إن زعموا لك شيئًا عن مدلولات الأرقام فلاتصدقها .. نعم لا تصدقها.. وأنصحك ألا تفعل إشفاقاً عليك فأنت تعلم أن أقصر طرق الهروب عدم تصديق ما يحدث حولنا. فنحن أمة هاربة.. هاربة من كل شيء.. من الماضي والحاضر والمستقبل، نعيش مؤقتاً ونخطط لنحيا آنياً، ليس لدينا للمستقبل حسابات.. فهذا كل ما يحتاج إليه الهارب. فهو لا يفكر في غده وينسى أمسه. وانظر حولك ماذا تجد غير آباء يهربون من بيوتهم.. فهم رجال أعمال يحتاجون إلى حضور المعارض الخارجية!، وشباب يهربون من واقعهم الضبابي للاستراحات يدفنون همومهم في الفضائيات «والمعسّل». ومدرس أو مدرسة، موظف أو موظفة حفيت أقدامهم.. يجولون بين المراكز الطبية بحثاً عن تقرير يسوغ لهم الهروب من أعمالهم. ومن لم يستطع الهروب خارج عمله.. هرب إلى إحدى الغرف المعدة سلفاً لتناول الفول والتميس كل يوم مع صحبه. وبعد هذه المقدمة غير الموفقة! أستميحك ـ عزيزي القارئ ـ عذراً في ذكر بعض هذه الأرقام المؤلمة لتتبين حال خير أمة أخرجت للناس. أمة تملك أكثر الثروات وأهم المواقع الجغرافية على هذه الكرة الأرضية، لكنها تعيش على هامش الحياة لا تأثير لها في صنع التاريخ على الأرض... وهي المستخلفة عليها. ولعلي لا أبالغ إذا نصحتك بأخذ مسكّن، فقد تحتاج إليه لما قد يعتريك من آلام وأوجاع بعد قراءتها. ولكي لا أتهم بالافتراء فقد ذكرت مصادر هذه الأرقام وإليك نماذج منها: الاقتصاد: عائدات دول منظمة الأوبك مجتمعة في عام 98م أقل من 3% من الناتج المحلي الأمريكي (مجلة المجلة، العدد 1033). 20% من أبناء الدول المتقدمة يستهلكون 86% من ثروة العالم، و225 فرداً من أبناء العالم المتقدم يملكون ما يساوي ملكية نصف البشرية. و3 أفراد من أمريكا يملكون ما تملكه 48 دولة أعضاء في الأمم المتحدة (جريدة الشرق الأوسط، العدد 7650). اشترت شركة مياكوم «شركة سي بي إس» بمبلغ 36 مليار دولار أي ما يفوق ميزانية أكبر دولة منتجة للبترول في العالم (جريدة الشرق الأوسط، 99/9/10). مع أن العرب يمثلون خمسين ضعف سكان إسرائيل ويعيشون على رقعة تعادل ستمائة ضعف مساحة إسرائيل (مجلة المجلة، العدد 1014) فإنه: - يفوق الناتج المحلي للفرد الإسرائيلي نظيره في البلدان العربية ويزداد هذا التفوق باضطراد.. ففي عام 78م كان ثلاثة أمثال، وفي عام 97م أصبح سبعة أمثال (المصدر السابق). - تمثل إسرائيل 2% من سكان منطقة الشرق الأوسط إلا أن حصة صادراتها في عام 95م بلغت 18% من مجمل صادرات المنطقة (المصدر السابق). - صادرات إسرائيل من المنتجات الإلكترونية بلغت بليون دولار عام 86م ووصلت في 97م إلى ستة بلايين دولار، لا نصيب للبلاد العربية في هذه السوق (المصدر الأول). أوضح تقرير للتنمية البشرية في العالم 99م صادر عن الأمم المتحدة أن الفجوة تتسع بين أغنياء العالم وفقرائه بحيث أن ثمن كمبيوتر يعادل دخل مواطن بنجلاديشي لمدة ثماني سنوات، وهو ما يعادل دخل مواطن أمريكي لشهر واحد (جريدة الشرق الأوسط 99/7/25م). تعمقت الفجوة بين فقراء العالم وأغنيائه حيث ارتفعت إلى نسبة 