التفسير اللغوي[1] :-
قال الليث: الشَّريعةُ: مُنحَدَرُ الماءِ وبها سُمِّيَ ما شرَعَ الله للعباد من الصَّوْمِ والصَّلاةِ والحَجِّ والنِّكاحِ وغيرِه وفي المُفردات للرَّاغِبِ، وقال بعضُهم: سُمِّيَت الشَّريعةُ تَشبيهاً بشَريعَةِ الماءِ بحيثُ إنَّ مَنْ شَرَعَ فيها على الحَقيقة المَصدوقَةِ رَوِيَ وتَطَهَّرَ، قال: وأَعني بالرِّيِّ ما قال بعضُ الحُكماءِ: كنتُ أَشرَبُ ولا أَرْوَى فلمّا عرفْتُ اللهَ رَوِيتُ بلا شُرْبٍ. وبالتَّطهير ما قال - عز وجل -: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [سورة الأحزاب: 33].
ومن هذا الارتباط تتحقق المقارنة بين صفات بئر الماء التي ينطبق عليها اسم الشريعة وبين خصائص الشريعة المنزلة من عند الله.
وهذا ما جاء في كتب اللغة نقتصر فيها علي ما جاء في (لسان العرب) لابن منظور و(تاج العروس) للزبيدي.
الشَّريعة: مورد الماء، الذي تَشْرَع فيه الدَّوابُّ وهمُّها طلبها[2].
شَرَعَ الوارِدُ يَشْرَعُ شَرْعًا وشُروعًًا: تناول الماءَ بفِيه.
وشَرَعَتِ الدوابُّ في الماء: أَي دخلت.
ودوابُّ شُروعٌ وشُرَّعٌ: شَرَعَتْ نحو الماء.
والشَّريعةُ، والشِّراعُ، والمَشْرَعةُ: المواضعُ التي يُنْحَدر إِلى الماء منها.
الخصائص المستنبطة من التفسير اللغوي :-
الدوام في الشريعة:-
والعرب لا تسميها شَريعةً حتى يكون الماء عِدًّا، لا انقطاع له، ويكون ظاهرًا مَعِينًا[3].
ودوام الشريعة ينطبق على الشريعة الإسلامية من ناحية النصوص والأحكام بحفظ القرآن.. كما ينطبق من حيث الواقع ببقاء الطائفة القائمة بأمر هذا الدين حتي قيام الساعة.
عن معاوية - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزالُ طائفةٌ من أُمَّتي قائمةً بأمر الله، لا يضُرُّهُم من خذلهُم أو خالفهُم حتَّى يأتي أمرُ اللّه وهُم ظاهرُون على النّاس))[4].
اليسر في الشريعة:-
وشَرَعَ إِبله، وشَرَّعها: أَوْرَدَها شريعةَ الماء فشربت ولم يَسْتَقِ لها.
وفي المثل: "أَهْوَنُ السَّقْيِ التَّشْريعُ"؛ وذلك لأَن مُورِدَ الإِبل إِذا وَرَدَ بها الشريعة لم يَتْعَبْ في إِسْقاءِ الماء لها[5].
فلا تحتاج مع ظهور مائها إِلى نَزْع بالعَلَق من البئر، ولا حَثْيٍ في الحوض. وقد مر تعريف الشريعة بقولهم والعرب لا تسميها شَريعةً حتى يكون الماء عِدًّا، لا انقطاع له، ويكون ظاهرًا مَعِينًا[6]. والمَعْنُ السهل اليسير
وقوله - تعالى -: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) [سورة المؤمنون: 50] قال الفراء: ذاتِ قَرارٍ أَرضٍ منبسطة ومَعِينٍ الماءُ الظاهر الجاري.
ويسر الوصول إلى الشريعة الإسلامية ويسر الالتزام بها من أهم خصائصها.. بدليل قول الله - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 6].
وقوله - عز وجل -: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج: 78].
الدخول في الشريعة:-
وفي الحديث: «فأَشرَعَ ناقتَه» [7] أَي: أَدخَلها في شرِيعةِ الماء، وفي حديث وضوء أبي هريرة الوضوء: «... حتى أَشرَعَ في العضُد»[8] أَي: أَدخَل الماءَ إِليه.
