى اتساقا في الكون و إنما عبثا ، و لا ينتظر أملا بل يلف روحه التشاؤم ، و لا يرى لوجوده ووجود البشرية غاية ، ما دامت علة الوجود عن نفسه غائبة ، فكل إناء بما فيه يرشح و من فارقه الإيمان و جافاه اليقين فقد تلازمه الحيرة و يغلب على سلوكه العبث و سيبقى أبدا كما كان "سيزيف" في الأسطورة اليونانية ، حاملا صخرته صاعدا بها ، فساقطة منه ، و بينما هو يواصل الحمل و الصعود ، يظل قانون العبث ، و اللامنطق و العشوائية و اللاجدوى يحكم العالم .! و قديما تصور عمر الخيام الكون كتابا لا ينفذ العلم البشري إلى واحد من سطوره ، و غيبا مجهولا يطرقه الإنسان دون جدوى ، فجاء شعره موغلا في الضياع و العبث و السلبية ، و انغمس حتى الأذقان في اللذة بأشكالها و صنوفها جميعا أملا في التخفيف من الألم و التساؤل و الحيرة ؟! و صور لنا الناقد الألماني "هيلموت أوليج " واقع الأديب العالمي "هنري ميلر" فقال : " إن عالمه يقوم على ازدراء العمل و تعاطي الشراب كمخدر و الإتصال الجنسي ، و أن هذا العالم عنده هو العلة الغائية للوجود ، و الإباحية هي منوال الحياة ، وهو يعتمد على كل المثيرات العنيفة "-"( معنى الواقعية ص 54") ﴿ ﴾ و منذ ديوانه الأول راح صلاح عبد الصبور ﴿ ﴾" (عنوان الديوان : الناس في بلادي ") يصرخ في قصائده أن الحياة عبث ، و أن الناموس الذي يسيرها خطأ، و أن فيها انحرافا صميما يعجز الإنسان عن إصلاحه ، و أن الموت نهاية غير عادلة للحياة ، و أن القدر ظلم محض ...!و عبرت قصائد بدر شاكر السياب كلها تقريبا عن صيحات الإنكار و الحيرة و التخبط في دياجير الظلام !؟أما الموضوعات المطروقة في القصة العربية فتدور جلها حول " الحب "أو " الخيانة الزوجية " ، أو الحديث عن حياة البغايا و الراقصات ... و تغرق أحداث القصة بتفصيل حالات الإنحراف و السقوط ، و تصويرها في صورة لذيذة ، تحمل بذور الشر التي تنمو و تطغى على المقاصد النبيلة التي يمكن أن توجد في القصة ، و توحي القصة لكل زوجة ينحرف قلبها قليلا عن زوجها أن تسارع إلى عشيق ، و تسمي ارتباطها بعشيقها هذا رباطا مقدسا !!؟ بينما يسمى ارتباطها بزوجها عقد بيع الجسد ! و قد بذل كتاب القصة و لا يزالون جهودا منظمة لإنشاء موازين و قيم و تصورات غريبة عن مجتمعنا العربي الإسلامي . و سعوا جاهدين إلى إطلاق الغرائز من كل عقال إخلاقي ، قصد انطلاق السعار الجنسي المحموم بلا حواجز .. باسم الحرية، وهي عندهم لا تعني سوى الشهوة و النزوة. يقول فؤاد دوارة في نقده لقصة " لا أنام " لإحسان عبد القدوس : " لا أعرف قيمة فنية واحدة يمكن أن تدفع الكاتب الروائي إلى أن يملأ روايته بكل هذه التفصيلات الدقيقة عن أفضل السبل لخداع الأهل و ممارسة الرذيلة في أمن و دعة"﴿ ﴾ " - في الرواية المصرية ص 136 .".أعتقد أن أدب الإنحلال و العبودية الذي يبشر به هؤلاء الكتاب/ "الأدباء" لا يمكن أن يجد صدى لدى الناس و يروج بينهم إلا حين تفرغ الشعوب من القدرة على الكفاح في سبيل مثل أرفع من شهوة الجسد ، لأنه كلما غابت الفكرة ، يعلو الصنم ، صنم البطن و الجنس و عبادة الذات ، و تتقلص اهتمامات الإنسان و فعاليته الإجتماعية ، فيصبح المأكل و الملبس و الزينة المبالغ فيها و الجنس المحموم و تزجية الوقت في اللهو و العبث شغل الإنسان الشاغل ، و بذلك يفقد الفن أي تأثير في البناء و يصبح أداة هدم ، يبث في أعماق النفس اليأس و الخراب و الإستسلام للواقع المرير و لشهوات النفس الأمارة بالسوء بطبعها . و حينئذ يأتي دور الكتاب الذين تخصصوا في إعطاء الشعوب جرعة من الوهم و الخيال للتعويض عن الواقع ،و ذلك بسرد القصص الخيالية الكاذبة التي تعطي الوهم بدلا من إعطاء الحقيقة ، و استعارة الرموز التي تتنافى مع عقائدنا و ثوابتنا و بصائرنا القرآنية لإفساد الذوق السليم و التصور الراقي و التمكين للفردية و الأنانية و الرفض المطلق لكل ماهو غيبي ، و نسخ الكثير من المثل العليا ، و القيم السامقة التي بشرت بها كل رسالات الأنبياء عليهم السلام .
