مواضيع اليوم

خبله

محمد الغامدي

2009-01-28 12:39:49

0

 

في بحث مارسيل بروست عن الزمن المفقود تظهر العيارة التالية: " وعلي أن أفكر في كوني قد ضيعت أفضل سنوات حياتي من أجل امرأة لم تكن من شاكلتي" .. اكتافيو باث وأنا أقرأ كتابه ( اللهب المزدوج) أعادني إلى يروست الذي قرأته في زمن مفقود، زمن كنت ألتهم الكتب دون أن يشعر بي أحد، فكل أقراني لم يكونوا يمتلكون من حس القراءة سوى ما تعلق بالمدرسة، إلى أن سكنت أنا وأحد الأقران في الجامعة، لم يكن مقرباً مني في مرحلة الثانوية، وبعدها بدأنا شعلة النشاط الذهني، وبدأت الأسئلة تزداد لينتج الحوار فيما بيني وبينه تقارباً ذهنياً، على الرغم من ميولي نحو الشعر والروايات وميوله هو نحو اللغة والنقد.

وموضوعي ليس هذا بل هو يتعلق بالتعلق أو بالحب، وكوننا نضيع أوقاتنا فيما لا فائدة منه في النهاية، وليست قراءتي هذه على طريقة باث، لأنه متجه في لهبه نحو فلسفة الحب بقرائن مستمدة من شخصيات روائية بدءاً من العصر اليوناني إلى العصر الحديث.

وكنت انتظر ( الخبل ) الذي يمكنه أن يذهب هذا المذهب ولكنني وجدت خبلين بدلاً عن واحد حين نبهني أحد الأصدقاء ذات سهرة عاطفية ـ افهم يا ايراهيم ـ كانت فيها خيول الشعر تركض وكأن امرؤ القيس يقف على رأس ذلك الصاحب ويصرخ فيه " مكر مفر مقبل مدبر معاً" ، نبهني ذلك الصاحب إلى قصيدة لعابرة سبيل ـ رحمها الله ـ  وهي تصرخ في صاحبها، وهي تلمح له بكل الوسائل، ولكن يا غافل لك الله..

تقول الخبلة:

لي صاحب منه تبي تطلع الروح
            خبل ومن هي مولعه فيه .. خبله

عامين المح له مع الجد ومزوح
                وأقول يا عنتر تناديــــك عبله

طال المدى ثم قلت اغليك " يالوح "
              مجروحة جرح مخاطره عجله

دنّق وقال أنا من العام مجروح
           وأشــر لجرح مبطي وسط رجله

يقول رامبو " لقد رأيت أحياناً ما توهم الإنسان أنه رآه" وهو يعطينا الإيحاء في جملة ظنية. التعلق وهم، وكأن الجرح وهم أيضاً، سواء كان في الرجل ـ بالكسر ـ أو في القلب، وهو ما اتضح في الصورة الشعرية التي أمامنا، لكن عندما استحضر التراجيديا الإغريقية أجد أن بعضها يذهب إلى التمايز الطبقي فهذا ابن أسرة كريمة يعشق جارية أو من طبقة أقل لنجد أن هذه المحبوبة في النهاية هي ابنة أحد السادة حيث تم اختطافها وهي صغيرة ليعيدها هذا الحب إلى حالتها الطبيعية.. وكأن التراجيديا هنا تريد أن تقول لنا لا يمكن أن يتم الهيام بين اثنين إلا إن كانا متماثلين في كل شيء.

ومع هذه الخبلة لم يكن هناك تماثل ففكر هذه الشاعرة أعلى من فكر هذا الرجل البسيط الذي لا يعرف من الجروح سوى ما يراه .. هذا الإنسان البسيط لا يرقى إلى مستوى الحب القائم على الروح، قد تتمكن الصورة هنا من التواصل مع بعضها البعض لو كان التلميح بالرغبة والرغبة مرتبطة بالجسد ومن هنا قد يفهم هذا الخبل المقصود، وهي صورة لا ترتضيها هذه الأبيات الساخرة، التي تمتلك رؤية نحو الحب تقوم على فلسفة الأشياء بطهر ونقاء لا تهدف من وراءها إلى السعي نحو اللذة بقدر ما تريد تقديم نوع من الفلسفة الجمالية في هذه السخرية التي تحيل فيها هذا الحب من شيء يحس ويشعر ـ عنتر  ـ  إلى مادي ـ لوح ـ لترتبط الحالة ما بين هذا الحس عبر جرح القلب وما بين المادة عبر جرح القدم الظاهر.

 

سخرية الشاعرة قامت على واقعية تسيطر على المجتمع، حيث أن المحبة من طرف واحد تكون قائمة طوال سنوات ليعود الإنسان ويقول مثلما قال ( سوان ) مارسيل بروست بأنه ضيع عمره في سراب، لتبرز رؤية أخرى  قد تكون ما ورائية لهذه الأبيات تتضمن هذه الرؤية الحساسية المفرطة تجاه المرأة من قبل المجتمع، وتصل هذه النظرة إلى حد الدونية التي تعيشها أمام الرجل.. وعلى الرغم من قوة الشعر الذي ساوى المرأة بالرجل إلا أن بلادة النظرة جعلت من هذا اللوح يبقى لوحاً ينظر من الأعلى وهو واقف إلى الأسفل عبر جرح مزمن في أسفل القدم، وكأنه يقول إن جرحك الذي في قلبك يذهب نحو أسفل القدم فأصبحت خبلة مثله.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( خبل ) تعني بليد أو غبي

( دنق ) بالشد تعني انخفض أو أرخى رأسه وهو جالس ووجهه إلى الأسفل والسياق يفسرها.





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !