خسارة حمدوك لجان المقاومة
مصعب المشرّف
20 أغسطس 2020م
في الذكرى الأولى لتوقيع الوثيقة الدستورية بتاريخ 17 أغسطس 2019م . لم يكن يخطر ببال أكثر المتشائمين أن يرفض رئيس الوزراء حمدوك إستقبال حشود موكب جرد الحساب بنفسه . وذلك على إعتبار أن عناصر هذا الحشد هم اصحاب الثورة والسابقون الأولون، يوم كان رصاص الكيزان الحي يخترق الصدور ويفجّر الرؤوس.
وحتماً لا ينصح ذكي أو عبيط بالتفريط في أمثال هؤلاء وبتجاهلهم. ناهيك عن إستفزازهم وخسارتهم على النحو الذي جرى أمام بوابة رئاسة مجلس الوزراء وتورط به حمدوك يتلك المجّانية.
حمدوك أوّل ما جاءت به قوى الحرية والتغيير لمنصب رئيس وزراء الإنتقالية من محل إقامته في أثيوبيا . كان قد إفتتح خطاب تعيينه بالقول أنه " جاء ليكون رئيس كل السودانيين" ..... ولكن لم يفطن كثيرون إلى عبارته تلك . وضاعت وسط الفرحة والإحتفالات والإبتهاج الذي ساد بتعيين رئيس الوزراء.
كان ينغي أن يلتفت كثيرون إلى أن حمدوك سيختلف لا محالة مع قوى الثورة طالما أنه يرغب في تبني فكرة أنه جاء عازم على وضع أهل ثورة الشعب وفلول النظام البائد في سلة واحدة.. والمساواة بين الجاني والضحية والناهب والمنهوب. والمنتصر والمهزوم.
وقد كان لتمسك حمدوك بفكرته تلك أن لاحظ الجميع مدى التباطوء والتراخي والتردد في أخذ فلول النظام السابق بالحزم والحسم .... وكيف أنه لم يكن يرغب حتى في تغيير وكلاء ومدراء في كافة الوزارات والهيئات الحكومية . وعمل على تفادي ذلك بشتى الأساليب والوسائل. ولولا ضغوط تعرض لها من قيادات الثورة وفي وسائل التواصل والمليونيات ، لما كان قد أصدر أي قرار بإبعاد هذا أو ذاك من بين فلول الكيزان والتمكين.
وربما يتساءل سائل . لماذا تبنى حمدوك هذا النهج في بداياته . ولا يزال يتمسك بحبل منه وميلان إليه حتى تاريخه ؟
الإجابة لا تعدو عن القول بأنه "كده" .... هو كـــده ... طبعه كــده .. مُخه كده ... أسلوب تفكيره كـده.
لقد أتي على حمدوك حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا .... ولم يرفعه إلى مصاف حديث الناس إلا الصدفة التي هي خير من ألف ميعاد ؛ حين "رفض" تعيينه وزيراً للمالية في وزارة معتز موسى في وقت كان كرسي المخلوع من تحته يتراقص ، ونظام المؤتمر الوطني برمّتـِه يترنح.
لقد كان رفض وإعتذار حمدوك قبوله منصب وزير المالية هو الحدث المذهل والسابقة الأولى في تاريخ السودان الحديث . وحتماً سيظل حمدوك يحظى بهذا السبق ويتميز به في صفحات تاريخ البلاد ؛ أكثر بكثير مما سيحفظه له التاريخ كرئيس لوزارة فترة إنتقالية... وحيث لم يسبقه لمثل هذا التفرد سوى المشير سوار الدهب حين أوفى بوعده تسليم السلطة بمحض إرادته للمدنيين.
كذلك توقع الناس في حمدوك أن يأتي للمنصب يحمل عصا موسى ومصباح علاء الدين . لاسيما أنه كان قد أشار في أحاديث له إلى وجود 56 مليار دولار هربها الكيزان خارج السودان من حصائل صادر البترول والذهب والصمغ العربي. وأنه سيعمل على استردادها .
حمدوك ليس سياسي حتى نقول أنه يتعامل وفق رؤى في هذا الجانب ... بل هو ليس بصاحب تجربة وخبرات إدارية عميقة حتى نقول أنه على دراية بمدى الأثر القادم المتوقع من إهانته لموكب جرد الحساب بقيادة لجان المقاومة.....
كان على حمدوك لو كان يتمتع بحس سياسي أن يكون في هذا الوقت بالذات أكثر حرصاً من أي وقت مضى على استقبال موكب جرد الحساب بقيادة لجان المقاومة ومن خلفهم تجمع المهنيين . حتى لا تثور حوله الشبهات من أنه إنما يتماهى ويصلي في محراب قداسة المكوّن العسكري. الذي أغضبه وحزّ في نفسه ما تعرض له رفيق السلاح الفريق الكياشي في الحتانة على يد لجنة المقاومة هناك.