إن هذا الفهم الخاطئ للفن عموما و دوره في واقع الحياة هو الذي مهد لولادة شعر غامض لا طعم له و لا رائحة بل و يتربص التعقيد بالقصيدة من مطلعها إلى آخرها ، و هذا الغموض و التعقيد ، يقف في وجهك شاهرا سيفه و لا يتيح لك فرصة ولوج عالم الشعر – إن كان هناك عالم أصلا – و أصبح "الشعراء " في هذا الزمن الأغبر يستعذبون حشد كم هائل من المصطلحات و الألفاظ التي تستعصي على الفهم بالنسبة للقراء ، و في غالب الأحيان بالنسبة "للشاعر" نفسه . و هكذا أصبح الغموض و الإبهام و الرمز الغريب من سمات الشعر الحديث ، واختلط الشعر بالنثر ، و الغامض بالمفهوم ، و السهل بالصعب واعتقد بعضهم - أمثال أدونيس – أن الغموض هو القوة المحفزة على ولوج عالم الشاعر ، و أن الوضوح يسلب في كثير من الأحيان تلك المتعة التي يحققها الغموض !؟ إن أمثال هؤلاء " الشعراء " قد برهنوا في الحقيقة على الإفلاس الإبداعي الصحيح ، لأن الغموض لن يمكنهم من الوصول إلى عقول الناس و وجداناتهم ، و الشعر الذي لا يحدث تأثيرا في عقل الإنسان و وجدانه ليس بشعر. و سنسوق هنا اعتراف أحد هؤلاء " الشعراء " بتفاهة ما يكتبه بعض زملائه ، يقول أدونيس : " في الشعر الجديد اختلاط و فوضى و غرور تافه و شبه أمية ، و من الشعراء الجدد من يجهل حتى أبسط ما يتطلب الشعر من إدراك لأسرار اللغة و السيطرة عليها و من لا يعرف من فن الشعر غير ترتيب التفاعيل في سياق ما ، إن الشعر الجديد مليء بالحواة و المهرجين "!
بالإضافة إلى كل ما سبق ذكره ظهرت فئة مرتزقة من الأدباء و الفنانين حادت بالفن عن رسالته السامية في الحياة و قد و صفهم أحد الشعراء خير وصف حين قال :
وهم الجمع ثوب أو رغيف و صك من رصيد أو حوالــه
و ألقاب يتيه بها قرود و ليس لها معان أو دلالــــه
فخامته هزيل ليس يدري بأن الناس قد فضحوا هزاله
و هذه الفئة تتعلق بالأشكال و الأمجاد الزائفة ، وهي في سعي دائب لتحضى بلقب " المفكر " أو " المثقف " أو" أستاذ الجيل" إلى غير ذلك من الألقاب التي يحن إليها ضعاف العقول ، و تصل السفالة بهؤلاء إلى قلب حقائق الأشياء وسط عالم مليء بالضجيج و الخداع ، و يصير الفن أداة هدم وآلة تشويه للحياة ، و لن يكون هذا الفن إلا فنا ميتا لا يتعدى تأثيره حدود زمانه و مكانه لأنه فن طبول دعاية و نفاق و تملق و تزييف و تدليس . و قد يمدح اليوم ما كان هجاه بالأمس ، و قد يهجو غدا ما كان قد مدحه اليوم . و هكذا هم في كل واد يهيمون ، و يقولون ما لا يفعلون ... حتى بدا لقائل : أن وطنه قد ولد من رحم طبلة و أن الناس قد صاروا يتنفسون من زكرة !؟
الفصل الثالث
الفن الإسلامي وشروط الإبداع
يقصد بالفن: "التعبير عن الحال بمختلف الأساليب والأدوات من أدب إلى رسم إلى شعر.. إلى غير ذلك من أساليب التعبير، والفنان إنسان يعبر عن الإحساس الداخلي الذي يحس وينفعل ويتأثر به، فيعبر عن ذلك بصورة من صور الفن التي يجيدها، والفنان الحق هو الذي يختار من الأفكار والأحاسيس التي يجد فيها مظهرا لجمال ظاهر أو خفي، أي يختار ما يوجد التأثر والإنفعال،وتكون الألفاظ والتراكيب التي تؤدي هذه الأفكار والأحاسيس على وجه يثير القراء ويثير السامعين، فيهز مشاعرهم، ويبعث فيهم ما يقتضيه هذا الانفعال من غبطة ورضا، أو سخط وغضب.