74% عام 97م مقابل 30% في عام 1960م (جريدة الشرق الأوسط، عدد 7532). ü بالرغم من صغر مساحة إسرائيل وقلة سكانها فقد بلغت موازنتها للعام الماضي 57 مليار دولار أي ما يقرب من ضعف موازنة دولة بترولية كالسعودية. العلم والثقافة: أعلنت منظمة اليونسكو أن متوسط القراءة في العالم العربي 6 دقائق في السنة للفرد، وأنه يصدر كتاب لكل ربع مليون مواطن عربي سنوياً، بينما يصدر كتاب لكل 15 ألف مواطن في العالم المتقدم (مجلة المعرفة العدد 49). تبين أن مجموع ما تستهلكه كل الدول العربية سنوياً من ورق الطباعة أقل من استهلاك دار نشر فرنسية واحدة (المصدر السابق). الأمية في العالم العربي 45% ولا تزيد في إسرائيل على 5% (مجلة المجلة 1014). ما ينفق على الفرد في التعليم في العالم العربي سنوياً 340 دولاراً (1300 في الخليج و200 في باقي الدول) بينما نصيبه في إسرائيل 2500 دولار و6500 دولار من البلدان الصناعية (المصدر السابق). تنفق البلاد العربية على البحوث 0.2% من الناتج المحلي (أي سبع المتوسط العالمي الذي يفترض أن يكون 1.4%) بينما يتجاوز في إسرائيل المتوسط العالمي فيصل إلى 2% أي عشرة أمثال ما ينفق في البلاد العربية (مجلة المجلة، العدد 1014). استطاعت إسرائيل استقطاب 700 ألف مهاجر من الاتحاد السوفيتي منهم 70 ألف مهندس و20 ألف طبيب وممرض وفني و40 ألف من المدرسين.. فكم فقد العالم العربي من العقول المهاجرة خلال هذه الفترة لصعوبة الحياة في البلاد العربية (المصدر السابق). بلغت وصلات الإنترنت في الشرق الأوسط مطلع عام 98م ما يزيد على نصف مليون وصلة نصفها في إسرائيل (المصدر السابق). تتجاوز إسرائيل العالم العربي بسبعين ضعفاً في مجال نشر الإنتاج العلمي (المصدر السابق). سجل الإسرائيليون عام 98م لدى مكتب العلامات التجارية الأمريكي 577 براءة اختراع بينما سجل العرب 24 براءة فقط (المصدر السابق). إجمالاً فإن إسرائيل تتفوق على العرب بمعدل عشرة أضعاف في عدد الأفراد العلميين وأكثر من ثلاثين ضعفاً في الإنفاق على البحث والتطوير، وأكثر من خمسين ضعفاً في وصلات الإنترنت، وأكثر من سبعين ضعفاً في النشر العلمي. وقرابة ألف مرة في براءات الاختراع (المصدر السابق). بلغ عدد المتعلمين في العالم العربي 51% بينما في العالم المتقدم 99%، وبلغ عدد الباحثين في أمريكا 400000 باحث وفي أوروبا 150000 باحث، وفي العالم العربي 8100 باحث (مجلة البيان، العدد 140). تتحكم الدول الصناعية في حوالي 97% من براءات الاختراع في العالم (جريدة الشرق الأوسط، عدد 7532). بلغت نسبة المواقع على شبكة الإنترنت باللغة الإنجليزية 80% بالرغم من أن 10% من سكان العالم فقط يتحدثون الإنجليزية (المصدر السابق). في الأمور العامة: يؤخذ في كل فرد في القوات الأمريكية عينة دم تحفظ للرجوع إليها للتعرف على الجندي في حالة فقده بطريقة يتعذر التعرف عليه من خلالها، وذلك بتحليل الحامض النووي. وقد بلغت العينات المحفوظة 2.75 مليون عينة (National Geographic Magazine Oct-99). ما أغلى الإنسان