بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
من الأفكار التي لا تكاد تخلو منها ثقافة في العالم فكرة "العصر الذهبي"، وهو إما عصر شبه مثالي كحياة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وغالبا ينظر لهذه الحقبة كاستثناء يعبر عنه بإطلاق وصف "السلف الصالح" على أهلها، وهي وحدها تستحق النظر إليها هذه النظرة الاستثنائية لأنها بالفعل كذلك. وقد يكون "العصر الذهبي" عهدا مضى كانت فيه أمة في قمة مجدها، كالعصر الذهبي الروماني في معظم الثقافات الأوروبية، وقد يكون هذا العصر زمنا قادما يتصور الناس أنه سيكون عصر وصول أمتهم لقمة صعودها.
والأمم الصاعدة ترى مستقبلها أمامها، وفي لحظات تراجعها ترى عصرها الذهبي خلفها، وبالتالي تهرب إليه في الأزمات، ومن مظاهر هذا الهروب الطفولي للماضي كمخدر رخيص يسكن آلام الهزيمة شيوع تعبير "الزمن الجميل" في الخطابين السياسي والتحليلي للإشارة لفترة حكم عبد الناصر.
وأول خطايا استخدام هذا التعبير شبهة "تقديس" لجمال عبد الناصر، وقد أثير قبل أشهر سجال مهم في جريدة "المصري اليوم" ترتب على الكشف عن مبالغة بعض دراويش الزعيم في وصفه وهو في السلطة لحد رفعه فوق مقام خاتم الأنبياء! (روى السياسي العراقي المعروف حسن العلوي أن صدام حسين كان يرى أنه حقق ما لم يحققه الرسول، وأنه سأله ذات مرة هل هو أقل عظمة من محمد؟)
وشيوع هذا التعبير "الغيبي" في الخطاب العام يحوله ما هو "تحليلي" إلى خطاب "تبشيري"، ويضع زمن القهر والنكسة مكان "السلف الصالح"، في وعي الأجيال الجديدة التي تستمد جانبا كبيرا من معرفتها بالماضي من إعلام موبوء بـ "البكاء على الزمن الجميل". وعندما تسقط أمة في فخ الحنين غير العقلاني لأي فترة أو لأي رمز أو لأي فكرة فإنها تكون في حالة "دروشة وطنية".
ومفاهيم مثل: "الزمن الاستثناء"، و"الرجل الاستثناء"، تعني غياب أي معايير موضوعية للتقييم سواء كان مصدرها الفطرة أو الشرائع الدينية أو العقل أو الخبرة الإنسانية، وفي غياب المعايير ما زال هناك من يحن لعهد السفاح صدام حسين في العراق ويعتبره "الزمن الجميل"، وهناك ألمان يطلقون الوصف نفسه على حقبة المجرم أدولف هتلر، وهناك في روسيا من يعاني الأعراض المرضية نفسها تجاه الاتحاد السوفيتي.
ومن المؤكد أن النظر لحياة الصحابة رضوان الله عليهم بوصفها "العصر الذهبي"، هو نظر مشروع بل صحي، لكن الإسراف في استنساخ الفكرة لإسباغ قداسة على عهود الهزيمة والقهر تخريب متعمد لوعي البسطاء الذين يصدقون الأكذوبة، وبصفة خاصة تحت وطأة العدوان الصهيوني الأسطوري على غزة.
وقد كان ترافق العدوان مع الذكرى التسعين لميلاد "الزعيم الخالد" كما يحلو لدراويش الناصرية وصفه، فرصة للتساؤل: ماذا لو كان عبد الناصر حيا؟ وهم يجيبون عن السؤال ضمنا، معتبرين أنه لو كان حيا لكان فعل كذا وكذا.
لكنهم ينسون أنه كان يعتبر "الإخوان المسلمين" عدوه الأول، وأنه قبل "مبادرة روجرز" في صراعه مع إسرائيل ولم يقبل هدنة في صراعه مع الإخوان، وكما تعامل مع إخوان غزة بعد حادث المنشية 1954 بوصفهم إخوان مسلمين أولا ونكل بهم، لو كان الزعيم "خالد الذكر" حيا كان سيتعامل مع حماس أولا بوصفها خطرا على دولة "تحالف قوى الشعب العاطل" التي شيدها، قبل أن ينظر إليها كحركة مقاومة فلسطينية.
ولو كان حيا لأطلق تحذيرا ناريا – لا لإسرائيل – بل لحركة لحماس لينذرها بأنه يرفض رفضا قاطعا وجود "إمارة دينية" على حدود مصر، وهو ما ردده – حرفيا تقريبا – واحد من أهم خريجي "مدرسة الكادر" التي أنشأها "خالد الذكر"، رغم أنه قَبِل دولة تخوض معركة طويلة لانتزاع الاعتراف بها كـ "دولة يهودية".
ولو كان الزعيم حيا لتعرض لحرج شديد من الأداء الراقي الحكيم للدبلوماسية التركية – وهي بالمناسبة شهادة نجاح كبيرة لإسلاميي تركيا – التي أصبحت أكثر قدرة من كل الأطراف العربية على التأثير في القضية الفلسطينية، بينما الإسلاميون العرب لا يستطيعون الحصول على مشروعية دستورية وقانونية في بلادهم!
ومن الخطر جدا تصور إمكان استنساخ التجارب أو استخراجها من "الفريزر" وإعادة تسخينها، ولو كان عبد الناصر حيا لكان في التسعين من العمر، وكما يقولون: "السن له حكم"!!
وفي الحقيقة فإن النسبة الأكبر من المتباكين على "الزمن الجميل" لا يبكون على حماس إلا بوصفها حركة جماهيرية وفرت وقودا للمعركة، وهكذا كان الزعيم الخالد يرى دور الإسلاميين، أن يكونوا وقودا لمعركته مع "الخارج"، وإذا حاولوا ترجمة وجودهم لتمثيل سياسي أن يصبحوا ضحية لقمع "الداخل"، وهذه القاعدة وضعت في "الزمن الجميل"، ولم تتغير حتى الآن!.
التعليقات (0)