كما أن الفنان الحقيقي هو الذي يمثل بفنه مثله العليا ومفاهيمه عن الكون والإنسان والحياة..!؟ وينظر دائما إلى عالمه بالمقارنة مع مثله وقيمه ومبادئه، وكذلك الأديب الحق، والشاعر المقتدر هو الذي يبلغ أهدافه ولا يضيق ذرعا بقيود اللغة السليمة والتراكيب الجميلة المعبرة عن أن تصير وعاء يستوعب أفكاره ومشاعره التي يحسها داخل نفسه، فيساهم بقسطه من أجل رفع الحياة البشرية وترقيتها، ويسعى إلى تحريك النفس لتنفعل بالحياة في أعماقها وتتجاوب تجاوبا حيا مع الأشياء والأحياء ، يقول الجرجاني: « إن من كمال الجمال البلاغي أن تكون مادته الخير والفضيلة ». أجل، فليس الأدب سوى رسالة سامية تنير سبيل الحياة الطيبة التي بشر الله بها عباده المؤمنين بروبيته، وتعرف الناس كيف يهتدون إلى منابع السعادة والمعرفة فيها.. وهل الأديب سوى مبدع يحمل بيده مشعل الحب والحرية المسئولة والتسامح، ويبحث بكل ما في ضميره من شوق وشغف وما في نفسه من نشاط وإخلاص عن مصدر السعادة والمعرفة في الحياة ليهدي إليهما نفوس البشر الحائرة، ويزيل عن وجه الحياة قشور الكآبة والجفاف، ويكلله بنور الغبطة والإنتعاش ؟! نقول هذا القول ونحن ننظر بعين الحسرة والألم لما آل إليه الأدب الآن في مختلف البلاد العربية والإسلامية، إن قصارى جهود الكثيرين من «الأدباء والشعراء» التحدث عن التجارب الخاصة والمفاهيم المنحرفة عن هداية الله، واغلبها يدخل في نطاق المرأة، كما أصبح الأدب يعطي صورة منقبضة متشائمة للحياة طافحة باليأس والألم وقسوة الحياة ، لأنه أدب صادر عن نفس حائرة مضطربة قد اهتزت أمامها السبل، فلا ترى اتساقا في الكون، وإنما عبثا، ولا تنتظر أملا، بل يلفها التشاؤم، إنها إفرازات العبث والعدمية والتّنكر لروبية الله ووحدانيته و يأس من روح الله، وكم نحن بحاجة إلى أدب متفائل يحمل الحب والأمل والدعوة إلى العمل بمقتضى التنزيل الحكيم.
لقد مثل الفن بأشكاله المختلفة عبر الأحقاب التاريخية المختلفة مرآة الأمم ونبضات قلبها وعصارة فكرها وحقيقة وجدانها ومختلف تصوراتها عن الكون والإنسان والحياة، وهذا يجعلنا بحاجة أكيدة إلى تحديد إطار واضح، ومفهوم محدد للفن الإسلامي الذي ننشده، ليكون فنا متميزا واضحا، يعبر عن التصور الإسلامي والحضاري لأمتنا الإسلامية..، حتى نستطيع تقديم هذا المفهوم للناس إزاء المفاهيم الأخرى للفن الهائم على وجهه والسائر في ظلمات بعضها فوق بعض والمتخبط على وجهه في متاهات الحياة ودروبها المدلهمة، فلا يكفي أبدا أن ننادي بفن إسلامي بديل وننشد الإهتمام به، دون تحديد لمفهومه ومعالمه وتصوراته، إن الفن الذي ننشده هو كل فن جميل مؤثر ازدهر في ظل قيمنا ومعاييرنا الإسلامية وثوابتنا الحضارية المستنبطة من القرآن وارتوى بروائها وتغذى من نبعها واعتمد معاييرها، وأشرق على الدنيا داعيا إلى قيم المحبة في الله والخير والجمال والحق والعدل بين الناس، وانتصر للقضايا العادلة وحارب الباطل بمختلف تشكلاته .. بعزة وثقة تامة وإقدام وبأسلوب واضح ولغة عربية فصيحة يفهمها كل الناس. فالفن الذي ننشده هو نقيض الفن الهائم والضائع الذي يتبنى الزيف منهجا للحياة مزركشا بالأكاذيب والمساحيق المضللة عن الحق والعدل، إنا نطمح إلى فن إسلامي نظيف يحارب الغموض والعبث، ويشجب الحيرة والإضطراب والتناقض ونشر الفساد في الأرض، ونندد بكل فن يعمل على إيجاد الصراعات والإحن بين الناس، أو يكرس واقع التخلف والتوحش وحياة الأنعام و عبادة الأشخاص، أو يشكك في شيء أصيل وجميل في ألذات البشرية و فطرتها التي فطرها الله عليها. إن المبدع الفرقاني هو إنسان خير بطبعه، ولديه مجموعة من الثوابت الإلاهية والقيم السامية تدفعه لأن يعمل ويبحث في موضوع ما، ومن أهم القيم التي يمتلكها المبدع المسلم هي الإصلاح والبحث عن الأصالة والصدق والأمانة، وكل الموضوعات التي يعالجها تصطبغ بالقيم الإنسانية الرفيعة التي يؤمن بها ويجسدها في حياته... على عكس الفنان الهائم الضال عن هداية الله الذي يقول ما لا يفعل ويظهر غير ما يبطن ويعيش حياة ضنكا بسبب إعراضه عن الحق و تبنيه للباطل.! وهكذا يصبح الفن وسيلة للبناء والتشييد، والسمو والتقدم، وحافزا للرّوح، ومشكلا للفكر والوجدان والمفاهيم المتطابقة مع الحق والعدل، وباعثا للحيوية والقوة الإيجابية في حركة الحياة الشاملة، وممهدا لطريق السعادة والنقاء والحياة الطيبة المطمئنة، وحارسا لهوية أمّتنا الإسلامية...!
إن الفن الإسلامي فسيح الرقعة، واسع الأرجاء، لأن كل فن سار في فلك القيم الإنسانية النبيلة التي لا تمجها النفس السوية صراحة أو ضمنا كان فنا إسلاميا، وكل فن عالج قضايا وأفكارا بتصور إنساني راق واصطبغ بالمفاهيم الإسلامية الواردة في كتاب الله فهو الفن الإسلامي الذي ننشده لبناء حضارة إسلامية جديدة ومتقدمة عن أية حضارة إنسانية لا ترتكز على المفاهيم القرآنية في بناء المجتمع . وكل عمل يبث الخير في نفوس شبابنا وأطفالنا والأسرة بشكل عام هو عمل إبداعي وحضاري و إنساني يؤجر عليه الإنسان و يمكث في الأرض، وأي عمل فني ينفع الناس ليس فيه فساد ولا إفساد متعمد، وإنما فيه خير نبثه في نفوس شبابنا وأطفالنا وعقولهم ليساعد على خلق جيل يحمل الخير في نفسه، فهو عمل نباركه، والفن إن لم يكن : خادما للمجتمع، مدافعا عن ثقافة الأمة ومفاهيمها السوية وأسلوب عيشها المميز في الحياة ومدافعا عن تطلعات الناس وطموحاتهم وحقهم في الحياة الكريمة وفق المنهج الإسلامي الذي ارتضوه لحياتهم، وتبصيرهم بالواقع، والصدق مع النفس، والتجاوب العاطفي الوجداني مع المشكلات الحياتية النابعة من ممارسات الواقع، ساعيا إلى تغيير البنية المادية والنفسية لأفراد الأمة، فاعلا بنجاعة في تطور المجتمع ومساهما في أداء الناس لمسؤولياتهم، رافضا لكل أنواع القهر والإستبداد والإستغلال و الإستفراد بالسلطة، قائدا للأمة إلى أهدافها الرئيسية في الحياة.. فليس بفن. إن أولى مهمات الفنان المؤمن هو مواجهة أوضاع التخلف والظلم والإستبداد والتسلط والطغيان و تعريتها أمام الوعي الجمعي و الدعوة إلى تغييرها إلى الأفضل والأمثل والتخلص من قيود المرض والجهل والتمييز الطبقي والطائفي، والتفتح على القيم الإنسانية النبيلة في العالم والإرتفاع بمستوى المجتمع والأمة لتتناسب أوضاعها مع مبادئها الحضارية والإسلامية التي تحفزها لبلوغ ما وراء العرش تطورا وتقدما وازدهارا، والنفاذ من أقطار السماوات والأرض...!
