إدارة تفتيش وزارة الداخلية حققت خلال عام 2009 والشهور الأربعة الأولى من العام الجاري في عدد كبير جدا من قضايا الرشوة والإختلاس التي إرتكبها ضباط شرطة تابعين للوزارة، مما يصعد بالأمر إلى حد الظاهرة، وبحسب رأي خبراء الأمن وعلم الإجتماع والطب النفسي فإن هذه الظاهرة تعد كارثة بكل المقاييس ويجب التصدي لها لأنها سوف تؤدي إلى أنهيار المجتمع بالكامل وتحويله إلى غابة يسيطر فيه من يملك المال، مما دفع إدارة التفتيش بوزارة الداخلية إلى إعداد مذكرة مطولة حول إنحرافات وجرائم الضباط خلال العام الماضي والشهور الأولى من العام الجاري لعرضها على اللواء حبيب العادلي وزير الداخلية للبت فيها والتوجيه باللازم.
اخر هذه القضايا وأشهرها تم تفجيرها يوم الأحد 18 إبريل الجاري وتحقق فيها إدارة التفتيش وهي القضية المتورط فيها ضابط شرطة وخمسة آخرين من العاملين بالقسم قاموا بتهريب متهمين صادر ضدهم أحكام قضائية حتى 2017، كما قام الضابط المتهم بإتلاف بعض الأوراق التي تثبت صدور أحكام قضائية ضد التاجر والمقاول بأن حرقها بالنيران، وتبين انه تلقى رشاوى مادية وعينية وصلت إلى 24 ألف جنيه ووعد بامتلاك محل وسيارة، كما بينت التحقيقات أن الضابط المتهم سرق مفاتيح الحجز من زملائه في قسم العمرانية، واخرج المتهم الثاني من الحجز وسلمه جهاز تلفزيون ليحمله وهو خارج من القسم على ان يقول للحراس أنه كهربائي وسيصلح الجهاز لأحد الضابط.
في الوقت نفسه تحقق إدارة التفتيش بالوزارة في قضية آخرى متهم فيها مدير الشئون المالية – قريب مدير أمن المنوفية - ومدير التوريدات بمديرية أمن المنوفية بآختلاس مبلغ 150 ألف جنيه، وجاري حصر باقي المبالغ التي بحوزتهم، كما تم نقل مدير المهمات السابق والمشرف على مخابز الأمن بعد ثبوت تورطه بآختلاس حوالي 60 ألف جنيه وذلك بعد رد المبالغ التي إختلسها.
وفي شهر يناير الماضي حققت إدارة التفتيش بالوزارة في واقعة إختلاس أخرى تمت بمديرية أمن الإسكندرية وخلصت التحقيقات إلى إدانة ضابط كبير بالمديرية وتم نقله إلى محافظة آخرى بعد رد المبالغ المختلسة.
وفي مايو الماضي حققت وزارة الداخلية مع أربعة من ضباطها المكلفين بالعمل على اكمنة امنية فى مدينة رفح خاصة بالحد من التهريب وذلك بعد ثبوت اتهامات لهم بتلقى رشاوى تزيد على مائة الف جنية من قبل مهربين بضائع لقطاع غزة عبر الانفاق، وقد توصلت مديرة امن شمال سيناء الى كشف حقيقة تلقى الضباط الاربعه للرشاوى عبر رسائل مصورة عبر هواتف محمولة من قبل مهربين منحوهم الرشاوى وانتشارها بين الاهالى
يقول اللواء نبيل أبوغنيمة نائب مدير أمن السويس السابق أن مثل هذه الحوادث موجودة منذ سنوات طويلة وعلى مر تاريخ وزارة الداخلية، لكنها حوادث فردية وتتم على فترات بعيدة جدا، فالشرطة مثلها مثل أي قطاع وظيفي بالدولة، فيه الشريف وفيه المرتشي أو ضعيف النفس، لكن تحول الأمر إلى ظاهرة أمرا خطيرا، وقد يؤدي إلى إنهيار مؤسسة الشرطة بالكامل، وبالتالي سوف تعم الفوضى وسوف ينهار الأمن مما يؤدي إلى إنهيار المجتمع بالكامل، ولا ننكر أبدا أن هناك عدد كبير جدا من أمناء الشرطة والجنود خاصة في الإدارات الشرطية التي تتعامل مع الجمهور يطلبون رشوة من الجمهور مقابل إنهاء تعاملات مع الجهات الشرطية المختلفة.
ويضيف أبو غنيمة أن الحل الوحيد للقضاء على هذه الظاهرة هو زيادة رواتب الأفراد والضباط بنسبة 100% على الأقل، فلا يعقل أن يكون راتب الفرد من جندي وحتى أمين الشرطة لا يتعدى 700 جنيه، وبعضهم يصل راتبه إلى 300 جنيه فقط شامل البدلات والحوافز، بعدها يصبح منطقي جدا أن يتم تغليظ عقوبة الرشوة بالنسبة لفرد الشرطة بحيث تصل للفصل من العمل أو الإيقاف لفترة محددة، وليس الخصم من الراتب فقط كما ينص القانون الحالي للشرطة.