فالالتزام بالشريعة دخولٌ فيها، ومنه الدخول في الإسلام، وفيه قوله - تعالى -: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً) [سورة النصر: 1-2].
والشريعةُ: موضعٌ على شاطئ البحر تَشْرَعُ فيه الدوابُّ[9] ويسعُها، والشريعةُ والشِّرْعةُ: ما سنَّ الله من الدِّين وأَمَر به؛ كالصوم والصلاة والحج والزكاة وسائر أَعمال البرِّ، وأما ما يؤخذ من ارتباط الشريعة «موضع الشرب» بالبحر فهو أن لكل الشرائع أصل واحد، وفيه دلالة على تعدد الشرائع «مواضع الشرب المتعددة» على البحر الواحد، ووحدة مادتها وهو الماء، ومنه تعدد الشرائع مع وحدة الدين وأصله وهو التوحيد؛ كما في قوله - تعالى -: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ) [سورة الجاثية: 18] وقوله - تعالى -: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) [سورة المائدة: 48].
ظهور الشريعة:-
والعرب لا تسميها شَريعةً حتى يكون الماء ظاهرًًا مَعِينًًا.. وفي التنزيل: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً) [سورة الشورى: 13]، قال ابن الأَعرابي: "شَرَعَ أَي: أَظهر"، وقال في قوله: (شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) [سورة الشورى: 21] قال: أَظهَرُوا لهم، والشارعُ: الرَّبّاني، وهو العالم العاملُ المعَلِّم، وشَرَعَ فلان: إِذا أَظْهَرَ الحَقَّ وقمَعَ الباطل[10].
وسُمِّيَت الشَّريعةُ تَشبيهًا بشَريعَةِ الماءِ؛ بحيثُ إنَّ مَنْ شَرَعَ فيها على الحَقيقة المَصدوقَةِ رَوِيَ وتَطَهَّرَ[11].
الشَّريعَةُ: (الظَّاهرُ المُستقيمُ من المَذاهِبِ) كالشِّرْعَةِ بالكسر، وهو مأْخوذٌ من أَقوال ثلاثةٍ:
أَمَّا الظَّاهِرُ: فمِنْ قول ابنِ الأَعرابيِّ: شَرَعَ أَي ظَهَرَ.
وأَمّا المُستقيمُ: فمِن قول محمَّد بنِ يزيدَ في تفسير قوله - تعالى -: (شِرْعَةً ومِنهاجًا) [سورة المائدة: 48]، قال: المِنهاج: الطَّريق المَستقيم.
وأَمّا قوله: من المَذاهبِ: فمِن قول القُتَيْبِيِّ في تفسير قوله - تعالى -: (ثُمَّ جعلناكَ على شريعَةٍ) [سورة الجاثية: 18]، قال: أَي على مِثالٍ ومَذهَبٍ، قال الله - عز وجل -: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنهاجًا)[سورة المائدة: 48] [12].
الغاية في الشريعة:-
وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - «جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَوُجُوهُ بُيُوتِ أَصْحَابِهِ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ»[13] أَي: مَفْتُوحةً إِليه، يقال: شَرَعْتُ البابَ إِلى الطريق؛ أَي: أَنْفَذْتُه إِليه[14].
وكذلك الدارُ الشارِعةُ: التي قد دنت من الطريق وقَرُبَتْ من الناسِ، وهذا كله راجع إِلى شيء واحد.. إِلى القُرْب من الشيء والإِشْرافِ عليه[15].
ليكون معنى شريعة هو النفوذ إلى الغاية والقرب منها والإشراف عليها من غير مانع وهو تفسير القرطبي في قوله - عز وجل -: (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ) [سورة القمر: 5]، يعني القرآن[16]؛ أي: يبلغ غايته ومنتهاه في هداية الخلق.
الاستقامة في الشريعة:-
قوله: «والشِرعة» في القاموس هو بالكسر ويفتح، الجمع: شِرع بالكسر ويفتح.. وجمع الجمع: شراع: الوَتَرُ الرقيقُ، وقيل: هو الوَتَرُ ما دام مَشْدودًا على القَوْس[17].