إن هذه المهمات التي ندعو لأن يبشر بها الفنان الفرقاني المسلم في أدبه ومسرحه ورسومه ومختلف الأشكال الفنية التي يحسنها، هي التي ستجعله فنا متميزا جديرا بنيل احترام الناس بوصفه يتبنى قضاياهم ويعالج مشاكلهم ويساعدهم على تبين طريق الحق والسعادة والفلاح.
لقد قام الفن الإسلامي منذ بدايات الدعوة الإسلامية بمهمات جليلة في التمكين لقيم الإسلام ومبادئه السمحة و معاييره الإنسانية، وظهرت آثار التصور الإسلامي في المدينة المنورة، ونجحت التجربة الإسلامية نجاحا باهرا حين قدمت لنا وللعالم كله روائع الشعر الإسلامي القديم، ولقد عبر الشعر – ديوان العرب الأول – عن أدق خواطر الإنسان المسلم ومشاعره، وأزماته وهمومه، وحيرته وقلقه، وسخطه وتمرده، وموقفه من الحب والغربة والموت، وتأملاته في الكون والطبيعة، وتعاطفه مع الحيوان، ورثائه للطيور الصادحة، وحنينه إلى الأوطان، وتمجيده للقيم النبيلة، وتصويره للبطولات الملحمية...، إلى غير ذلك من التجارب الشعرية الرائعة. كما استخدم الأدب كوسيلة في تهذيب الأخلاق وتربية الضمير وهداية العقول إلى الحق والخير وفي هذا يقول حسان بن ثابت:
إذا الشعر لم ينشر مكارم قومه فلا حمدت منه المكارم مشهدا
ويقول زهير بن أبي سلمى:
وإن أحسن شيء أنت قائله بيت يقال إ ذا أنشدته صدقا
فالحضارة الإسلامية لم تفصل في يوم من الأيام بين النواحي الجمالية في الفن والمضامين الراقية التي ترتفع بفكر الناس وأذواقهم وتجلب لهم الفائدة و المغنم في حياتهم وتخضع لهم الدنيا ذليلة لأنهم عرفوا حقيقتها من خلال الحكم والأمثال والقصص التي تبثها مختلف الفنون في نفوسهم، يقول عبد القاهر الجرجاني في (أسرار البلاغة ج 2 ص 133): « المقصد الأسنى للشعر هو تنمية الذّوق السّليم بحكمة يقبلها العقل وأدب يحسب به الفضل وموعظة تروض جماع الهوى وتبعث على التقوى وتبين موضع القبح والحسن في الأفعال وتفصل بين المحمود والمذموم من الخصال ».
ويشدو أبو تمام:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
واستمر هذا الفهم الصحيح لمهمات الفن الإسلامي والأدب المصطبغ بالمفاهيم القرآنية .. وأنتج تيارا فنيا مباركا ظل متدفقا في مختلف العصور الإسلامية، حتى أطلت علينا رؤوس الفتن في حياة هذه الأمة بنزعاتها العنصرية، وشعوبيتها وقومياتها الحديثة، وكان السبب الرئيس والمباشر في ذلك فتور المفاهيم الإسلامية و الرابطة الدينية الصحيحة التي كان لها الفضل في عزة المسلمين وقوتهم وازدهارهم. ولا عجب بعد ذلك أن أصبحنا نرى في العصر الحديث أفرادا يحملون القلم ويخطون الكتاب ويدبجون المقال والقصة والقصيدة...، بيد أنهم منفصلين عن كيان الأمة الإسلامية وضميرها و متصادمين مع معاييرها القرآنية!!
لقد شهد النصف الثاني من القرن الماضي تحركا إنسانيا ملحا في سبيل البحث عن ألذات، وتحديد الهوية البشرية الحقة، ونفض الغبار المتراكم على الأذهان والقلوب بعد أن شعر الفرد بالتمزق والضياع، واختنق العالم كله فكريا وروحيا بمنطق العصر الآلي الصناعي ،بل وأصبح الناس يوصفون بالرجال الجوف، ويشبهون بتماثيل مليئة بالقش تصيح قائلة:
نحن الرّجال الجوف حشينا بالقش ." (- نقلا عن كتاب « اليوت» للدكتور فائق متى ص155")
وفي ظلّ هذا الواقع الجديد الذي صار إليه الإنسان بسبب بعده عن هداية السماء يبقى: (العامل الإلاهي وحده، هو الذي يستطيع أن ينتصر على العزلة، وأن يجعل الإنسان مدركا للشعور بالألفة والصلة ومتوخيا غاية جديرة بوجوده (-" نيكولاي برديائف : العزلة والمجتمع ص121 – ترجمة فؤاد كامل – مكتبة النهضة المصرية – القاهرة 1960،" ) لذلك ينبغي أن يكون التصور الإسلامي هو الذخيرة التي يستمد منها الفن الفرقاني موضوعاته ومجالاته، ثم تعمل البراعة الفنية عملها، فتخرج من تلك المفاهيم في شتى مجالاتها فنونا جميلة رائعة، بمقدار ما تطيق الفهم والتلقي والإكتشاف، وبمقدار ما تتفتح بصيرتها لارتباطات الكون والحياة والوجود، فالكون خلقه الله من عدم، وكل شيء فيه موجه بقدرته وعنايته سبحانه وتعالى، وهو في حركيته يخضع لقانون أزلي واحد ويتجسد فيه التكامل والتعاضد وتحدث فيه جملة من التطورات التي لا تصطدم مع المشيئة الإلاهية، وقد كرم الله الإنسان وجعله خليفة في الأرض ليقيم العدل اعتمادا على الميزان – ميزان القرآن – وهو مسئول على عمارة الأرض وإنشاء الحضارة، والبشر كلهم من آدم وآدم أصل خلقته من تراب وأحب البشر إلى الله انفعهم للناس إذا ما قصدوا بأعمالهم التقرب إلى الله ، وما الشريعة إلا وسيلة ليعرف الناس دورهم في الحياة ولكي لا يتيهوا عن طريق الحق والرشاد. فالفن الفرقاني هو الذي سيبشر بالرؤية الشاملة للإسلام التي تملأ فراغ النفس والحياة، وتستوعب الطاقة البشرية في الشعور والعمل، وفي الوجدان والحركة، فلا تبقي فيها فراغا للقلق والحيرة، ولا للتأمل الضائع الذي لا يحقق سوى التسيب والعبث.
إن الفنان الفرقاني مطالب بالبحث عن الحقائق الوجودية وأن يعيها جيدا، ويحاول الغوص وراء أسرارها ورموزها، ويبحث عن النماذج الإنسانية والتحركات الجماعية التي تؤكدها وتبلورها، حتى ينطلق في مسيرته نحو الخير والكمال والجمال. فهو اقدر الناس على نفع المجتمع الإنساني والسير به في الطريق الصحيحة لتحقيق المطامح الإنسانية المشروعة في هذه الحياة، لأن منهاج حياته منضبط بالصدق والتعاون مع الآخرين، وبواجبات كثيرة ومتنوعة نحو نفسه ونحو الآخرين، وكذلك نحو المجتمع الذي يعيش فيه، ويحيى على أمل أنه «لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» وهو قوي أمام إغراءات الحياة المختلفة، فلا يقع في الحرام، أو ينزلق إلى الرذيلة، ولا يحني رأسه أمام الفساد والظلم وشراء الذمم، رافعا راية العدل والقوة والمحبة والوئام لإخراج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
إنه من الخطورة بمكان أن يقتنع بعض المبدعين في ديارنا الإسلامية بتفوق الثقافة الغربية على ثقافتنا الإسلامية فيلجئون تبعا لهذه القناعة إلى اتخاذ الغرب قدوة ومثالا، ويستبطنون مدارسه الإبداعية المختلفة، ومفاهيمه عن الحياة يقيسون بها إبداعاتنا ونتاجاتنا الفنية..، إن مثل هذا العمل يسقطهم أولا وأخرا في التقليد الذي يتنافى تماما مع العملية الإبداعية، لأن التقليد يمثل العدو الأول للإبداع، كما أن استحضار مفاهيم الغرب في كل خطواتنا واعتباره سباقا في كل المجالات الحياتية يضعف من همتنا، ويميت تحفزنا للإبداع واختراق الآفاق، لأن المرء إذا ما أدرك أن هناك من سبقه إلى درب من دروب الحياة واعتقد بعدم إمكانية الإتيان بشيء جديد، يفتر عزمه، ويتلاشى حزمه في تقديم التضحيات الكافية لبلوغ ذلك الدرب المقصود، على عكس ما إذا كان سباقا لاكتشاف جواهر مطمورة، ولآلئ مكنوزة، وتحف لم تر العين مثلها من قبل، فان نفسه تكون في توق، وقلبه في شوق، لتقديم كل غال ونفيس ليفوز بقصب السبق في الإكتشاف الجديد وبلوغ الهدف المراد ونيل كل عجيب متسام، ولقد أدرك أجدادنا من المسلمين هذا السر في الإبداع فصنعوا المعجزات فكرا واكتشافات، وبهروا نفوسا كرعت من ينابيعهم الثرة وبحارهم العميقة المليئة بكل رائع وجميل ومؤثر عجيب، وانتقلت آدابهم إلى أوروبا عبر الدردنيل والأندلس وصقلية وغيرها...