ويشير الدكتور منير عبد الصبور أستاذ الطب النفسي إلى أن الرشوة عموما باتت سلوكا طبيعيا وعاديا وأصبح التعامل بها شيئ منطقي وطبيعي بل وأساسي، ولكي يقنع الموظف المرتشي نفسة بأن تلقيه لرشوة شرط إنجاز العمل المواطنين أطلق عليها أسماء أخرى مثل " الحلاوة أو الشاي أو إكرامية"، اما بالنسبة لجهاز الشرطة تحديدا فالأمر يدعمة شعور الفرد بأنه محمي ومسنود لكونة سلطة، مما يدفعة لطلب الرشوة بقلب "جامد" بل ويفرضها على جمهور المواطنين كانها قانون، معللا لنفسه ذلك بأنه يتعب من أجل هؤلاء المواطنين ويسهر والناس نيام من أجل أمانهم وفي المقابل الدولة لا تمنحه حقة وتعطيه "ملاليم" مقابل هذا العمل الشاق وبالتالي فإن تلقي أمولا من المواطنين على سبيل الرشوة امرا منطقيا بالنسبة له.
ويري عبد الصبور أن الحل للقضاء على هذه الظاهرة هي زيادة رواتب الجنود والآفراد والضباط وبعد أن يضمن جهاز الشرطة أن أفراده قد شعروا بالشبع أو تحقق لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة يتم بعدها عقد ندوات بصفة دورية لتوضيح أخطار الرشوة والعقوبات الجنائية المترتبة عليها خاصة لو تم تغليظ العقوبة لتصل إلى الفصل من الخدمة، بالإضافة إلى اللعب على الواعز الديني داخل كل فرد من خلال نفس الندوات وعرض رأي الدين في الرشوة وعواقب ذلك عند الله والخسارة في الدنيا التي تلحق بالموظف المرتشي بعد تقاضيه الرشوة وآثرها على بيته وأولادة.
ويؤكد الدكتور خيري عامر أستاذ أمراض المجتمع أن تفشي ظاهرة الرشوة داخل جهاز الشرطة أمر خطير جدا، وسوف يؤدي إلى فقد المواطن لثقته في جهاز الشرطة وأفراده وبالتالي سوف يتلاشى أي تعامل مع هذا الجهاز بالكامل وأيضا النظرة السلبية للمواطن تجاة الشرطة أدت إلى تحول المجتمع إلى غابة بسبب لجوء المواطنين إلى العنف أو الإعتماد على البلطجية لحل الخلافات وتصفية النزاعات بسبب فقدهم للثقة في جهاز الشرطة، وهذا ما يحدث في المجتمع الآن، حيث لجأت كل عائلة إلى تشكيل جناح عسكري بها تمده بالسلاح ليكون هو وسيلة الردع للمعتدين عليهم، وذلك يعود لفقد ثقة المواطنين في الشرطة ومع الوقت سوف تتنامى النظرة السلبية ليتحول جهاز الشرطة إلى عدو في نظر المواطنين، وسوف يتعامل المواطنين مع أفرادة وكأنهم لصوص، وسف يتحول السلاح في يد المواطنين إلى صدور أفراد وضباط الشرطة، لأن اليقين الذي بات ساكنا في قرار أغلب المواطنين هو أن الغني أو من يملك المال يستطيع تسخير القانون كما يشاء، وأيضا يمكنه أن يتحول بالرشوة من جاني إلى مجني عليه.
ويشير عامر إلى الحل للقضاء على ظاهرة الرشوة داخل جهاز الشرطة بالتحديد هو تخفيض ميزانية المعدات والأسلحة والمستهلكات التي تلتهم 60% من ميزانية وزارة الداخلية وتحويلها لدعم رواتب الأفراد والضباط، تغليظ عقوبة الرشوة وإصدار اوامر عليا بحسم الأمر والقضاء عليه، لأن القيادة بوزارة الداخلية تركت أفرادها يبتزون المواطنين لتعويض ضعف الرواتب وبدل التنقل والنوبتجيات المتكررة والمتواصلة وهو ما يؤدي بين الحين والآخر إلى تزمر أفراد الشرطة، وهو ما يجعل قيادات الشرطة تغض الطرف عن رشوة الأفراد "الشاوى الصغيرة" والمسماة بالشاي أو الإكرامية، وذلك ظنا منهم أن الأمر سوف ينتهي عند هذا الحد وأن الرشوة الصغيرة لا ضرر منها وتعتبر حلا موضوعيا وسريعا لأزمة ضعف الراتب وزيادة الخدمات، لكن الواقع معاكس تماما لهذه الرؤية، لأن الرشوة تنتقل بين أفراد الجهاز الواحد بالعدوى تماما مثل الأمراض المعدية او الأوبئة، وبعد أن يتفشى الوباء داخل القطاع بالكامل، ينتقل من مرحلة الرشوة الضغيرة إلى مرحلة الإختلاسات والإبتزاز لجني أموال باهظة، وهذا الأمر غالبا ما يرتكبة الضباط لأنهم لا يقبون بالرشاوي الصغيرة "الشاي أو الإكرامية" لأنهم يعتبرونها إنحطاطا لقدرهم، لكنهم يلجاوا إلى الصفقات الكبيرة مثل الإختلاس أو الإبتزاز أو تهريب السجناء أو تخريب الأحراز أو تخريب إجراءات التحقيق لصالح المتهم وذلك بمقابل مادي غالبا ما يكون مقابل كبير.
التعليقات (0)