لديهم!. أوضحت دراسة ميدانية في الكويت على 2000 طالب وطالبة من المدارس الثانوية أن 7.2% من الطلاب و1.3 من الطالبات يتعاطون الحشيش، يلي ذلك حبوب الهلوسة ثم الهيروين (مجلة المعرفة، العدد 49). تشير الإحصاءات الرسمية في المملكة العربية السعودية إلى أنه ينتج عن حوادث السيارات قتيل كل ساعة، وأربعة جرحى أي 8640 قتيلاً و34560 جريحاً معظمهم من شباب المستقبل، وتتجاوز الخسائر جراء ذلك 21.7 مليار ريال سعودي سنوياً أي أكثر من ميزانية الصحة والتعليم (الشرق الأوسط، العدد 7689) وهكذا يفوق جميع المعدلات العالمية. أوضحت إحدى الدراسات أن ما يتساقط من غبار على مدينة الرياض 714 طناً من الغبار، وهذا يفوق ما حددته مصلحة الأرصاد الجوية وهو 108 أطنان للكيلومتر المربع سنوياً. أما الغبار العالق فيزيد على 11 مرة مما حددته المصلحة (جريدة الشرق الأوسط 99/8/8م). تحصل الدول المتقدمة على 78% من الإنتاج العالمي للغذاء مع أنها لا تشكل سوى 15% من سكان العالم (البيان، العدد 141). بلغ عدد أشجار القات المزروعة في اليمن مائتي مليون شجرة قات تحتل 49% من الأرض الزراعية وتستهلك 55% من المياه الجوفية (المصدر السابق). دمرت إسرائيل 1200 مسجد خلال 51 عاماً (المصدر السابق). تكرم أحد «المحسنين» من الشخصيات الهامة في إحدى الدول الخليجية بالتبرع بأرض لإقامة كنيسة عليها في بلاده... وقد توجه وفد برئاسة بطريرك القدس لتقديم الشكر على هذه المكرمة. ومما يذكر أن هذه الدولة قبل الإسلام كانت تحت سيطرة الإمبراطورية الفارسية المجوسية مما قد يعني أن تكون هذه أول مرة تقام فيها كنيسة مسيحية في هذه البلاد! (جريدة الشرق الأوسط، العدد 7649). يقدر عدد الحجاج إلى بيت الله الحرام مليون ونصف إلى مليونين حاج كل سنة. ويقدر عدد السياح في فرنسا 70 مليون سائح سنوياً وفي أسبانيا 60 مليون سنوياً، أي ما يقرب من مليون ونصف سائح كل أسبوع في فرنسا على مدار السنة، ولم نسمع باحتراق خيامهم أو ازدحام الشوارع بهم. داهمت الشرطة الإسرائيلية منزل نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل السابق بناء على معلومة صحفية بأنه تلقى هدية خلال عمله، وقامت الشرطة بتفتيش منزله والتحقيق معه ومع زوجته. لكنه على الجانب الآخر لم يتسع صدر السلطة الفلسطينية لبيان صدر عن عشرين شخصية فلسطينية بعضهم أعضاء في المجلس التشريعي، اتهموا فيه بعض أعضاء السلطة بالفساد، فقامت باعتقالهم بدلاً من التحقيق في ادعائهم! هل أدركت الآن عزيزي القارئ لماذا نصحتك بعدم تصديق هذه الأرقام... أرجو أن تكون قد فعلت.. وإلا فأذن من الله بحموضة في المعدة عالية وارتفاع في الضغط واكتئاب نفسي شديد.. لا ينقذك منها إلا التوجه إلى أحد مراكز وزارة الصحة للمساعدة. لكنك ستفاجأ بأنه ليس لديك ملف ولا يمكن علاجك بدونه، ولكي تفتح ملفاً لابد من إحضار بعض المستندات الهامة!. وعندما تسأل الموظف عن هذه الأوراق الهامة، يسردها عليك بسرعة عجيبة كما يسرد التلميذ ما حفظ عن ظهر قلب.. لا ينسى منها شيئاً ولا يقدم أو يؤخر في ترتيبها.. فهو قد حفظها عن أبيه.. وأبوه عن جده، فهي قديمة قدم العلاج بالكي والتعاويذ. إلا أنه تلطفاً منه بالمرضى أدخل عليها بعض اللحن ليجعلها خفيفة الوقع على أذن السامع. فهو يسردها منغمة كالتالي: لابد من إحضار دفتر العائلة، وصورة صك البيت أو عقد الإيجار، وفاتورة التليفون والكهرباء.. وعندها ترجو الله أن يتوقف، لا فض فوه، ولا يطلب شهادة حسن سيرة وسلوك، فأنت قد تكون أعزب غير متزوج.. والأعزب كما تعلم متهم في بلادنا حتى تثبت براءته. ولأن هذه المستندات ليست في حوزتك.. ويحتاج جمعها إلى أيام.. ومعدتك تؤرقك وارتفاع الضغط يستبد بك، تتوجه إلى أقرب مركز طبي خاص، وعندها ستجد حسن الاستقبال والابتسامات المشرقة على بعض الثغور الجميلة ذوات الصدور «الواسعة». ومع أنه مثبَّت على هذا المركز لوحة إعلانية كبيرة كتب عليها «علاج الحساسية وأمراض الذكورة» بخط واضح لا تخطئه العين إلا أنهم لا يجدون حرجاً من علاج معدتك وضغطك المرتفع.. فلكل داء لديهم دواء. وتنتهي أوراقك بسرعة عجيبة وأنت في ذهول من هول المفارقة، فأنت لم تفارق البلاد.. وما يفصل هذا المركز وسابقه سوى خطوات قليلة. وتحت تأثير تلك الابتسامات المشرقة، تمتد يدك إلى محفظتك وتفرغها بلا وعي.. ثم يصحبك من يمشي «الهوينى» إلى الطبيب الذي يخترق رأسك بخبرته ليضعك في الخانة المناسبة من الزبائن، ليبدأ ما لا تحتاج إليه من تحاليل وأشعة وفحوصات أخرى.. ثم يكتب لك وصفة طويلة يمهرها بتوقيعه «العجيب»، مقسماً بأغلظ الأيمان بأنه لابد أن يرى الأدوية بعد شرائها من الصيدلية الواقعة أسفل المبنى لكي «لا يغشونك» حفاظاً على مصلحتك! وعندما تعود للاستقبال لتصفية حسابك.. لا تجد في المحفظة شيئاً.. فتبحث في أوراقك علك تجد بطاقة الشبكة السعودية فتدفع بالتي هي أحسن. لكنك بعد ذلك تكتشف أن العملية قد أحدثت حفرة كبيرة في ميزانية الشهر كله.. وأنت مازلت في أوله فماذا تفعل. وسرعان ما تجد الحل لدى شركة التقسيط القريبة منك فهي «الجفرة» بلغة العصر الحاضر (ومن لا يعرف الجفرة عليه أن يسأل أباه). فهذه الشركة تقوم بدور «التيس» المحلل كما جاء في الحديث الشريف. فتذهب إليها لتشتري سيارة بثمن مرتفع لتبيعها بثمن بخس لردم تلك «الجفرة» في ميزانيتك التي أحدثها ذلك المركز الطبي بابتسامات العاملين فيه. وخلال انتظارك لإنهاء إجراءات التقسيط بسرعة تشعر بأن حموضة المعدة قد زادت وأن ارتفاع الضغط قد وصل إلى حد الانفجار، وأنه قد زاد عليها مغص معوي.. وتحتار هل هذا المغص مقدمه لما ستعانيه من جوع في الأيام التالية سوف تتعود عليه، أم أنه مرحلة عابرة ستقصها مستقبلاً على أولادك قبل نومهم إن شاء الله. وكأي فرد في عالم ما كان يسمى بالعالم الثالث، والذي لا نعرف ماذا أصبح يسمى اليوم، فإن عليك أن تظل كما أنت قابعاً في ركن قصي ترقب العالم.. عالم لا تشارك في صنعه، مكتفياً بالتغني بأمجاد غابرة، هيهات يرجعها إليك تندم، أو الاحتساب والتفضل علينا جميعاً بالبكاء كالنساء على «حضارة» لم نحافظ عليها كالرجال.
التعليقات (0)