، وعلى ورثة هؤلاء الأفذاذ أن يواصلوا مسيرتهم في البناء والتشييد والإبداع.. ولقد جاء في مادة بدع ما يلي :« بدع، بدعا الشيء: اخترعه وصنعه لا على مثال، والبدع المحدث الجديد، والبدعة ما أحدث على غير مثال سابق» ﴿". منجد الطلاب ص24 – 25") والفن إبداع لأنه يبدع ما هو جديد، ويجعله يظهر للوجود فجأة، كأن المرء يراه لأول وهلة، ولا بد من الإشارة إلى أن الفنان لا يقوم بخلق العمل الفني، لأن الخلق هو عملية الإيجاد من العدم، وإطلاق صفة الخلق على عمل الفنان يعتبر تجاوزا لحقيقة العمل الذي يمارسه الفنان. فالله وحده خالق كل شيء في الوجود. إن أقصى ما يستطيعه الفنان هو: تركيب الصور والمفاهيم والمعاني التي خلقها الله، بشكل جميل ملفت للانتباه، ومؤثر، أي بشكل بديع يحسبه الناظر إليه أنه يراه لأول مرة، فالرسام مثلا يختار بعض المشاهد الكونية التي خلقها الله ثم يقوم بتركيبها بصورة جميلة ملفتة للانتباه، وتحدث العجب والدهشة في نفس المشاهد، محاكيا في رسم هذه المشاهد حقيقة المشاهد الكونية المخلوقة، ومصبغا عليها المفاهيم التي توصل إليها خلال مسيرته الوجودية، إن المعاني والمفاهيم هي أيضا قد خلقها الله مع خلق الإنسان، ومهمة الإنسان اكتشافها والبحث عنها في المخلوقات الكونية أوفي الكتب السماوية الصحيحة ، غير المحرفة التي تضمنت تلك المعاني والمفاهيم. إن أقصى ما يمكن إن يطمح إليه الفنان المبدع هو تحقيق السبق في اكتشاف المشاهد والصور والمعاني الراقية الجميلة والجليلة وتركيبها بصورة مؤثرة وممتعة لتقريبها من البشر حتى يتمتعوا بجمالية الصور والمعاني التي من شأنها أن ترقى بأذواقهم وأفكارهم وتسمو بسلوكهم وأخلاقهم . وهذا الفهم لرسالة المبدع / الفنان المسلم يجعلنا نلح على ضرورة توفر المضمون الهادف في كل الأشكال الإبداعية وأن تحتوي نتاجات المبدع على القيم الإسلامية النبيلة والمبادئ السامية من أجل رفع الحياة البشرية وترقيتها إلى مستوى التكريم الإلاهي للإنسان . فالفنان إنسان واع بدوره في الوجود، يسعى بفنه إلى تحريك الحواس المتبلدة لتنفعل بالحياة في أعماقها، وتتجاوب تجاوبا حيا مع الأشياء والأحياء، فقيمة الفن تظهر فيما يقدمه للحياة والناس من خير، وما يبشر به من قيم عليا ومثل سامية وما يدعو إليه من أخوة وتراحم وعدالة ومحبة بين الناس ليتعارفوا ويعيشوا في أمن وسلام، ويدلهم على الطريق ويأخذ بأيديهم إلى العزة والفضيلة، إن الفن موهبة من الله يحدث به صاحبه ثورة فكرية تضرب الأوضاع الفاسدة، وتملأ النفوس تذمرا وتطلعا دائما إلى الأفضل، فهو وسيلة للدفاع عن الحق والإنتصار له وإذاعة الفضيلة ومحاربة الشر في كافة صوره ومقاومة الظلم وأصحابه ومن يمشون في ركابه...!
فأمام الفنان المسلم إذن حقول خصبة للإبداع والعطاء وخاصة في مجال القوة الذاتية التي تحفظ القيم السامية والمبادئ النبيلة في نفوس الشرفاء المؤمنين برسالتهم في الحياة جيلا بعد جيل، ولعل من أعظم الأشياء قيمة « الأمل»، حيث لا تموت الأماني، أو يتطرق اليأس إلى النفوس في أحلك الأوقات وأحرجها، ولا يقع الفنان المؤمن برسالته فريسة الخوف أو الخشية إذا ما قارن قوة أعداء أمته المادية بقوته، المهم أن يمضي قدما في مسيرته الخالدة مهما كانت التضحيات جسيمة :« إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي...» وهذا يجعل مقاييس النصر أو الهزيمة، ومقاييس القوّة والضّعف تختلف وجهة نظر الفنان الفرقاني المسلم إزاءها عن وجهة نظر الآخرين باعتباره يستمد كل مفاهيمه عن الكون والإنسان والحياة من القرآن الكريم. وهكذا يصبح الفن المنشود هو الذي يقوي الذات وينميها ويكملها، فالفن يجب آن يكون إنسانيا يخاطب في الإنسان سموه، ويركز على جانب القدرات الإيجابية فيه، والتي تنسجم مع مهمته فوق الأرض، والتي تحقق مبدأ الإستخلاف، ما دام الإنسان مستخلفا، إنه إضاءات وجدانية، وإشراقات عقلية في الوقت نفسه تستهدف الإنسان كأعظم مشروع يتحقق فيه التصحيح و التغيير.
إن المضامين الهادفة والراقية إذا لم توضع في قوالب جمالية مؤثرة تفقد جزءا من قيمتها ويصبح تأثيرها محدودا، لذلك يصبح من شروط إبداع الفن الفرقاني تهيئة اللقاء بين الجمال والحق، فالجمال حقيقة في هذا الكون الذي أبدعه الله كأحسن ما يكون..! والحق هو ذروة الجمال، من هنا فإنهما يلتقيان في القمة التي تلتقي عندها كل حقائق الوجود، والفن بهذا المعنى هو التعبير الجميل عن حقائق هذا الوجود اعتمادا على مواهب ناضجة، وأسس فنية واضحة، مؤثرة، فالفنان المسلم يجب أن يكون وسيطا بين الوجود والتعبير ويقف في موضع الوفاق والتناغم الذي يحيل كل شيء إلى لحن جميل، وأن يبتعد قدر المستطاع عن عيوب الخطابة والتقريرية، وجمود الشكل، ونثرية العبارة، وبهوت الصورة، بشرط أن لا يطغى الإحساس بالجمال عن الفكرة الملتزمة بقضايا الوجود والحياة والمصطبغة بصبغة الإسلام وثوابته . فلا بد إذن من اتخاذ العدة الفنية التي تستطيع تقديم الفكر النظيف في صورة موحية مؤثرة، وأن يسعى الفنان إلى استغلال الجوانب الفنية والنفسية والتأثيرية في الفن لاجتذاب الفطر السليمة.. وإقناع العقول السوية، والتغلغل إلى أعماق الوجدان الحي، للخروج بالإنسان إلى نطاق الفعل المتبصر، والحركة الواعية، والتغيير الإيجابي، وإيجاد مجتمع الخير والعدل والفضيلة مع الإنتصار على سلبيات الفكر والسلوك.
إن المزاوجة بين الجمال والحق أي المزاوجة بين الشكل والمضمون بصورة مبدعة تتطلب الإقتدار على الضبط، والبراعة في إحسان التحرك وإجادة التصرف في أضيق المساحات والمجالات، وأدق الأطر دون المساس بها، أو خدشها وتشويشها أو المروق منها. والإقتدار على الحركة داخل هذا الإطار الضيق المحدود هو المقياس أو المعيار الذي نفرق به بين الصادق والدعي، وبين الأصيل المتمكن والدخيل المتطفل. فالطفل الذي لم تنم مهاراته، تعطيه الصفحة الكاملة ليرسم فيها شجرة فيحتج بصغر المساحة التي لا تتسع لرسم شجرة، وتعطي عشر معشارها لفنان مقتدر، فيعطيك فيها عالما متكاملا يضج بالحياة، وينضح بالفتنة والجمال...
والفنان المبدع يدرك جيدا أن الفن لا يقوم على تصوير الحياة كما هي، بل لا بد من تدخل الفنان الذي يقوم باختيار أهم العناصر وانتقائها من واقع الحياة ثم يعيد ترتيبها ويخلع عليها من ذاته المسلمة وخياله وتفسيره مم يجعل تلك العناصر عملا فنيا محكما، فيه يمتزج الواقع بالخيال بما لا يشوه ذلك الواقع أو يفقده واقعيته ولبابه، فالفن الفرقاني المنشود لا بد أن يكون مرتبطا بالحقيقة والواقع متميزا بأسلوبه ومضمونه وغايته ويقصد منه أولا وأخرا تحقيق الموعظة الحسنة والعبرة ودفع الناس للتفكير في حكمة الله وربوبيته، وأن يبتعد قدر المستطاع عن الغموض والإبهام، ويحرص على تحقيق الإشباع العقلي والوجداني دون حيرة أو إبهام، حتى يمهد ذلك السبيل لرحلة جديدة من التفكير والتذكر واتخاذ موقف واضح من الوجود.
التعليقات (0)