والوتر المشدود لا يكون إلا مستقيمًا، وفيه قول الله - عز وجل -: (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)[سورة الفاتحة: 6]، وفي تفسير قوله - تعالى -: (شِرْعَةً ومِنهاجًا) [سورة المائدة: 48] هو الطَّريق المَستقيم، ويقول ابْنُ عَبَّاسٍ: (شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [سورة المائدة: 48] سَبِيلًا وَسُنَّةً.
التثبيت في الشريعة:-
وشَرَّعَ فلان الحَبْلَ: أَي أَنْشَطه، وأَدْخَلَ قُطْرَيْه في العُرْوة[18].
(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: 256].
وعن أنس بن مالك: " (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) [سورة البقرة: 256]: القرآن".
الرفع في الشريعة:-
وأَشرَعَ الشيءَ: رَفَعَه جدًّا.
قال - تعالى -: (إِذ تأْتِيهم حِيتانُهم يوم سَبْتِهم شُرَّعاً ويوم لا يَسْبِتُون لا تأْتيهم) [سورة الأعراف: 163] قيل: معناه رافعةٌ رُؤُوسَها وفي حديث أَبي موسى: «بينا نحن نَسِيرُ في البحر، والريحُ طَيِّبةٌ، والشِّراعُ مرفوعٌ» شِراعُ السفينة: ما يرفع فوقها من ثوب لِتَدْخُلَ فيه الريح فيُجْريها، وشَرَّعَ السفينةَ: جعل لها شِراعًا[19].
وتعريف أشرع الشيء بقولهم رفعه جدًّا: ينبهنا إلى لفظ «جدا» وهو الدال على تمام الرفع الذي يعني العلو لأن العلو هو غاية الرفع ومنتهاه، وهو المعنى الذي يدل على خصيصة العلو في الشريعة وهو تفسير قوله - سبحانه -: (وكلمة الله هي العليا) حيث فسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» وحيث فسر الإمام مالك الحديث بقوله: "سبل الله كثيرة، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أولها، وأعظمها دين الاسلام، لا خلاف في هذا"[20].
الكفاية في الشريعة:-
شَرْعُكَ: هذا أَي حَسْبُك، وفي حديث ابن مغفل سأَله غَزْوانُ عما حُرِّمَ من الشَّرابِ فَعَرَّفَه قال: فقلت: «شَرْعي» أَي: حَسْبي.
ويقال للنبْتِ إِذا اعْتَمَّ وشَبِعَتْ منه الإِبلُ: قد أَشرَعَتْ، وهذا نَبْتٌ شُراع.
والكفاية من خصائص الشريعة وفي ذلك قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم".
عن قتادة، قال: قال حذيفة بن اليمان: "اتبعوا، ولا تبتدعوا، فقد كفيتم"[21].
المساواة في الشريعة:-
ونحن في هذا شَرَعٌ سواءٌ وشَرْعٌ واحدٌ: أَي سواءٌ لا يفوقُ بعضُنا بعضًا[22].
وفي الحديث: «أَنتم فيه شَرعٌ سواءٌ» أَي: متساوون لا فَضْل لأَحدِكم فيه على الآخر.
وتفسير الشرع بمعنى المساواة يدل على أن مسمى الشريعة يتضمن وقوف الناس أمامها سواء.
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُسَامَةَ كَلَّمَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي امْرَأَةٍ فَقَالَ: ((إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى الْوَضِيعِ وَيَتْرُكُونَ الشَّرِيفَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَقَطَعْتُ يَدَهَا))[23].
فرائض الشريعة:-
ومن معنى الشريعة يأتي معني فرائض الشريعة؛ فإذا كانت الشريعة هي عين الماء الذي يسقي منها الناس فإن الفريضة هي موضع السقية.
ومنه مَشارِعُ الماء وهي الفُرَضُ التي تَشْرَعُ فيها الواردةُ[24].
وفُرْضةُ النهر: مَشْرَبُ الماء منه، والجمع فُرَضٌ وفِراضٌ.. والفُرْضةُ: المَشْرَعةُ، يقال: سقاها بالفِراضِ؛ أَي: من فُرْضةِ النهر.
والفُرْضة: الثُّلْمة التي تكون في النهر.
والفِراضُ فُوَّهةُ النهر.