حمدوك ؛ وبعد أن كان يتوقع الشعب منه حلولاً ناجعة . إذا به بعد شهور قليلة من توليه المنصب يعود بحليمة إلى عادتها القديمة بمواصلة إستراتيجية التسوّل واستجداء الهبات والمعونات والقومة للتبرعات . التي ظلت تتبعها حكومات السودان المتعاقبة منذ منتصف عهد جعفر نميري وواصلت العمل بها وزارة د. الجزولي دفع الله ، ثم الصادق المهدي ، والمؤتمر الوطني البائد ... وجاء حمدوك ليكمل الناقصة لا غير . ويمضي على خطى أسلافه ؛ فواصل العمل بها وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا.
.ترحموا على أرواح الشهداء يا سادة واسألوا عودة المفقودين وعلاج الجرحى .
حمدوك قضى واستنفذ معظم حياته العملية في منصب المستشار لدى هيئات دولية وحكومات هو بالنسبة لها ووسطها أجنبي ليس إلاً . وشتّان ما بين خبرة وشخصية المستشار في بلاد الأجانب . وخبرة وشخصية التنفيذي أو المستشار في بلاده.
عاد حمدوك من مهجره مٌصاب بــ "عمى الألوان" . وجلس على منصب تنفيذي رفيع فجأة ؛ دون خبرة وتمرس بالواقع الداخلي وإلتصاق وإكنواء حتى الشواء والحريق بنيران وتمكين الكيزان ..... وعلى نحو جعله لا يفرق بين واجهات طوفان الثورة من جهة وأدبار فلول الكيزان من جهة أخرى. ويظن أن بإمكانه أن يتعامل معهما بنفس الميزان والمثقال.
مهما حاول حمدوك قصارى جهده وأيمانه أن يصم أذنيه عن الحقيقة . فإنه لن ينفك يسمع في كل سكناته وحركاته مقولة أنه "صنيعة ثورة ديسمبر" ... وأنه لولا ساحة الإعتصام التي خرج من رحمها أبطال لجان المقاومة . واهتدت بهديها قوى الحرية والتغيير لما كان قد جاء إلى منصب رئيس الوزراء.
ومن ثم فإن على حمدوك الإعتياد على سماع هذه المقولة حتى لو كانت تدور حول رأسه بإلحاح وزنزنة اليعاسيب.
وحيث لا مفر لحمدوك من الرضاء بها والتماهي معها، بدلاً من محاولة الهروب منها إلى الأمام للتخلص من ما بات يظن أنها منقصة وتقليل من قدره وشأنه . بل على العكس كنا نتوقع أن يكون إختيار قوى الحرية والتغيير له مفخرة ومصدر إعتزاز . فقوى الحرية والتغيير هي التي توافق عليها الشعب من أرض وساحة الاعتصام التي هي وحدها المقدّسة إلى قـيام الساعة.
أداء حمدوك الضعيف لم يعد بحاجة إلى كثرة مقال.
ولكن إرتماء حمدوك في أحضان العسكر والصادق المهدي . وميله بالإنصات إلى مقترحات شيطانية بالذهاب إلى التسوية مع حزب المؤتمر البائد سيعجل بسقوط حكومته ولما تصل بعد إلى منتصف الطريق . ولن يجد حمدوك في مجموعة بيت الحتانة هؤلاء ربٌ يحميه أو جبل بعصمه من الماء.
والمستغرب الذي يدفع للدهشة . هل لم يجد حمدوك من بين مستشاريه العشرة العظماء مستشار رشيد يهديه . ويبين له مدى مغبّة أن يرفض الخروج لمدة لا تستغرق دقائق لاستقبال موكب لجان المقاومة ؟
هل كان لقلة أعداد الموكب مقارنة بالمليونيات السابقة مشجع لحمدوك ومستشارية للإستهانة به؟
ألم يحسب حمدوك حساب أن هرلاء الذين شاركوا في جرد الحساب هم فرسان المعبد والخلاصة... ويسندهم ويأتمر بأمرهم في الأحياء المئات والآلاف؟
والمصيبة أن حمدوك أصلاً في موقف ضعيف . وكان الأجدر به أن يفعل خلاف وعكس ما فعل لتعزيز شعبيته المتآكلة يومياً بإمتياز.
فلماذا والحال كذلك لم يلتفت إلى هذا الواقع فيحسن المعاملة . ويزيد من جرعات المجاملة التي يبذلها كل فاشل لكسب تعاطف الغير؟
ورحم الله المتنبيْ عند قوله:
لا خَـيلَ عِـندكَ تُهديها وَلا مالُ
فَـليُسعدِ النُـطقُ إن لم تُـسعِـدِ الحالُ
تحجج حمدوك بأنه مشغول . ولا يجد متسعا من الوقت لم يكن مقنع . وجاء يمثابة العذر الأقبح من الذنب.
ربما لو كانت لدى حمدوك إنجازات بحجم كبير. لكان الناس قد صدقت أنه مشغول وهي تقتطف وتأكل ثمار نجاحاته وإنجازاته ... ولكن تواضع إنجازاته حتى تاريخه تشير إلى أنه لا يمكن أن يكون مشغولاً إلى هذا الحد الذي يجعله لا يجد وقتاً كافياً للخروج بضع خطوات وإستلام مذكرة . وإلقاء كلمة نمطية سبق وأن قالها أكثر من مرّة في إستقبالات سابقة لمليونات ، وإستلام مذكرات كانت آخرها مليونية 30 يونيو 2020.
إنجازات حمدوك ورئاسة مجلس الوزراء بأكملها خلال العام المنصرم لا ترقى إلى درجة المشغولية. اللهم إلا إذا كان يقصد بهذه "المشغولية" التي إدعاها لنفسه بأنها من قبيل "بالي مشغول يا حبيبي"... ورحم الله العندليب زيدان إبراهيم.
ماذا كان سيضير حمدوك لو أنه خرج (على جري عادته) يستقبل موكب جرد الحساب؟
كنا نتوقع على أقل تقدير أن يتكرر المشهد الكلاسيكي النمطي المعهود الذي يستقبل به حمدوك المواكب والمليونيات يرافقه عمر مانيس ووزير الإعلام وسكرتيرة حسناء خارج بوابة مكتبه.
يخرج حمدوك من "البوّابة" ورفاقه أعلاه ؛ بوجوه ملئها البشر والطهر والنسك ؛ مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم.
يستلم حمدوك بكل الإهتمام والتبجيل والإحترام الورقة أو المظروف الذي يحوي مذكرة المطالب .ثم يُفسح له المجال لإلقاء كلمة. فيبدأ بالترحم على أرواح الشهداء. ويرجو عودة المفقودين وشفاء الجرحى . ويحي الشباب ولجان المقاومة والكنداكات. ويعلن تأييده للمليونية . ويتعهد بتنفيذ كل المطالب من الألف إلى الياء قبل أن يكلف نفسه عناء قراءتها.
يفرح الجمع ، ويهتفون ثم ينفرقون تفيض أعينهم من الدمع فرحاً ورضاء..... ولا يهم بعدها إن كان حمدوك سيعمل بما جاء من مطالب أو يفعل عكسها.... وهو في الغالب ومن التجارب السابقة يفعل عكسها.
وفي نشرة التاسعة مساء يظهر عمر مانيس . فيكرر نفس "الشُغُـل" من الترحم على أرواح الشهداء . ويرجو عودة المفقودين وشفاء الجرحى. ويؤكد أن حمدوك عاكف منذ إستلامه المذكرة على قراءتها تمهيداً للعمل بها . ويختم حديثه للصحفيين بتحية الثوار شباب الثورة ولجان المقاومة والكنداكات..
بعده يظهر وزير الإعلام في مؤتمر صحفي. فيبدأ بالترحم على أرواح الشهداء ويرجو عودة المفقودين وعلاج الحرحى ... ويردد نفس كلام حمدوك ومانيس مجتمعين . ويختم حديثه للصحفيين بتحية الثوار شباب الثورة ولجان المقاومة والكنداكات.
كان إعتذار حمدوك عن الخروج بزعم أنه مشغول يدحض ه أن السودانين أجمع يعلمون منذ فترة بأن هناك مليونية في طريقها إلى رئاسة مجلس الوزراء يوم 17/8/2020م ..... ويزيد على ذلك بأن تاريخ 17/8/ يظل على مدى ثورة ديسمبر الذكرى السنوية لتوقيع الوثيقة الدستورية (على علاتها).
ما من معنى وتفسير لكل ما حدث سوى أن حمدوك إنما كان يرغب في توصيل رسالة بأنه لا يرغب في إستدعاء الوثيقة الدستورية . وحتى لا تفتح الحدبث عن التلكؤ في تشكيل المجلس التشريعي .... المجلس التشريعي الذي على الرغم أنه لا يد لحمدوك في تشكيله إلاً أنّه يزعج الصادق المهدي والعسكر.
ربما لو كان حمدوك لا يزال يقف على أرض صلبة .. ربما خرج واثق الخطوة يمشي ملكاً إلى موكب لجان المقاومة ، ليشرح لهم في حديث مقتضب ماذا يمكن أن يفعل . وما هي حدود إختصاصه .. وماذا يجب أن تفعل قوى الحرية والتغيير .
ولكن:
على قلة خبرة منه بالعمل السياسي والجماهيري . فقد خسر حمدوك شباب الثورة ولجان المقاومة وتجمع المهنيين الشرعي . وعليه أن يتحمل الثمن .. ولعلها تصبح فرصة مواتية له حاضراً ومستقبلاً ، كي يعلم ما لم يكن يعلم.
التعليقات (0)