ومن مفردات اللغة العربية الدالة على منهجيتها ما سبق قوله في معنى الشريعة.. فإن الشريعة لغة هي مورد الماء الذي يرده الأحياء للشرب.. فيثبت من خلال المعنى التوافق بين الوحي والماء كما يثبت التوافق ضرورة الماء للحياة في قوله - سبحانه -: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) [سورة الأنبياء: 30].
وكذلك ضرورة الوحي للحياة في قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) [سورة الأنفال: 24]، فتأتى كلمة الشريعة بمعنى مورد الماء لتثبت المنهجية المتكاملة لحقائق هذا الدين.
وارتباط معنى الشريعة بالماء يثبت باعتبار الماء مثلا كونيا للوحي كما قال جاء في سورة النحل: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [سورة النحل: 64]، وفي هذه الآية أن الكتاب نزل لتبيين الاختلاف وهدي ورحمة لقوم يؤمنون ثم جاء بعدها: (وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [سورة النحل: 65]، والعلاقة بين الآيتين هي العلاقة بين الهدى وماء السماء، وهي العلاقة الثابتة في نصوص كثيرة، ومنها قول النبي -صلى الله عليه والسلام-: ((إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيب أصاب أرضا؛ فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب والكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به))[25].
والذي يؤكد أن المقصود بالماء التمثيل بالهدى.. هو التعقيب على ظاهرة نزول الماء بقوله - عز وجل -: (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [سورة النحل: 65]، لأن قبول الهدى يكون بالسمع[26].
ولكن الارتباط بين الشريعة والماء لا يقف عند هذا الحد، بل يمتد ليفسر دلالة حوض الكوثر على نهر الكوثر الواصل من الجنة؛ ليتبين لنا اختصاص حوض الكوثر بالالتزام بالشريعة؛ حيث منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -الذي بلغ منه الوحي والشريعة- سيكون فوق حوض الكوثر؛ لتتوافق الشريعة المُبلَّغة من فوق المنبر مع حوض الكوثر.
ودليل ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي))[27].
حيث يوضع منبر الرسول على حوضه في الجنة يوم القيامة، ليصعده ويدعو المسلمين المتبعين له ليشربوا ويرتووا من ماء الحوض، كما كان يدعوهم إلى دين الله في الدنيا.
ومن هنا لن يشرب من هذا الحوض من كان أحدث في أمر الشريعة؛ كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني على الحوض، أنتظر من يرد علي منكم، والله ليقتطعن دوني رجال، فلأقولن: أي رب، مني ومن أمتي! فيقول: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم))[28].
______________
[1]) التفسير اللغوي للكلمات الواردة في هذا البحث مأخوذة من «لسان العرب» لابن منظور وتاج العروس للزبيدي، مادة «شرع».
[2] لسان العرب (8/175)
[3] لسان العرب (2/313).
[3] لسان العرب (8 / 175).
[4] صحيح مسلم (3548).
[5] لسان العرب - (ج 8 / ص 175).
[6] لسان العرب (8 / 175)
[7] صحيح مسلم (5328).
[8] صحيح مسلم (362).
[9] لسان العرب (ج 8 / ص 175).
[10] لسان العرب (8 / 175).
[11] تاج العروس - (ج 1 / ص 5335).
[12] تاج العروس - (ج 1 / ص 5335).
[13] سنن أبي داود (201).
[14] تاج العروس - (ج 1 / ص 5337).
[15] تفسير القرطبي (17/128).
[16] تفسير القرطبي (17 / 128).
[17] لسان العرب - (8 / 175).
[18] لسان العرب (8/175).
[19] لسان العرب (8/175).
[20] تفسير القرطبي (3/336).
[21] تفسير الرازي (1/174)، لمعة الاعتقاد (1/6)، الإبانة الكبرى لابن بطة (1/211).
[22] لسان العرب (8/175).
[23] صحيح البخاري (6289).
[24] لسان العرب (8/175).
[25] البخاري في العلم باب فضل من علم وعلم رقم 2282 في الفضائل من حديث أبي موسى الأشعري.
[26] يراجع الارتباط بين السمع والهدى في القرآن.
[27] مسلم (1391).
[28] مسلم (4246).
التعليقات (0)